التصرف المجرد في القانون المدني


التصرف المجرد

285 – التصرف المسبب والتصرف المجرد : قدمنا أن السبب ركن من أركان الالتزام ، لا يقوم الالتزام إلا به ، على فرق ما بين معنى السبب في النظرية التقليدية ومعناه في النظرية الحديثة . وقد كان القانون الروماني لا يعتد بالسبب ولا بالإرادة ذاتها في العقود الشكلية . ثم انتصر مذهب الرضائية في القرون الوسطى على يد الكنسيين ، فأصبحت الإرادة وحدها – مجردة من الشكل – ملزمة . ولكن الإرادة إذا كانت من جهة قد تجردت من الشكل فتحللت من هذا القيد ، فهي من جهة أخرى قد اقترنت بالسبب فاستبدلت قيد السبب بقيد الشكل .

أما الإرادة مجردة من الشكل ومن السبب معاً فلا يمكن أن يسلم بها كقاعدة في قوانين تأخذ بالإرادة الباطنة كالقوانين اللاتينية . فإن الأخذ بالإرادة الباطنة معناه أن تحرر الإرادة من عيوبها وأن تقترن بسببها . ولكن الأخذ بالإرادة الظاهرة يجعل من اليسير أن تباعد ما بينها وبين الإرادة الباطنة ، فتتجرد الإرادة الظاهرة من عيوب الإرادة الباطنة كما تتجرد من السبب الذي حرك هذه الإرادة ، ولا يبقى في مجال التعامل إلا هذه الإرادة الظاهرة المجردة ، وهذا ما يسمى بالتصرف المجرد .

وهناك فائدة كبيرة من تجريد الإرادة الظاهرة على هذا النحو ، إذ بهذا التجريد يصبح التصرف غير قابل للإبطال لا من طريق عيوب الإرادة ولا من طريق عيوب السبب . فالدائن في التصرف المجرد يستطيع أن يتمسك بحقه دون أن يستطيع المدين الدفع بإبطال التصرف لعيب في الإرادة أو لعيب في السبب . وكل ما يستطيع المدين هو أن يرجع بدعوى الإثراء على دائنه ، فيدفع دعواه إذا لم يكن قد وفى الدين ، أو يسترد ما دفع إذا كان قد وفى . ومن ثم يكون التصرف المجرد أداة قوية من أدوات الائتمان ، تشتد حاجة التعامل إليها كلما اشتدت الحاجة إلى الاستقرار . وإذا كان التعامل بتنازعه عاملان ، عامل احترام الإرادة وعامل الاستقرار ، فإن التصرف المسبب يستجيب للعامل الأول ، ويستجيب التصرف المجرد للعامل الثاني . ومنذ انتكصت الشكلية في العقود وساد مذهب الرضائية ، انتصر عامل الإرادة على عامل الاستقرار ، ولم يستطع عامل الاستقرار أن يسترد ما فقد إلا بظهور التصرف المجرد ففيه ينتصر على الإرادة كما رأينا . ومن هنا كان تطور العقد من تصرف شكلي إلى تصرف رضائي ، ثم من تصرف رضائي إلى تصرف مجرد ، تطوراً تعاقب فيه عاملا الاستقرار والإرادة على مراحل متتابعة ، كان الظفر في كل مرحلة منها لأحد العاملين على الآخر . ومن هنا أيضاً كان التصرف المجرد رجوعاً مهذباً إلى التصرف الشكلي ، كلاهما يستجيب لعامل الاستقرار ، ولكن التصرف الشكلي يستجيب إليه في جمعية بدائية ، ويستجيب إليه التصرف المجرد في جمعية متحضرة .

