التدليس كعيب للإرادة
179 – علاقة التدليس بالغلط : التدليس هو إيقاع المتعاقد في غلط يدفعه إلى التعاقد . فالعلاقة إذن وثيقة ما بين التدليس والغلط . والتدليس لا يجعل العقد قابلا للإبطال إلا للغلط الذي يولده في نفس المتعاقد .
والتدليس بهذا التحديد يختلف عن الغش ( fraude ) ، لأن التدليس إنما يكون في أثناء تكوين العقد ، أما الغش فقد يقع بعد تكوين العقد ، أو يقع خارجاً عن دائرة العقد . وكذلك يختلف التدليس المدني ( dol civil ) عن التدليس الجنائي ( dol penal ) وهو النصب ( escroquerie ) بان الطرق الاحتيالية في النصب عنصر مستقل قائم بذاته ، وتكون عادة اشد جسامة من الطرق الاحتالية المستعملة في التدليس المدني كما سنرى ( [1] ) .
ولما كان التدليس يؤدي إلى الغلط ويختلط به كما قدمنا ، فنبدأ بتحديد عناصر التدليس ، ثم نبين أن نظرية الغلط تغني عن نظرية التدليس .
ا – عناصر التدليس
180 – عنصران : تنص المادة 125 من القانون الجديد على أنه ” 1 – يجوز إبطال العقد للتدليس إذا كانت الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين ، أو نائب عنه ، من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم الطرف الثاني العقد . 2 – ويعتبر تدليسا السكوت عمدا عن واقعة أو ملابسة ، إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة ( [2] ) ” . وهذه المادة تقابل المادتين 136 / 196 من القانون القديم اللتين جرتا على الوجه الآتي : ” التدليس موجب لعدم صحة الرضاء إذا كان رضاء أحد المتعاقدين مترتباً على الحيل المستعملة له من المتعاقد الآخر بحيث لولاها لما رضى ” . ولا فرق ما بين القانونين الجديد والقديم إلا في ناحية الصياغة والأسلوب وفي النص صراحة في القانون الجديد على التدليس السلبي .
وتنص المادة 126 من القانون الجديد على أنه ” إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين ، فليس للمتعاقد المدلس عليه أن يطلب أبطال العقد ، ما لم يثبت أن التعاقد الآخر كان من المفروض حتما أن يعلم بهذا التدليس ( [3] ) ” . وهذا النص لا مقابل له في القانون القديم ، وقد حسم إشكالاً كان قائماً سنفصله فيما بعد .
ويستخلص من هذه النصوص أن للتدليس عنصرين ( [4] ) : 1 – استعمال طرق احتيالية ، وهذا هو العنصر الموضوعي . 2 – تحمل على التعاقد ، وهذا هو العنصر النفسي . وهذان العنصران كافيان ، ولا أهمية بعد ذلك لما إذا كان التدليس قد صدر من أجل المتعاقدين أو من الغير ( [5] ) .
181 – استعمال طرق احتيالية : الطرق الاحتيالية تنطوي على جانبين : جانب مادي هو الطرق المادية التي تستعمل للتأثير في إرادة الغير ، وجانب معنوي هو نية التضليل للوصول إلى غرض غير مشروع .
فالطرق المادية لا تقتصر عادة على مجرد الكذب ، بل كثيراً ما يصحب الكذب أعمال مادية تدعمه لإخفاء الحقيقة عن المتعاقد ، ويجب أن تكون هذه الأعمال كافية للتضليل حسب حالة كل متعاقد ، فالمعيار هنا ذاتي . والأمثلة كثيرة : فهناك شركات وجمعيات تتخذ لها من مظاهر الإعلان ما لا يتفق مع حقيقتها لتخدع الناس في أمرها . وهناك أفراد يظهرون بمظهر اليسار والسعة أو يتخذون لأنفسهم صفات منتحلة . وهناك من يخفى المستندات ، ومن يصطنعها ، ومن يزور فيها ، حتى يحمل الغير على التعاقد معه على الوجه الذي يريد ( [6] ) . ولا يكفي مجرد المبالغة في القول ولو وصلت المبالغة إلى حد الكذب ما دام أن ذلك مألوف في التعامل ، كالتاجر يروج لبضاعته فينتحل لها أحسن الأوصاف ( [7] ) .
على أنه لا يشترط في التدليس المدني أن تكون الطرق الإحتيالية مستقلة عن المكذب ، قائمة بذاتها ، كما يشترط ذلك في النصب الجنائي . ففي بعض الأحوال يكفي الكذب ذاته طريقاً احتيالية في التدليس ( [8] ) . فالمهم إذن في الطرق الإحتيالية ليس إنها طرق مستقلة تقوم بذاتها لتسند الكذب ، بل أن يكون المدلس قد ألبس على المتعاقد وجه الحق فحمله على التعاقد تضليلاً ، واختار الطريق الذي يصلح لهذا الغرض بالنسبة إلى هذا المتعاقد . فمن الناس من يصعب التدليس عليه فتنصب له حبائل معقدة ، ومنهم من يسهل غشه فيكتفي في التدليس عليه بمجرد الكذب ( [9] ) .
بل قد يكون التدليس عملا سلبياً محضاً . فكفي مجرد الكتمان ( reticence ) طريقاً أحتيالياً . والأصل أن الكتمان لا يكون تدليساً ، إلا أن هناك أحوالاً يكون فيها أمر من الأمور واجب البيان ، فيلتزم المتعاقد الذي يعلم هذا الأمر بالإفضاء به ، ويعد تدليساً منه أن يكتمه . وتارة يكون الالتزام بالإفضاء مصدره نص في القانون ( [10] ) . وطوراً يكون مصدره الاتفاق الصريح . ولكن في كثير من الأحيان يكون المصدر هو هذه القاعدة القانونية العامة التي تقضي بعدم جواز الغش ، وذلك بأن يستخلص من الظروف أن امراً هاماً يؤثر في التعاقد إلى درجة كبيرة ، ويدرك أحد المتعاقدين خطره ، ويعرف أن المتعاقد الآخر يجهله ، ومع ذلك يكتمه عنه ، فيحمله بذلك على التعاقد ( [11] ) . وهذا ما نصت عليه صراحة الفقرة الثانية من المادة 125 إذا قضت بأن ” يعتبر تدليساً السكوت عمداً عن واقعة أو ملابسة إذا ثبت أن المدلس عليه ما كان ليبرم العقد لو علم بتلك الواقعة أو هذه الملابسة ” . ومن ذلك نرى أن الكتمان يكون تدليساً إذا توافرت الشروط الآتية في الأمر الذي بقى مكتوماً : ( 1 ) أن يكون هذا الأمر خطيراً بحيث يؤثر في إرادة المتعاقد الذي يجهله تأثيرا جوهرياً ، ( 2 ) أن يعرفه المتعاقد الآخر ويعرف خطره ، ( 3 ) أن يتعمد كتمه عن المتعاقد الأول ، ( 4 ) إلا يعرفه المتعاقد الأول أو يستطيع أن يعرفه من طريق آخر ( [12] ) . وأكثر ما يكون الكتمان تدليساً في عقود التأمين ( [13] ) .