على أن التصرف المجرد – على شدة الحاجة إليه في استقرار التعامل وبخاصة إذا تقدمت التجارة وتشعبت سبلها واحتيج إلى أدوات ائتمان ثابتة – لم يظفر من القوانين اللاتينية ، وهي التي تأخذ بالإرادة الباطنة ، إلا بمكان ضيق محدود . وعلى النقيض من ذلك ظفر التصرف المجرد في القوانين الجرمانية ، وهي التي تأخذ بالإرادة الظاهرة ، بمكان رحب سما فيه إلى مرتبة القاعدة . ولا غرابة في ذلك ، فقد بينا أن التصرف المجرد يتمشى مع الإرادة الظاهرة التي تأخذ بها القوانين الجرمانية ( [1] ) . ويتعارض مع الإرادة الباطنة التي تأخذ بها القوانين اللاتينية .

ويبقى أن نستعرض حظ التصرف المجرد في كل من القوانين الجرمانية والقوانين اللاتينية ويدخل القانون المصري في هذه القوانين الأخيرة .

286 – التصرف المجرد في القوانين الجرمانية : لا نجد في التقنينات الجرمانية نصوصاً تعرض لنظرية السبب عرضاً مباشراً كما تفعل التقنينات اللاتينية . فالتقنين النمساوي لا يشير إلى السبب إلا في المادة 901 ليقرر أن الباعث لا اثر له في صحة عقود المعاوضات إلا إذا جعل منه المتعاقدان شرطاً صريحاً لصحة العقد . والتقنين الألماني لا يعرض للنظرية بنص صريح . وتقنين الالتزامات السويسري لا يعرض لها إلا في صورة عرضية عندما ينص في المادة 17 على أن الاعتراف بالدين صحيح حتى لو لم يذكر سببه . ويعلل ذلك عادة بان هذه التقنينات تأثرت بالقانون الروماني ، وهذا القانون كما رأينا لا يفسح مجالا واسعاً لنظرية السبب إذ أن فكرة السبب فيه فكرة مادية لا تتبين لها نتائج علية إلا في نطاق محدود ، وبخاصة في نطاق دعاوي الإثراء . ولكن بالرغم من أن هذه التقنينات لا تنص على نظرية السبب نرى التصرفات فيها نوعين : النوع الأول هو التصرفات السمببة ( Kausale Rechtsgeschaefte ) وهي اغلب التصرفات المدنية وفيها السبب ركن يجب أن تتوافر فيه شروطه المعروفة فيكون صحيحاً مشروعاً ، والنوع الثاني هو التصرفات المجردة ( Abstrakte Rechtsgeschaefte ) لا يعتد فيها بالسبب ولا بعيوب الإرادة وقد وضعت لها قواعد عامة سيأتي بيانها .

فالسبب لا يزال إذن موجوداً في القوانين الجرمانية ، ولكنه سبب بالمعنى المفهوم في النظرية التقليدية يراد به الغرض الموضوعي المباشر من التعاقد تمييزاً له عن الباعث ، ويشترط فيه أن يكون صحيحاً مشروعاً وإلا بطل العقد . أما الباعث فلا اثر له في صحة العقد ولو كان هو الذي دفع إلى التعاقد ( [2] ) .

وإلى جانب التصرفات المسببة توجد التصرفات المجردة ، وقد أفسح لها مجال واسع كما قدمنا . وهي طائفتان : طائفة عقود انتقال الملكية وطائفة العقود المنشئة للالتزامات .

فالأولى تنتقل بها الملكية – والحق العيني بوجه عام – دون اعتبار للسبب . ذلك أن الملكية في هذه التقنينات لا تنتقل بمجرد نشوء الالتزامات بنقلها ، بل لا بد من تنفيذ هذا الالتزام بطريق عقد آخر هو عقد انتقال الملكية ، فيذهب المتعاقدان إلى المكتب العقاري ويعلنان اتفاقهما ويسجلان هذا الاتفاق في السجل العقاري ( Livre Foncier ) . وعقد انتقال الملكية ، في القانون الألماني بنوع خاص ، عقد مجرد ، تنتقل به الملكية سواء كان العقد المنشيء للالتزام بنقلها صحيحاً أو معيباً . وإذا أتضح بعد ذلك أن العقد كان معيباً وأن الملكية انتقلت دون سبب ، فليس لمن خرج عنها إلا الرجوع بدعوى شخصية على من تلقاها هي دعوى الإثراء بلا سبب . وبذلك يتوافر لهذا العقد مزية الاستقرار والثبات . فما على الشخص حتى يثبت أنه يتعامل مع مالك العقار إلا أن يرجع إلى السجل العقار ، فمن كان اسمه مسجلا فيه كان هو المالك ، ولو كان في ذلك تضحية للمالك الحقيقي – أما التقنين السويسري فلا يمحي الغير الذي اعتمد على السجل العقاري إلا إذا كان حسن النية ( م 973 من التقنين المدني السوري ) . ومن ثم نرى أن التجريد يحتمل التدرج . وتأييداً لذلك نسوق مثلا آخر نأتي به من القانون المصري . فقد قضت المادة 15 من قانون رقم 114 لسنة 1946 الخاص بتنظيم الشهر العقاري بوجوب تسجيل دعاوي استحقاق أي حق من الحقوق العينية أو التأشير بها ، ويترتب على هذا التسجيل أو التأشير أن حق المدعى إذا تقرر بحكم يكون حجة على من ترتبت لهم حقوق عينية ابتداء من تاريخ تسجيل الدعاوى أو التأشير بها ، ولا يكون هذا الحق حجة على الغير الذي كسب حقه بحسن نية قبل التأشير أو التسجيل المشار إليهما . ويتبين من ذلك أن من يتعامل مع غير المالك في عقار وهو حسن النية ، ويسجل عقده قبل أن يسجل المالك دعوى الاستحقاق ، يفضل على المالك وتخلص له ملكية العقار . والقاعدة كما نرى تنطوي على ضرب من التجريد .

والطائفة الأخرى من التصرفات المجردة عقود منشئة للالتزامات . وتشمل : ( أولاً ) حالات معينة بذاتها ، منصوصاً عليها . وهي – عدا الأوراق التجارية والسندات – حوالة الحق وحوالة الدين والتنازل عن الحق الشخصي والإنابة في الوفاء . وفي هذه الحالات يكون العقد مجرداً على النحو الذي رأيناه في عقود انتقال الملكية . فيتم نقل الحق أو الدين ويتحقق التنازل عن الحق الشخصي دون اعتبار للسبب في هذه الحوالة أو في هذا التنازل ، فإذا تبين أن السبب غير موجود أو غير مشروع فليس ثمة إلا الرجوع بدعوى الإثراء . كذلك التزام المناب للمناب لديه بالوفاء التزام مجرد عن السبب ، فلا يستطيع المناب أن يحتج على المناب لديه بما كان له أن يحتج به من دفوع ضد المنيب ( أنظر في التقنين الألماني : م 398 و م 413 لحوالة الحق ، وم 414 وما بعدها لحوالة الدين ، وم 397 للتنازل عن الحق الشخصي ، وم 784 للانابة في الوفاء – وانظر في تقنين الالتزامات السويسري : م 164 وما بعدها لحوالة الحق ، وم 179 فقرة ثالثة لحوالة الدين ، وم 115 للتنازل عن الحق الشخصي ، وم 468 للانابة في الوفاء ) . ( ثانياً ) التعهد المجرد بالوفاء ( promesse abstraite de payer ) والاعتراف المجرد بالدين ( reconnaissance abstraite de dette ) ، وهما الصورتان العامتان للتصرف المجرد . فتضع التقنينات الجرمانية هنا قاعدة عامة للتصرف المجرد ، وتجيز أن يتفق الدائن مع مدينه على أن يكون التزام المدين أو اعترافه بالدين مجرداً . فيوجد الالتزام في ذمته منفصلا عن السبب ، ويقوم هذا الالتزام حتى لو كان السبب غير موجود أو غير مشروع . وليس للمدين إلا دعوى الإثراء إزاء الدائن إذا تبين أن التزامه لم يكن مبنياً على سبب صحيح ، فيتخلص بذلك من التزام موجود أو يسترد ما دفعه وفاء لهذا الالتزام ( [3] ) . واشترطت المادة 780 من التقنين الألماني لصحة الالتزام المجرد أن يكون في ورقة مكتوبة ، إلا إذا كان تصفية لحساب أو عن صلح فلا تشترط الكتابة زولا يشترط تقنين الالتزامات السويسري الكتابة إطلاقاً ( م 17 ) ( [4] ) .