بقى الجانب المعنوي وهو نية التضليل للوصول إلى غرض غير مشروع . فإذا انعدمت نية التضليل لا يكون هناك تدليس ، كالتاجر يبرز ما يعرضه في أحسن صورة ، وهو لا يقصد التضليل بل يريد استهواء الناس ( [14] ) . وقد توجد نية التضليل ولكن يقصد بها الوصول إلى غرض مشروع ، كما إذا استعمل المودع طرقاً إحتيالية للحصول من المودع عنده ، وتبين أنه شخص غير أمين ، على إقرار بالوديعة ( [15] ) .
182 – التدليس هو الدافع إلى التعاقد : ويجب أن يكون التدليس هو الدافع إلى التعاقد . وقاضي الموضوع هو الذي يبت في ذلك ، فيقدر مبلغ اثر التدليس في نفس العاقد المخدوع ليقرر ما إذا كان هذا التدليس هو الذي دفعه إلى التعاقد ، ويسترشد في ذلك بما تواضع عليه الناس في تعاملهم وبحالة المتعاقد الشخصية من سن وذكاء وعلم وتجارب ( [16] ) .
ويميز الفقه عادة بين التدليس الدافع ( dol principal ) ، وهو التدليس بالتحديد الذي قدمناه ، والتدليس غير الدافع ( dol incident ) ، وهو تدليس لا يحمل على التعاقد وإنما يغرى بقبول شروط أبهظ ( [17] ) ، فلا يكون سبباً في إبطال العقد ، بل يقتصر الأمر فيه على تعويض يسترد به العاقد المخدوع ما غرمه بسبب هذا التدليس وفقاً لقواعد المسئولية التقصيرية ( [18] ) . وهذا التمييز منتقد . ذلك أن التدليس الذي يغرى على التعاقد بشروط أبهظ هو تدليس دفع إلى التعاقد بهذه الشروط ، ولا يمكن فصل الإرادة في ذاتها عن الشروط التي تحركت الإرادة في دائرتها . فالتدليس هنا أيضاً يعيب الإرادة ، والعاقد المخدوع بالخيار بين أن يبطل العقد أو أن يستبقيه مكتفياً بتعويض عما أصابه من الضرر بسبب التدليس . وهو إذا اختار الإبطال بقى في دائرة العقد ، وإذا اختار التعويض انتقل إلى دائرة المسئولية التقصيرية . وكل تدليس له هذان الوجهان ، سواء في ذلك ما سمى بالتدليس غير الدافع وما سمى بالتدليس الدافع ( [19] ) .
183 – التدليس صادر من المتعاقد الآخر أو من الغير – القانون المدني القديم : كانت المادتان 136 / 196 من القانون المدني القديم ، في نصهما العربي ، تقضيان كما رأينا بأن ” التلديس موجب لعدم صحة الرضاء إذا كان رضاء أحد المتعاقدين مترتباً على الحيل المستعملة له من المتعاقد الآخر بحيث لولاها لما رضى ” . وكان هذا النص العربي يتفق مع القانون المدني الفرنسي الذي ينص صراحة على أن التدليس يجب أن يكون صادراً من المتعاقد الآخر ( م 1116 ) . لذلك كان الفقه والقضاء في مصر يذهبان إلى أن التدليس يجب أن يكون صادراً من المتعاقد الآخر ، تمشياً مع النص العربي المشار إليه ومع نص القانون الفرنسي ( [20] ) . وكذلك الفقه يعلل هذا الحكم الشاذ بأن التدليس إذا صدر من الغير فلا يجوز أن يكون سبباً في إبطال العقد ، إذ ليس من العدل أن يجزي المتعاقد الآخر بالإبطال عن ذنب اقترفه الغير ، وللعاقد المخدوع أن يرجع على الغير الذي صدر منه التدليس بتعويض عما أصابه من الضرر . وليست هذه الحجة بمقنعة . فإن التدليس ، سواء صدر من المتعاقد الآخر أو صدر من الغير ، يعيب الإرادة . وما دمنا نأخذ بالمعيار الذاتي وننظر لا إلى التدليس في ذاته بل إلى ما احدثه من الأثر في نفس المتعاقد ، فإن الواجب عدم التفريق بين تدليس صدر من المتعاقد الآخر وتدلس صدر من الغير ، لأن العاقد المخدوع مضلل في الحالتين ، وقد صدرت إرادته على غير هدى ، فلا يجوز أن يلتزم بمثل هذه الإرادة . والواقع أن هذا التمييز ليست له علة منطقية ، وهو يرجع في الأصل لأسباب خاصة بالقانون الروماني ( [21] ) . وبالرغم من زوال هذه الأسباب فقد تلقى القانون الفرنسي القديم القاعدة ميراثاً من التقاليد ، وانتقلت منه إلى القانون الفرنسي الحديث . وإلا فما الفرق بين الإكراه والتدليس من هذه الناحية ، والمقرر أن الإكراه يبطل العقد سواء صدر من المتعاقد الآخر أو من الغير ، لأنه يعيب الإرادة في الحالتين ( [22] ) .
ولعل ضعف الحجة في وجوب التمييز بين التدليس الصادر من الغير والتدليس الصادر من المتعاقد الآخر هو الذي حمل القضاء والفقه في فرنسا وفي مصر على الانتقاص من هذا التمييز والعمل على هدمه بالإكثار من الاستثناء فيه . فاستقر الرأي على ألا تمييز بين تدليس صادر من الغير وتدليس صادر من المتعاقد الآخر ، وأن كليهما يعيب الإرادة ، في الأحوال الآتية : ( 1 ) إذا كان التصرف القانوني الذي داخله التدليس تصرفاً قانونياً صادراً من جانب واحد ( 2 ) في الهبات لأن الهبة يجب أن تتمحض عن نية التبرع خالصة ، فإذا داخلها التدليس ولو صدر من الغير كان مبطلا لها ( 3 ) في المعاوضات إذا صدر التدليس من نائب المتعاقد الآخر أو من الغير إذا كان متواطئاً مع المتعاقد الآخر ، أو إذا صدر التدليس من الغير وكان المتعاقد الآخر يعلم بهذا التدليس أو كان في استطاعته أن يعلم به .