287 – التصرف المجرد في القوانين اللاتينية وفي القانون المصري : أما القوانين اللاتينية ، وهي مشبعة بنظرية السبب كما رأينا ، فلا تسلم بالتصرف المجرد . أو هي على الأقل لا تضع له قاعدة عامة كما فعلت التقنينات الجرمانية . وإذا كان هناك نص في كل من القانونين المصري والفرنسي يقضي بقيام الالتزام ولو لم يذكر سببه ( م 137 من القانون المصري الجديد و م 1132 من القانون الفرنسي ) ، فسنرى أن هذا النص لا يعرض إلا لمسالة من مسائل الإثبات ليلقى عبء الإثبات في السبب على عاتق المدين . وهناك فرق بين التزام مسبب ، يلقى على المدين فيه عبء إثبات انعدام السبب ، والتزام مجرد عن السبب . فالالتزام الأول ، إذا اثبت المدين أنه لا يقوم على سبب مشروع ، يكون العقد فيه باطلا . أما في الالتزام الثاني ، وهو الالتزام المجرد ، فيبقى العقد صحيحاً حتى لو اثبت المدين انعدام السبب أو عدم مشروعيته ، وليس أمام هذا إلا دعوى الإثراء كما سبق القول .

فالالتزام في القوانين اللاتينية هو إذن التزام مسبب . على أن هذه القوانين تقر الالتزام المجرد في حالات معينة منصوص عليها بذاتها ، وهي قليلة العدد . وقد نص القانون التجاري – حيث تشتد الحاجة للالتزام المجرد لاستقرار التعامل وسرعته – على عدد منها ، هي الكمبيالات والسندات تحت الإذن والسندات لحاملها . أما القانون المدني فقد نص على حالتين : التزام المناسب في الوفاء نحو المناب لديه والتزام الكفيل نحو الدائن .

ونقتصر هنا على ما ورد في هذا الصدد في القانون المدني المصري الجديد . فقد نصت المادة 361 على أن ” يكون التزام المناب قبل المناب لديه صحيحاً ولو كان التزامه قبل المنيب باطلا أو كان هذا الالتزام خاضعاً لدفع من الدفوع ، ولا يبقى للمناب إلا حق الرجوع على المنيب . كل هذا ما لم يوجد اتفاق يقضي بغيره ” ( [5] ) . أما في الكفالة فللكفيل أن يتمسك بجميع الأوجه التي حتج بها المدين ( م 782 مصري جديد ) ، ولكن التزام الكفيل نحو الدائن التزام مجرد لا يتأثر بالعلاقة مابين الكفيل والمدين ، ولا يجوز للكفيل أن يتمسك ضد الدائن بالدفوع التي له أن يتمسك بها ضد المدين . فإذا كفل الكفيل المدين في نظير أن يوفى المدين ديناً آخر عليه مضموناً برهن يثقل عقار الكفيل ، ولم يوف المدين بهذا الدين الآخر ، فإن التزام الكفيل نحو الدائن يبقى قائماً ، ولا يجوز للكفيل أن يدفع دعوى الدائن بان المدين لم يوف بما تعهد به من تخليص عقار الكفيل من الرهن ( [6] ) .