وكان الفقه المصري يستطيع أن يجد في القانون المدني القديم سنداً على أن التدليس يعيب الرادة حتى لو صدر من الغير ، إذا هو رجع إلى النص الفرنسي للمادتين 136 / 196 ، فإن الترجمة الدقيقة لهذا النص هي ما يأتي ” التدليس يعيب الإرادة إذا كانت الحيل المستعملة ضد المتعاقد جسيمة بحيث إنه لولاها لما رضى ” . فلم يميز النص بين تدليس يصدر من المتعاقد الآخر وتدليس يصدر من الغير ، بل أطلق فجعل التدليس يعيب الإرادة في الحالتين ( [23] ) . ولو أخذ الفقه والقضاء في مصر بهذا التفسير الوجيه لاستغنيا به عن سلوك الطريق الطويل الملتوي الذي سلكه الفقه والقضاء في فرنسا ، ولذهبا مباشرة إلى الحل الصحيح عن طريق النص الصريح .
184 – القانون المدني الجديد في التدليس الصادر من الغير : هذا ما فعله القانون الجديد . فقد تجنب التناقض الذي وقع فيه القانون ولقدم ، ونص صراحة في المادة 126 ، كما سبق القول ، على أنه ” إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين فليس للمتعاقد المدلس عليه أن يطلب إبطال العقد ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم ، أو كان من المفروض حتما أن يعلم ، بهذا التدليس ( [24] ) ” . وقد نص القانون الجديد على مثل هذا في الإكراه ( أنظر المادة 128 ) ، فسوى بحث ما بين الإكراه والتدليس في ذلك ( [25] ) .
وإذا كان التدليس الصادر من الغير يعيب الإرادة متى كان المتعاقد الآخر يعلم ، أو كان من المفروض حتما أن يعلم ، بالتدليس ، بقى الفرض الذي يكون فيه المتعاقد الآخر غير عالم بالتدليس وغير مستطيع أن يعلم به . وحتى هنا يجوز إبطال العقد للغلط إذا اثبت العاقد المخدوع أن العاقد الآخر كان مشتركا معه في الغلط الذي وقع فيه من جراء هذا التدليس ، أو أن هذا المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان يستطيع أن يعلم بهذا الغلط . فإذا لم يثبت شيئا من ذلك ، فإن العقد لا يكون باطلا لا للتدليس وللغلط . وهذا عدل ، لأننا إذا أبطلنا العقد في هذه الحالة فللمتعاقد الآخر وهو حسن النية أن يطلب تعويضاً ، وخير تعويض هو بقاء العقد صحيحاً . وهذا تطبيق آخر لقيام العقد على سبيل التعويض ، لا على الإرادة الحقيقية للمتعاقد ( [26] ) ، وقد سبقت الإشارة إلى تطبيقات من هذا القبيل .
ب – نظرية الغلط تغني عن نظرية التدليس
185 – الغلط يغني عن التدليس في النظرية الحديثة : قدمنا أن التدليس من شأنها أن يوقع المتعاقد في غلط ، فإذا كان رضاؤه معيباً فإنما يكون ذلك بسبب الغلط الذي أوقع فيه التدليس . ومع ذلك فإن النظرية التقليدية للتدليس إذا وضعت بجانب النظرية التقليدية للغلط تجعل دائرة التدليس أوسع من دائرة الغلط . فهناك أحوال لا يكفي فيها الغلط لإبطال العقد ، كالغلط في الباعث والغلط في القيمة ، فإذا اقترن بالغلط تدليس دافع ، كان التدليس لا الغلط هو السبب في إبطال العقد ( [27] ) . ومن ذلك نرى أن طبقاً للنظرية التقليدية لا يغني الغلط عن التدليس . بل يجب الحرص على التمييز بين التدليس والغلط ، فإنه إذا كان كل تدليس يحدث في النفس غلطاً ، فإن الاقتصار على هذا الغلط مجرداً عن التدليس لا يكفي لإبطال العقد في كل الأحوال .
أما في النظرية الحديثة ، فالغلط يغني عن التدليس . ولا يمكن في هذه النظرية أن يوجد عقد يبطل للتدليس دون أن يكون قابلا لأن يبطل للغلط في الوقت ذاته . والتدليل على ذلك هين . فالتدليس لا يبطل العقد إلا إذا كان دافعاً ، وهو إنما يبطل العقد لما يوقع في نفس المتعاقد من الغلط . فالغلط الناشيء عن التدليس المبطل للعقد لما يوقع في نفس المتعاقد من الغلط . فالغلط الناشيء عن التدليس المبطل للعقد لا بد أن يكون غلطاً دافعاً ، والغلط الدافع يبطل العقد دائماً حتى لو وقع في الباعث أو في القيمة . فنرى من ذلك أن كل عقد يبطل للتدليس يمكن في الوقت ذاته أن يبطل للغلط ، وأن نظرية الغلط تغني إذن عن نظرية التدليس ( [28] ) .
186 – ولكن التدليس لا يغني عن الغلط : ذلك أن التدليس إذا لم يوقع في نفس المتعاقد غلطاً فلا أثر له في صحة العقد ، ولا تترتب عليه إلا مسئولية عن التعويض إذا انطوى على خطأ تقصيري وأحدث ضرراً . ولا يمكن أن نتصور عقداً لا يبطل للغلط ويبطل مع ذلك للتدليس . فالعبرة إذن بالغلط لا بالتدليس . وإذا كان الغلط يغني عن التدليس ، فإن التدليس لا يغني عن الغلط .
على أنه إذا وقع المتعاقد في غلط من شأنها أن يبطل العقد ، فإن هناك فرقاً عملياً في هذه الحالة بين أن يكون الغلط مصحوباً بالتدليس أو أن يكون غير مصحوب به . ويظهر أثر هذا الفرق في أمرين : ( أولاً ) يسهل إثبات الغلط حيث يكون مصحوباً بالتدليس ، فإن الطرق الإحتيالية تكون غالباً طرقاً مادية يسهل إثباتها ، فيثبت الغلط تبعاً لذلك . أما إذا لم يصحب الغلط تدليس ، فإنه يصبح أمراً نفسياً ليس من الميسور إثباته . ( ثانياً ) إذا كان الغلط مصحوباً بتدليس ، فإن التدليس يكون سبباً في إلزام المدلس بالتعويض ، وذلك إلى جانب إبطال العقد ، إذا نجم عن التدليس ضرر ( [29] ) . أما الغلط غير المصحوب بالتدليس فجزاؤه إبطال العقد ، ولا محل للتعويض إلا إذا ثبت خطأ في جانب المتعاقد الذي علم بالغلط أو كان يستطيع أن يعلم به .
وظاهر أن كلا من هذين الأمرين عملي محض ، ولا صلة له بأثر الغلط في صحة العقد ( [30] ) . وقد آثر القانون الجديد مع ذلك أن يستبقى التدليس إلى جانب الغلط جرياً على التقاليد ، لا سيما إذا اقترنت بهذه الفروق العملية .
( [1] ) أنظر في التمييز بين التدليس المدني والتدليس الجنائي حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 8 مايو سنة 1934 م 46 ص 282 .
( [2] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 173 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” 1 – يكون التدليس سبباً في بطلان العقد إذا كانت الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين ، أو شخص ينوب عنه ، أو أجنبي اشترك معه في هذه الحيل ، من الجسامة بحيث لولاها لم يبرم الطرف الثاني العقد . 2 – ويعتبر سكوت أحد المتعاقدين عمداً عن واقعة أو ملابسة يجهلها المتعاقد الآخر سكوتاً تدليسياً إذا ثبت أن العقد ما كان ليتم لو علم هذا المتعاقد بهذه الواقعة أو تلك الملابسة ” . وفي لجنة المراجعة تقرر حذف عبارة ” أو أجنبي اشترك معه فيه ” من الفقرة الأولى لأن حكمها مستفاد من المادة التالية ، وتقررت إعادة صياغة المادة بفقرتيها بحيث أصبحت مطابقة لنص القانون الحديد . وأصبح رقم المادة 129 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة بعد استبدال عبارة ” لما أبرم ” في الفقرة الأولى بعبارة ” لم يبرم ” ووافقت لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ على المادة دون تعديل ، وأصبح رقمها 125 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 171 – ص 174 ) . وانظر المادة 21 من المشروع الفرنسي الإيطالي ، والمادتين 56 / 52 من التقنينين التونسي والمراكشي ، والمادة 94 من التقنين البرازيلي .
( [3] ) أنظر المادة 209 من قانون الالتزامات اللبناني ، وانظر تاريخ النص فيما يلي ( فقرة 184 ) .
( [4] ) والذي يطلب من المتعاقدين إبطال العقد للتدليس هو الذي يحمل عبء إثبات هذا التدليس بعنصريه . ويثبت ذلك بجميع طرق الإثبات ، بما في ذلك البينة والقرائن ، حتى لو كان العقد المطعون فيه بالتدليس مكتوباً لأن التدليس واقعة مادية ( استئناف مختلط في 13 نوفمبر سنة 1934 م 37 ص ) – محكمة بني سويف الجزئية في 4 نوفمبر سنة 1899 المحاكم 11 ص 2177 ) .
ووقوع التدليس مسألة موضوعية ، لقاضي الموضوع فيها الرأي النهائي . ولكن الوصف القانوني لوقائع التدليس مسألة قانونية تخضع الرقابة محكمة النقض ، وذلك كالبت فيما إذا كان مجرد الكذب أو الكتمان يكفي للتدليس ، وفيما إذا كان التدليس اصادر من الغير يؤثر في صحة العقد ( نقض مدني في 18 مايو سنة 1 933 مجموعة عمر 1 رقم 123 ص 214 – وفي 20 فبراير سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 327 ص 1049 ) .
( [5] ) وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد المادتين 125 و 126 ما يأتي : ” يشترط في التدليس إذا صدر من أحد المتعاقدين ، سواء أصدر من المتعاقد نفسه أم من نائبه أم من شريك له ، أن ينطوي على حيل . بيد أن هذه الحيل تختلف عن مسيها في النصب الجنائي ، إذ يكفي فيها مجرد الامتناع من جانب العاقد ، كسكونه عمداً عن واقعة جوهرية يجهلها العاقد الآخر . والواقع أنه ليس ثمة تطابق بين تعريف التدليس المدني والتدليس الجنائي . ومهما يكن من أمر ، فليس ينبغي أن يعتد في تقدير التدليس بما يسترسل فيه المتعاقد من آراء بشأن ما للتعاقد من مزايا أو عيوب ، متى كانت هذه الآراء من قبيل الاعتبارات العامة المجردة عن الضبط والتخصيص ( أنظر المادة 667 من التقنين الألماني ) . ويشترط كذلك أن تكون الحيل إلى تقدمت الإشارة إليها قد دفعت من ضلل بها إلى التعاقد . ومناط التقدير في هاذ الصدد نفسي أو ذاتي ، كما هي الحال بالنسبة لعيوب الرضاء جميعاً ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 172 ) .
( [6] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الجمعية التي تتخذ لها مظاهر من الإعلان توهم أن أعضاءها مسئولون شخصياً عن التزاماتها ترتكب تدليساً يبطل التعاقد الذي يتم بينها وبين الغير ( 3 ابريل سنة 1929 م 41 ص 333 ) . ويكون باطلا للتدليس عقد التامين الذي يتقدم فيه شخص آخر غير المؤمن له للكشف الطبي ( استئناف مختلط في ) ديسمبر سنة 1925 م 38 ص 90 ) . وإذا اظهر الدائن ما من شأنه إيهام الكفيل بقيام المدين بتعهداته فجدد الكفيل كفالته تحت تأثير هذا الإيهام ، فالتجديد قابل للإبطال ( محكمة الاستئناف الوطنية في 30 مارس سنة 1893 الحقوق 8 ص 75 – أنظر حكماً آخر لهذه المحكمة في 25 ابريل سنة 1922 المحاماة 3 ص 22 ) . وانظر نظرية العقد للمؤلف ص 393 حاشية رقم 1 .
( [7] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 3 ابريل سنة 1897 م ) ص 263 – وفي 8 ديسمبر سنة 1915 م 28 ص 48 .
( [8] ) وقد قضت محكمة مصر الكلية الوطنية بأن التأكيدات غير الصحيحة التي تصدر من أحد المتعاقدين ويكون لها على الطرف الآخر التأثير الذي يحمله على قبول التعاقد من شأنها أن تجعل العقد قابلا للإبطال متى تثبت أنه لولا هذه التأكيدات لما حصل الرضاء ( 24 يناير سنة 1923 المحاماة 3 ص 281 ) . وقضت محكمة اسيوط الكلية بأن الكذب للتحايل للحصول على عمل بإعطاء بيانات غير صحيحة عن كفاية الطالب وخدماته السابقة من شأنها أن يؤثر التأثير الكافي في رضاء من تم التعاقد معه على العمل ، وبذلك يكون العقد قابلا للإبطال ( 29 مارس سنة 1928 المحاماة 9 ص 555 ) .