ويتبين مما قدمناه أن القانون المصري قد انحاز انحيازاً تاماً إلى القوانين اللاتينية ، وبقى في حظيرتها كما أسلفنا الإشارة . فاشترط في التصرفات أن تكون مسببة ، ولم يسلم بالتصرف المجرد إلا في حالات معينة بذواتها ( [7] ) .


 ( [1] ) يفسر الدكتور أبو عافية – في رسالته ” التصرف المجرد ” القاهرة سنة 1947 – التصرف المجرد علىاساس الإرادة الظاهرة . وعنده أن التصرف المجرد هو التصرف الذي صح بغض النظر عن اختلاف الإرادة الظاهرة عن الإرادة الباطنة ( فقرة 84 من الرسالة المشار إليها ) . ويرتب على ذلك أن التصرف المجرد ” نظام استثنائي خارج على القواعد العامةط ولا فرق في ذلك بين القانون الألماني والقانونين المصري والفرنسي ” ( فقرة 85 ) . ويرفض أن يكون المعيار في التصرف المجرد هو تجرده عن السبب ، ويذهب إلى أن المعيار هو تجدر التصرف عن الإرادة الباطنة ليتمحض إرادة ظاهرة .

ونلاحظ على هذا المذهب أن التصرف المجرد وهو يتجرد عن الإرادة الباطنة يتجرد في الوقت ذاته عن السبب ، وذلك سواء اعتبر السبب عنصراً مستقلا عن الإرادة الباطنة كما هي الحال في القوانين اللاتينية ، أو اعتبر عنصراً غير مستقل عن الإرادة الباطنة وعد من مقومات هذه الإرادة كما هي الحال في القانون الألماني . فالتصرف المجرد يتميز في جميع الأحوال بتجرده عن السبب . على أن المذهب الذي يقول به الدكتور أبو عافية يضيف شيئاً جديداً ، هو أن التصرف المجرد يتميز لا بتجرده عن السبب فحسب ، بل أيضاً بتجرده عن الإرادة الباطنة ذاتها .

 ( [2] ) أنظر كابيتان في السبب فقرة 83 – فقرة 84 وبنوع خاص ص 181 – ص 182 . ويستعرض الدكتور أبو عافية في رسالته المشار إليها ( فقرة 41 وما بعدها ) نظرية السبب في القانون الألماني من ناحيتي التصرف المجرد ومبدأ الإثراء بلا سبب . فيبدأ بتحديد ما يسميه الألمان ” الإضافة إلى الذمة ” ( Vermogenszuwendug ) ، وهي عبارة عن منفعة مالية أو إثراء يتحقق لصالح شخصي بمقتضى عمل إرادي مشروع ( تصرف قانونين أو عمل مادي ) يصدر من المفقتر . وسبب ” الإضافة إلى الذمة ” هو عبارة عن الغرض المباشر الذي يرمي إلى تحقيه المضيف للذمة . ويحدد هذا السبب وفقاً للفقه الألماني على أساس تقسيم ثلاث للسبب موروث عن دعاوي الإثراء في القانون الروماني ، يكون السبب بمقتضاه إما الوفاء ( causa solvendi ) أو الادانة ( causa credendi ) اوالتبرع ( causa donandi ) . والادانة هي التصرف بمقابل ، وهذا المقابل إما أن يكون موضوعه استرداد ما أعطاه المضيف أو استرداد قيمته كما في القرض وفي الوكالة ، وإما أن يكون موضوعه شيئاً آخر يحدد بالاتفاق كما في العقود الملزمة للجانبين فالبائعيحصل على دين بالثمن في مقابل التزامه بنقل ملكية المبيع . ولا يختلط سبب الإضافة إلى الذمة بالباعث عليها . ويلاحظ الفقهي الألماني فون تور أنه ” لا يجب الخلط بين السبب القانونين والاغرراض البعيدة التي يرمى إليها المضيف ، أي البواعث ( Beweggrunde ) التي تدفعه إلى تنفيذ التزامه أو إلى الحصول على مقابل أو إلى الهبة . فوراء كل سبب قانونين بواعث تختلف باختلاف الأحوال . فالهبة مثلا قد تتم بناء على عطف أو بسبب الرأي العام ، ولكن هذه البواعث لا تدخل في حسابنا كقاعدة عامة لتقدير وجود الإضافة ونتائجها القانونية إلا إذا كانت قد اشترطت في التصرف القانونين ” . وسنعود إلى هذه المسألة مرة أخرى عند الكلام في الإثراء بلا سبب وتحديد معنى السبب في الإثراء في القانون الألماني . ويكفينا هنا أن نشير إلى التقارب الواضح بين معنى السبب في النظرية التقليدية ومعنى سبب الإضافة إلى الذمة في الفقه الألماني .