( [9] ) على أن الأصل هو أن مجرد الكذب لا يكفي للتدليس ما لم يتبين بوضوح أن العاقد المخدوع لم يكن يستطيع استجلاء الحقيقة بالرغم من هذا الكذب ، فإذا كان يستطيع ذلك فلا تدليس ( محكمة الاستئناف المختلطة في 8 ابريل سنة 1897 م 9 ص 263 – وفي 9 مارس سنية 1898 م 10 ص 184 – وفي 8 ديسمبر سنة 1915 م 28 ص 48 – محكمة المنيا الجزئية في 3 أكتوبر سنة 1922 المحاماة 5 ص 267 ) . ويلاحظ أنه كثيراً ما يعتبر إعطاء بيانات كاذبة لشركة التايمن تدليساً يبطل العقد ، كما إذا ذكر المؤمن له وهو بحار أنه مزارع فيخفي بذلك عن الشركة الأخطار التي تنجم عن مهنته ( محكمة الاستئناف المختلطة في 28 مايو سنة 1919 م 31 ص 316 ) ، وكما إذا ذكر المؤمن له بيانات كاذبة عن تاريخ صنع السيارة المؤمن عليها وتاريخ شرائها ( محكمة الاستئناف المختلطة في 26 فبراير سنة 1930 م 42 ص 325 ) . وتعتبر المبالغة عن سوء نية في قيمة الشيء المؤمن عليه أو في مقدار الضرر الحاصل تدليساً ( محكمة الاستئناف المختلطة في 25 مايو سنة 1893 م 5 ص 269 – وفي 13 فبراير سنة 1929 جازيت 20 ص 79 – وفي 4 فبراير سنة 1931 م 43 ص 203 – وفي 2 فبراير سنة 1933 م 45 ص 154 ) . أما المبالغة عن حسن نية فلا تكون تدليساً بشرط إلا يصر عليها المؤمن له بعد أن يتبين الحقيقة . كذلك إذا أخفى المؤمن له نفسه وذكر اسم شخص آخر ، فإن هذا البيان الكاتب يعتبر تدليسا ( محكمة الاستئناف المختلطة في 25 مايو سنة 1893 م 5 ص 269 – 2 فبراير سنة 1933 م 45 ص 154 ) .
( [10] ) أنظر مثلا المادة 746 من القانون المدني الجديد في التأمين على الحياة .
( [11] ) مثل ذلك أن يصطلح وارث مع مدين للتركة ، ويكتفي الوارث بأخذ جزء من الدين وهو يجهل أن هناك تأميناً يضمن الدين كله ، ويعلم المدين جهل الوارث بذلك فيكتم عنه أمر الضمان حتى يحمله على هذا الصلح ، وكأن يبيع شخص لآخر منزلا ويكتم عنه أن هذا المنزل قد شرع في نزع ملكيته للمنفعة العامة . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بان بائع العقار إذا كتم عن المشتري أن هذا العقار مستحق كلياً أو جزئياً وهو يعلم بذلك ، أو أخفى عنه ما يثقل العقار من الحقوق ، كان هذا تدليساً ( 11 فبراير سنة 1909 م 21 ص 227 ) . ولكن مجرد علم البائع أن دعوى استحقاق رد رفعت ضده ، فلا يخير المشتري بذلك دون أن تكون عنده نية التدليس ، بل وهو لصحيح الاعتقاد بملكيته وبملكية من باع له ، لا يعد تدليسا ، وبهذا قضت محكمة النقض وقالت في أسباب حكمها ما يأتي : ” وحيث إنه حتى إذا أخذ في مثل صورة الدعوى بالتدليس السلبي ، واعتبر المدعى عالما بدعوى الاستحقاق ، واستنتج علمه من وصول إعلان الدعوى المختلطة إليه في حينه وقبل تحرير العقد الابتدائي . فإن ما جاء على لسان البائع من أن المبيع خال من جيمع الرهون والحكر والحقوق العينية كانت وما جاء به من أنه مكلف بتقديم مستندات التمليك قبل العقد النهائي ومن قيام هذا البائع بتسليم عقد البيع الرسمي الصادر له من البائعين وكشفو خلو العين المبيعة من التصرفات على ما سبق تفصيله بصدر هذا الحكم – ما جاء من ذلك يدل على أن البائع كان صحيح الاعتقاد بملكيته وملكية من باع له ، وانه ليس في حاجة إلى أن يخدع المشترية بكتمان دعوى الاستحقاق أمام المحكمة المختلطة لأن الملك على كل حال هو من ضمانه وضمان بائعيه ، فإذا استحق عليه أن على المشتريه منه كان له عند ذلك أن ترفع دعوى الضمان فسخاً للبيع والزماً له بالتضمينات ” ( نقض مدني في 20 فبراير سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 327 ص 1094 ) .
وقضت محكمة النقض بأنه إذا تعاقد شخص مع شركة تأمين على التأمين عن البضائع الموجودة بمحله من السرقة ، وقرر كذباً في اجابته عن الأسئلة المدونة في طلب التأمين أنه يقيد مشترياته ومبيعاته في سجل خاص وانه يحتفظ بقائمة جرد بضاعته ، وكان منصوصا ًفي وثيقة التأمين على بطلان عقد التأمين إذا كان ما قرره طالب التأمين غير صحيح ، ثم استخلص الحكم استخلاصا سائغاً أن البيانات المشار إليها هي بيانات جوهرية ذات اثر في تكوين التعاقد ، ورتب على عدم صحتها سقوط حق المؤمن له في مبلغ التأمين إعمالاً لنص العقد ، فإنه لا يكون أخطأ في تطبيق القانون . ولا يغير من ذلك أن البيان الكاذب لم يكن له دخل في وقوع الخطر الذي حصل من اجله التأمين ( نقض مدني 14 ابريل سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 408 ص 756 – ملاحظة : تنص المادة 750 من القانون المدني الجديد على بطلان كل شرط تعسفي يرد في وثيقة التأمين ، ويتبين أنه لم يكن لمخالفته اثر في وقوع الحادث المؤمن منه ) . ولكن محكمة النقض قضت من جهة أخرى بأنه إذا ابطلت المحكمة التعاقد على التأمين تأسيساً على أن تقرير المؤمن له أن لديه دفاتر منظمة لقيد مشترياته ومبيعاته وقائمة لجرد البضاعة يراجعها بانتظام لم يكن صحيحا ، وأن الدفتر الذي ظهر أنه يعنيه غير باعث على الاطمئنان لعدم انتظامه ووجود شطب فيه ، وأن تقريره هذا كان في خصوص أمر جوهري لتعلقه بسجل هو المرجع الرئيسي لتعيين ما على شركة التأمين أن تؤدي إليه في حالة وقوع الخطر المؤمن منه ، فهذا منها قصور في تسبيب حكمها ، إذ أن عدم انتظام القيد في الدفاتر لا يؤدي عقلا إلى القول بكذب التقرير بوجود دفاتر ، بل كل ما يترتب عليه هو التأثير في قوة الدفتر كأداة إثبات . وإذ أن المحكمة حين اعتبرت البيان عن السجل وقائمة الجرد جوهرياً لتعلقه بإثبات الضرر الذي يلحق المؤمن له من وقوع الخطر المؤمن منه وانه يحدد فيما بين العاقدين طريقة إثباته ، لم تبن ذلك على اعتبارات من شأنها أن تبرره ، وخصوصاً أن عبء إثبات الضرر يقع دائماً على المؤمن له دون الشركة المؤمنة ، مما مفاده أن تعلق ذلك البيان بالإثبات ليس من شأنه أن يفيد أنه جوهري له ( نقض مدني في 16 مايو سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 76 ص 172 ) .