أنظر أيضاً في نظرية مادية للسبب في الفقه الإيطالي ، على أساس أن السبب يرتبط بإرادة القانون لا بإرادة الأفراد وباعتبار أن لكل تصرف وظيفة قانونية فهذه الوظيفة هي السبب ، إلى رسالة الدكتور أبو عافية المشار إليها فقرة 36 .

 ( [3] ) وقد عبد الطريق أمام التقنين الألماني في إجازة الالتزام المجرد أن المؤتمر التاسع لفقهاء الألمان ، تحت تأثير إهرنج الفقيه الألماني المعروف ، اقر هذا الضرب من الالتزام .

 ( [4] ) أنظر في موضوع التصرف المجرد في القوانين الجرمانية كابيتان في السبب فقرة 85 – فقرة 86 وفقرة 165 – فقرة 174 – سالي في الالتزامات في القانون الاماني فقرة 260 – فقرة 266 – مذكرات الأستاذ ليفي اولمان ص 361 – ص 364 – فيفورنو فقرة 128 – ديموج 1 فقرة 91 و 2 فقرة 847 . ويربط ديموج نظرية الالتزام المجرد بنظرية الإرادة الظاهرة كما فعل الدكتور أبو عافية في رسالته المشار إليها ، فما دمنا نأخذ بالإرادة الظاهرة كما هي فلا شأن لنا بالغاية التي تسعى إليها هذه الإرادة ولا بالباعث الذي حركها ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 560 ) .

 ( [5] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 10 فبراير سنة 1931 م 43 ص 208 – وفي 4 يناير سنة 1933 م 45 ص 101 – وفي 17 مارس سنة 1936 م 48 ص 191 – وقارن حكما لمحكمة الاستئناف المختلطة في 25 مايو سنة 1939 م 51 ص 361 قصرت فيه هذه القاعدة على الإنابة الكاملة دون الإنابة غير الكاملة ( وهي التي لا تنطوي على تجديد الدين ) ، أما القانون الجديد فنصه هو كما رأينا عام مطلق لا يميز بين الإنابة الكاملة والإنابة غير الكاملة . أنظر أيضاً الدكتور أبو عافية في التصرف المجرد فقرة 62 .

ويذهب الدكتور أبو عافية ( التصرف المجرد فقرة 61 ) إلى أن المناب لا يجوز له أيضاً أن يتمسك بالدفوع التي تكون للمنيب قبل المناب لديه ، فلو دفع المنيب الدين للمناب لديه فإن هذا لا يمنع المناب لديه أن يطالب المناب بالدين الذي التزم به ، ويرجع المنيب في هذه الحالة بدعوى الإثراء على المناب الديه . ونرى ، مع محكمة الاستئناف المختلطة ( أول يدسمبر سنة 1925 م 38 ص 78 ) التي انتقد الدكتور أبو عافية حكمها ، أن المنيب إذا دفع الدين للمناب لديه كان هذا رجوعا في الإنابة يستطيع المناب أن يتمسك به ، فإذا طالب المناب لديه بعد ذلك المناب بالدين ، جاز لهذا أن يدفع المطالبة بانقضاء الدين ، ولي في نص المادة 361 من القانون الجديد ما يحول دون هذا الدفع . ولكن إذا حول المناب لديه حقه قبل المناب إلى أجنبي ، بقى التزام المناب مجرداً بالنسبة إلى هذا الأجنبي – ذلك أن التصرف المجرد إرادة ظاهرة تجردت عن الإرادة الحقيقية وعن السبب ، وفقا لما يقضي به القانون لمصلحة يتواخها . فالقانون هو الذي يمسك بزمام التجريد ، فلا يبيحه إلا لضرورة ، وبقدر هذه الضرورة . ومن ثم تدرج التجريد تبعاً للقدر الذي تقتضيه الضرورة . وفي المثال السابق يزول التجريد بالنسبة إلى المناب لديه لأن الضرورة لا تقتضيه ، ويبقى بالنسبة إلى الأجنبي لأن الضرورة تستوجب بقاءه .

 ( [6] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 20 ابريل سنة 1930 م 42 ص 470 – الدكتور أبو عافية في التصرف المجرد فقرة 59 – فقرة 60 .

 ( [7] ) ويلاحظ أنا لشرائع التي تأخذ بالإرادة الظاهرة يغلب إلا تفسح مجالا واسعا لنظرية السبب ، وتكون فكرة السبب عندها فكرة مادية ، وتقر التصرف المجرد زراينا ذلك في القوانين الجرمانية ، وتقول الآن كلمة موجوزة عن الشريعة الإسلامية وعن القانون الإنجليزي .

فالشريعة الإسلامية تأخذ بالإرادة الظاهرة إلى مدى بعيد . ويظهر أن هذا هو الذي منع من تقدم نظرية السبب فيها مع إنها شريعة مشبعة بالروح الدينية والخلقية كالقانون الكنسي الذي هو المصدر الأول لنظرية السبب الحديثة . وإذا أمكن أن نستخلص من نصوص الفقه الإسلامي نظرية للسبب ، فهذه النظرية لا يمكن إلا أن تكون نظرية مادية . ويستطيع الباحث أن يستخلص من نصوص الفقه الإسلامي التمييز ما بين الغرض المباشر الذي قصد المتعاقدان الحصول عليه من العقد وبين الباعث له على التعاقد . فالباعث لا اثر له في صحة العقد إلا إذا ذكر صراحة وأصبح جزءاً من الاتفاق ( أنظر بحثاً في هذه المسألة في نظرية العقد للمؤلف فقرة 562 ) .

والقانون الإنجليزي كالشريعة الإسلامية نظرية السبب فيه نظرية مادية . والعقود عنده إما شكلية وهذه يكفي في صحتها الشكل وحده و وإما رضائية وهذه لا بد فيها من وجود اعتبار ( consideration ) وهو ما يقابل السبب بالمعنى المفهوم من النظرية التقليدية ، أي السبب المادي الداخلي الذي لا يتغير من ويختلف ” الاعتبار ” عن ” السبب ” في أمرين : ( 1 ) الفكرة في الاعتبار ليست هي الغنم الذي حصل عليه الملتزم من وراء التزامه كما هو الأمر في السبب ، بل هو الغرم الذي تحمله الدائن حتى يحصل على التزام المدين ( 2 ) نية التبرع لا تصلح ” اعتباراً ” في القانون الإنجليزي وتصلح ” سبباً ” في النظرية التقليدية . ومن هنا كانت عقود التبرع في القانون الإنجليزي شكلية لخلوها من ” الاعتبار ” ( نظرية العقد للمؤلف فقرة 561 ) .

منشور في مقال أقوى محامي الأردن

اذا كان لديك ملاحظة اكتبها هنا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s