( [12] ) وقد قضت محكمة النقض بأن مجرد الكتمان لا يبلغ أن يكون تدليساً ما لم يقترن بحيلة غير مشروعة ( نقض مدني في 25 فبراير سنة 1943 مجموعة عمر 4 رقم 29 ص 59 ) . وقضت محكمة استئناف اسيوط بأن مجرد الكتمان لا يكفي اعتباره غشاً وتدليساً ما دام الأمر الذي تعمد أحد العاقدين كتمه على المتعاقد معه يمكن لهذا أن يعرفه من طريق آخر ( استئناف أسيوط في 12 فبراير سنة 1942 المحاماة 22 رقم 244 ص 698 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه لا يعتبر تدليساً كتمان الدائن المرتهن عن مشتري العقار المرهون أن هناك رهناً آخر على العقار لم يكشف عنه صاحب العقار المرهون ( 26 يدسمبر سنة 1940 م 53 ص 51 : ويلاحظ أن الاتفاق الذي لا يعتبر الكتمان فيه تدليساً في هذه القضية هو اتفاق المشتري مع الدائن المرتهن على أن يدفع له جزءاً من الثمن سداداً لحقه في نظير موافقته على البيع ، والكتمان لا يعتبر هنا تدليساً لأن المشتري كان يستطيع من طريق الكشف عن العقار معرفة الرهن الثاني ) .
ومن جهة أخرى قضت محكمة النقض بأنه إذا أخفى شريك على شريكه وهو يقتسم معه أن الأطيان التي يأخذها هذا الشريك هي أطيان مرفوع بها دعوى استحقاق من جهة وقف بحيث لو علم الحقيقة وأن معظم ما اختص به بمقتضى عقد القسمة يدخل في مستندات الوقف وأن معظم ما اختص به شريكه يخرج عنها لما رضى بالقسمة ، فإن هذا يكفي لاعتباره في حكم المادة 136 مدني ( قديم ) حيلة تفسد رضاء من خدع بها ( مستفاد من حكم لمحكمة النقض في دائرتها المدنية في أول ديسمبر سنة 1949 ، طعن رقم 69 سنة 18 قضائية ولم ينشر بعد – هذا وفي وقائع هذه القضية أن الشريط زاد على مجرد الكتمان أنه اخبر شريكه أن ما يختص به غير مهدد بخطر الاستحقاق ) . وقضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنه إذا تبين أن المشتري كان تحت تأثير ما ذكره البائع له من بيانات خاصة بدين الدائن على العقار المبيع وعدم استحقاق شيء منه ولا من فوائده وقت تحرير العقد ، فأثر ذلك في نفسه ودفعه التعاقد ، ولم يكن يعلم أنه أدخل عليه الغش والتدليس بأن كتم وأخفى عنه مقدار الفوائد المستحقة على العقار قبل تحرير عقد البيع كما أخفى عليه ما اشترطه الدائن من حق الاحتفاظ بالمطالبة بالدين والفوائد عند التقصير في دفع الفوائد في مواعيدها ، الأمر الذي أدى إلى حلول جميع الدين وترتب عليه نزع ملكية العقار ورسا مزاده على الدائن ، فمثل هذه التصرفات هي نوع من الغش والتدليس الموجب لبطلان العقد ( 31 ديسمبر سنة 1936 المحاماة 17 رقم 312 ص 645 : وهنا أيضاً جاوز البائع مجرد الكتمان إلى الكذب عن طريق بيانات غير صحيحة أدلى بها للمشتري ) .
( [13] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن كتمان المؤمن على حياته لمرض أصابه قبل التأمين يعد تدليساً ( 9 ديسمبر سنة 1925 م 38 ص 90 ) . وكذلك يعد تدليساً كتمان المؤمن له عن شركة التأمين أن شريكه كان قد توعده أمام شهود باحراق متجره ، لأن هذا الكتمان من شأنه أن يؤثر في تقدير التبعة ( استئناف مختلط في 5 فبراير سنة 1930 جايزت 20 ص 79 ) .
( [14] ) على أن هذا لا يمنع من وقوع المتعاقد الآخر في الغلط ، ويبطل العقد للغلط لا للتدليس . ويعرف القانون الانجليزي ما يسميه بالتصوير غير الصحيح ( misrepresentation ) وهو قريب من حالتنا هذه ، إذ يعلن أحد المتعاقدين الآخر معلومات غير صحيحة ، ولكن عن حسن نية ، فيبطل العقد للغلط لا للتدليس .
( [15] ) أنظر نظرية الالتزام للدكتور أحمد حشمت أبو ستيت فقرة 171 ص 123 .
( [16] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 3 يونية سنة 1911 م 23 ص 351 – 18 نوفمبر سنة 1925 م 38 ص 54 – 31 يناير سنة 1934 م 46 ص 147 – محكمة مصر الكلية الوطنية في 4 يناير سنة 1923 المجموعة الرسمية 25 رقم 15 / 3 .
( [17] ) مثل ذلك أن يطلع بائع العقار المشتري على عقود إيجار لهذا العقار ، وهي عقود مصطنعة أو قديمة يريد أن يوهمه بها أن ريع العقار مرتفع ، فإذا حمله بذلك على شراء العقار بثمن عال كان للمشتري أن يطلب تعويضاً من البائع هو زيادة الثمن الذي دفعه عن الثمن الذي كان يدفعه لو علم بحقيقة الأمر . وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن بائع السند بثمن مقسط إذا لم يستوف الاقساط الواجبة الدفع ، وأنذر المشتري بفسخ البيع بعد أن ربح السند المبيع الجائزة الكبرى ، وحمل المشتري بذلك ، بعد أن أوهمه أنه يستطيع فسخ البيع ، على أن يصطلح معه على شروط باهظة ما كان يقبلها لولا هذا التدليس ، يكون قد ارتكب تدليساً غير دافع ، ويلتزم بدفع تعويض هو الفرق بين ما قبله المشتري وما كان يقبله لو كان التعامل على غير غش ( 31 ديسمبر سنة 1929 م 42 ص 134 – 20 مارس سنة 1935 م 47 ص 362 ) . وقد يحدث أن من يعرض شيئاً ليبيعه في المزاد يتفق مع شخص على أن يتقدم في المزاد – ويزاد عليه مزايدة وهمية ، فإذا فعل ذلك وقدم عطاء اكبر ، فهذا العطاء الوهمي قد يكفي لإلغاء العطاء الذي سبقه ، ويكون لصاحب العطاء السابق حق طلب التعويض للغش أو التمسك بصورية العطاء الأكبر . أما إذا نجحت الحيلة وتقدم شخص وزاد على العطاء الوهمي ورسا عليه المزاد ، فله أن يطعن في العقد بالتدليس ، ويكون التدليس هنا غير دافع يستوجب التعويض لا إبطال العقد ( ديموج 2 فقرة 608 مكررة ) .
( [18] ) وقد أشتمل المشروع التمهيدي على نص في هذا المعنى . فقد قضت المادة 175 من هذا المشروع بما يأتي : ” التدريس الذي يجعل العقد اثقل عبئاً دون أن يكون هو الدافع إلى التعاقد لا يعطي للمدلس عليه إلا الحق في مطالبة المدلس بالتعويض ” . وجاء في المذكرة الإيضاحية بصدد هذه المادة ما يأتي : ” إذا لم يكن من اثر التدليس دفع من دلس عليه إلى التعاقد ، وإنما اقتصر أمره على استدراجه إلى قبول شروط اشد وقراً مما كان يقبله لو تبين حقيقة الواقع ، فلا يعتبر عيباً من عيوب الرضاء ، بل يعتبر تقصيراً أو خطأ من جانب المدلس تترتب عليه مسئوليته ، ويعطي الحق في طلبه التعويض ، سواء اوقع التدليس من أحد المتعاقدين أم من أجنبي عن العقد ” . وقد حذف هذا النص في المشروع النهائي لأنه يقرر حكماً يكفي فيه تقرير قواعد المسئولية ( أنظر في كل ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 175 في الهامش ) .
( [19] ) أنظر في هذا المعنى بلانيول وريبير وبولانجيه طبعة سنة 1949 فقرة 228 . ومع ذلك أنظر نظرية العقد للمؤلف فقرة 384 . ويلاحظ أن هناك وجهاً للتوفيق بين من يقول بهذا التمييز ومن لا يقول به . ففي التدليس غير الدافع إذا اختار العاقد المخدوع إبطال العقد وفقاً لرأي القائلين بعدم التمييز ، جاز للعاقد الآخر أن يعوضه عن الضرر الذي أصابه بسبب التدليس فيمنعه بذلك من إبطال العقد . ونحن نقيس في ذلك التدليس على الغلط في ا ، كلا منهما لا يجوز التمسك به على وجه يتعارض مع حسن النية . ومتى استقام هذا الحل اقتصر لعاقد المخدوع على التعويض وفقاً لكل من الرأيين ( قارن محكمة الاستئناف المختلطة في 7 مارس سنة 1946 م 58 ص 60 ) .
( [20] ) والتون 1 ص 252 – ص 254 – الدكتور محمد صالح في أصول التعهدات فقرة 285 ص 242 – الدكتور محمد وهيبة ص 195 – دي هلنس 1 لفظ ( convention ) فقرة 64 – هالتون 1 ص 320 – ص 321 – فتحي زغلول ص 133 – محكمة الاستئناف المختلطة في 15 مايو سنة 1912 م 24 ص 341 – وفي 29 مايو سنة 1913 م 25 ص 417 – محكمة المنيا الجزئية في 3 أكتوبر سنة 1922 المحاماة 3 رقم 130 ص 182 – 18 ديسمبر سنة 1930 المحاماة 11 رقم 439 ص 849 .
وقد قضت محكمة النقض بأن التدليس الحاصل من أجنبي بطريق التواطؤ مع أحد المتعاقدين يفسد الرضاء كالتدليس الحاصل من المتعاقد نفسه ( نقض مدني في 18 مايو سنة 1933 مجموعة عمر 1 رقم 123 ص 214 ) . فلم تعتد محكمة النقض التدليس الصادر من أجنبي إلا أنه متواطئ مع أحد المتعاقدين .
وقد خالف هذا الرأي في ظل القانون القديم فقهاء قالوا بعدم التمييز ما بين تدليس صادر من أحد المتعاقدين وتدليس صادر من الغير : أنظر نظرية العقد للمؤلف فقرة 386 – فقرة 392 – الدكتور حلمي بهجت بدوى فقرة 128 – الدكتور عبد السلام ذهني ص 128 – ص 130 .
( [21] ) فقد كان ” البريطور ” في القانون الروماني يعطي الدعوى والدفع فيما يختص بالتدليس ضد الشخص الذي صدر منه التدليس . فإذا ما داخل العقد تدليس صادر من الغير لم يكن للمتعاقد الذي وقع في التدليس إلا الرجوع علىهذا الغير ، ولا رجوع له على المتعاقد الآخر ، فيبقى العقد صحيحاً لا سبيل إلى ابطاله . وهذا بخلاف الإكراه فإنه حتى إذا وقع من الغير يمكن الاحتجاج به ضد المتعاقد الآخر ( جيرار طبعة سادسة ص 471 ) .
( [22] ) أنظر محاولة للدفاع عن هذا التمييز ما بين التدليس والإكراه ونقد هذه المحاولة في نظرية العقد للمؤلف ص 409 حاشية رقم 5 .
( [23] ) وكنا نأخذ بهذا الرأي في ظل القانون القديم وقد سبقت الإشارة إلى ذلك . وفي رأينا أن المشرع المصري في القانون القديم أراد العدول عن القاعدة الفرنسية التي تقضي بأن التدليس يجب أن يكون صادراً من الغير ، لأنها قاعدة منتقدة كما رأينا ، فأورد النص الفرنسي للمادتين 136 / 196 ، وهو النص الأصلي وإن لم يكن النص الرسمي ، قاطعاً في أنه لا يشترط أن يكون التدليس صادراً من الغير . ثم ترجم هذا النص إلى العربية ، ولكن المترجم تصرف فيه ، فيدلا من أن يتقيد بالأصل فيذكر أن ” التدليس يعيب الإرادة إذا كانت الحيل المستعملة ضد المتعاقد جسيمة . . ” ، ذكر أن ” التدليس يعيب الرضاء إذا كان رضاء أحد المتعاقدين مترتباً على الحيل المستعملة له من المتعاقد الآخر . . . ” . فهو لما أورد لفظ ” رضاء ” وأسندها إلى ” أحد المتعاقدين ” انساق إلى ذكر ” المتعاقد الآخر ” بشيء من المقابلة الطبيعية . ولعله يكون قد فهم خطأ من النص الفرنسي الذي ترجمه أن الحيل المستعملة ضد أحد المتعاقدين هي حيل صادرة من المتعاقد الآخر ، وأن هذا يفهم من مدلول النص . فجاءت الترجمة مخالفة للأصل . والواجب في هذه الحالة الأخذ بالنص الفرنسي دون النص العربي ، لأن النص الأول هو الذي يعبر بأمانة عن قصد المشرع ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 386 ) .
( [24] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 174 من المشروع التهيدي على الوجه الآتي : ” 1 – التدليس الصادر من غير المتعاقدين لا يعطي حقاً للمدلس عليه في طلب إبطال العقد ، ما لم يثبت أن الطرف الآخر كان يعلم ، أو اكن في استطاعته أن يعلم ، بهذا التدليس وقت إبرام العقد . 2 – فإذا كان الطرف الآخر لا يعلم ، أو ليس في استطاعته أن يعلم ، بصدور تدليس من الغير ، فلا يترتب على التدليس إلا تخويل المدلس عليه حق مطالبة المدلس بالتعويض ” . وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذه المادة ما يأتي : ” اختلفت المذاهب في شأن التدليس الصادر من الغير ، ففريق لا يرتب عليه بطلان العقد . . ، وفريق يجعل له حكم التدليس الصادر من المتعاقدين من حيث ترتيب البطلان . . ، وفريق يتوسط بين هذين المذهبين . . فيشترط لاعتبار التدليس الصادر من الغير عيباً من عيوب الرضاء ، أن يثبت من ضلل به أن الطرف الآخر كان يعلم به ، أو كان في استطاعته أن يعلم به ، وقت إبرام العقد . وفي هذا تطبيق خاص لنظرية الخطأ في تكوين العقد التي سبق تطبيقها فيما يتعلق بالغلط . وقد اختار المشروع ما اتبعه الفريق الثالث . ويراعى أنه إذا انصرفت منفعة من منافع العقد مباشرة إلى شخص غير العاقد ( كالمستفيد في اشتراط لمصلحة الغير ) فلا يجوز إبطال العقد بالنسبة له ، إلا إذا كان يعلم ، أو كان في إمكانه أن يعلم ، بالتدليس . . ويختلف عن ذلك حكم التبرعات ، فهي تعتبر قابلة للبطلان ، ولو كان من صدر له التبرع لا يعلم بتدليس الغير ولم يكن يستطيع أن يعلم به ، لأن نية التبرع يجب أن تكون خالصة من شوائب العيب . وغنى عن البيان أنه لا يكون لدى العاقد سبيل للانتصاف سوى دعوى المطالبة بالتعويض إذا لم يعلم العاقد الآخر بالتدليس أو لم يكن في مقدوره أن يعلم به ” . وفي لجنة المراجعة تقرر حذف الفقرة الثانية من المادة لأنها تقرر حكماً يكفي فيه تقرير قواعد المسئولية ، وأعيدت صياغة المادة على الوجه الآتي : ” إذا صدر التدليس من غير المتعاقدين فليس للمتعاقد المدلس عليه أن يطلب إبطال العقد ما لم يثبت أن المتعاقد الآخر كان يعلم أو كان في استطاعته أن يعلم بهذا التدليس ” . وأصبح رقم المادة 130 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ استبدلت عبارة ” أو كان من المفروض حتماً أن يعلم ” بعبارة ” أو كان في استطاعته أن يعلم ” ، وأصبح رقم المادة 126 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها لجنته ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 174 – ص 178 ) .
( [25] ) ويلاحظ أن القانون الجديد اشترط في التدليس والإكراه الصادرين من الغير ، إذا أريد التمسك بهما لإبطال العقد ، أن يثبت المتعاقد المدلس عليه أو المتعاقد المكره أن المتعاقد الآخر ، إذا لم يكن يعلم علما يقينياً بالتدليس أو بالإكراه ، فهو على الأقل مفروض فيه حتما أن يعلم بذلك . وهذا بخلاف الغلط ، فقد اكتفى القانون الجديد فيه بإثبات أن المتعاقد الآخر كان من السهل عليه أن يتبينه ، ولا يوجد سبب ظاهر لهذه التفرقة بين الغلط من جهة والتدليس والإكراه من جهة أخرى ، حتى يتحمل المتعاقد في الحالة الثانية عبئاً في الإثبات أثقل من العبء الذي يتحمله في الحالة الأولى . ولعله يكون في الحالة الأولى أولى بالرعاية : فمن جهته هو ليس للغلط عادة مظاهر مادية تبرر التشدد معه في الإثبات بينما أن للتدليس وللإكراه هذه المظاهر ، ومن جهة من تعاقد معه إذا وقع في غلط يكون أقل عذراً مما لو كان ضحية تدليس أو إكراه . ويبدو أن التفرقة لا مبرر لها ، ولا تفسر إلا بأن لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ عندما عدلت النصوص الخاصة بالتدليس والإكراه سهي عليها أن تجري تعديلا مماثلا في النصوص الخاصة بالغلط . ومن ثم يحسن عدم التشدد في إبراز هذه التفرقة عند التطبيق العملي .
( [26] ) ويصح القول هنا بأن القانون الجديد أخذ بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة ، وعندئذ يقوم العقد على توافق الإرادتين .
( [27] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 31 يناير سنة 1934 م 46 ص 147 .
( [28] ) اغفل القانون البرتغالي التدليس كعيب مستقل من عيوب الرضاء ( أنظر م 657 و 663 من هذا القانون ) . وكذلك فعل القانون النمساوي ( م 870 من القانون النمساوي القديم وم 55 من القانون النمساوي المعدل ) – أنظر أيضاً بلانيول 2 فقرة 1066 – ديموج 1 فقرة 364 – مذكرات الأستاذ ليفي إيلمان في الالتزامات في الربع الأول من القرن العشرين ص 394 .
( [29] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 17 مايو سنة 1899 المحاكم 11 ص 2151 .
( [30] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” وقد يصح التساؤل عن جدوى إقامة نظرية مستقلة للتدليس ما دام أن أثره في الإرادة يرد إلى ما يولد في ذهن العاقد من غلط يدفع به إلى التعاقد ، بمعنى أن ما يشوب الرضاء من عيب بسببه يرجع إلى الغلط لا إلى الحيلة . إلا أن لوجود التدليس مزيتين عمليتين : فإثباته أيسر من إثبات الغلط من ناحية ، وهو يخول حق مطالبة من صدر منه التدليس بالتعويض فضلا عن حق التمسك بالبطلان من ناحية أخرى ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 172 – ص 173 )
منشور في مقال أقوى محامي الأردن