مجرد السكوت قد يكون قبولا
112 – المبدأ العام : لا محل للكلام في السكوت باعتباره معبراً عن الإيجاب ، فإنه لا يتصور أن يكون مجرد السكوت إيجاباً . ولكن هل يجوز أن يكون قبولا ؟
يمكن القول بوجه عام إن السكوت في ذاته ، مجرداً عن أي ظرف ملابس له ، لا يكون تعبيراً عن الإرادة ولو قبولا ، لأن الإرادة عمل ايجابي والسكوت شيء سلبي ، ويقول فقهاء الشريعة الإسلامية : ” لا ينسب لساكت قول ” . وليس السكوت إرادة ضمنية ، فإن الإرادة الضمنية تستخلص من ظروف ايجابية تدل عليها كما سبق القول . أما السكوت فهو العدم ( [1] ) ، وأولى بالعدم أن تكون دلالته الرفض لا القبول . وهذا هو المبدأ العام ، يقول به الفقه والقضاء في مصر وفي غيرها من البلاد ( [2] ) .
113 – الاستثناء : على أن هذا المبدأ العام يقيد منه استثناءات اقرها القضاء المصري في ظل القانون القديم ، وأكدها القانون الجديد في نص صريح ، فقضت المادة 98 بما يأتي :
1 – إذا كانت طبيعة المعاملة أو العرف أو غير ذلك من الظروف تدل على أن الموجب لم يكن لينتظر تصريحا بالقبول ، فان العقد يعتبر قد تم ، إذا لم يرفض الإيجاب في وقت مناسب .
2 – ويعتبر السكوت عن الرد قبولا ، إذا كان هناك تعامل سبق بين المتعاقدين واتصل الإيجاب بهذا التعامل ، أو إذا تمخض إيجاب لمنفعة من وجه إليه ( [3] ) ” .
فالاستثناء إذن هو أن يعتبر السكوت قبولا إذا أحاطت به ظروف ملابسة من شانها أن تجعله يدل على الرضاء ( [4] ) . هذه الظروف الملابسة ضرب لها القانون الجديد الأمثلة الآتية :
( 1 ) إذا كان العرف التجاري الذي جرى عليه العمل قضي بأن السكوت يدل على الرضاء ( [5] ) ، كما إذا أرسل المصرف بيانا لعمليه عن حسابه في المصرف ، وذلك أن عدم الاعتراض على هذا البيان يعد إقراراً له ( [6] ) ، أو كانت طبيعة المعاملة تقضي بذلك ، كما إذا أرسل التاجر البضاعة لمن طلبها وأضاف في ” الفاتورة ” شروط مستجدة سكت عنها المشتري ولم يبادر إلى رفضها ( [7] ) .
( 2 ) إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين كما إذا اعتاد عميل استيراد البضائع التي يريدها من تاجر بالكتابة إليه فيرسل له التاجر ما يريد دون أن يؤذنه بالقبول . فإذا طلب العميل شيئاً وظل التاجر ساكتاً كعادته كان للعميل أن يعتبر هذا السكوت رضاء وأن التاجر سيرسل له ما طلب كما عودة ( [8] ) . وقد يكون هناك عقد سابق بين الطرفين ، فيستخلص السكوت قبولا إذا كان العقد الجديد من مكملات تنفيذ العقد السابق ، أو معدلا له ، أو فاسخاً ( [9] ) .
( 3 ) إذا تمحض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه وسكت هذا ، فيعتبر سكوته رضاء ، كالهبة التي لا تشترط فيها الرسمية تعرض على الموهوب له فيسكت ، وكعارية الاستعمال تعرض على المستعير فيلزم الصمت ( [10] ) .
وليس فيما تقدم إلا امثلة لم ترد على سبيل الحصر ، فكل سكوت تلازمه ملابسات تدل على الرضاء فهو ” سكوت ملابس ” ( [11] ) ( silence circonstancie ) ، ويعتبر قبولا ، كما إذا علم الموكل بمجاوزة الوكيل حدود الوكالة فإن سكوته إجازة ، وكالمالك الحقيقي في بيع ملك الغير إذا علم بالبيع وسكت دون عذر كان سكوته إقراراً للبيع . في كل هذا لو كان الساكت أراد أن يعترض لتكلم ، ولكنه سكت في معرض الحاجة إلى الكلام ، ويقول فقهاء الشريعة الإسلامية هنا أيضاً : ” السكوت في معرض الحاجة بيان ” .
( * ) بعض المراجع : بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 108 – ديموج في الالتزامات 1 فقرة 185 وما بعدها و 2 فقرة 556 – فاليري ف يالعقد بالمراسلة فقرة 21 وما بعدها وتعليقاته في داللوز 1905 – 1 – 345 و 1908 – 2 – 10 و 1913 – 1 – 281 – جيز في نظرية العمل السلبي ( مجلة القانون العام 10905 ص 746 ) – بارولت في السكوت باعتباره منشئاً للالتزامات ديجون 1912 – كوهن في العقد بالمراسلة باريس 1921 ص 103 وما بعدها – ليفي ديجون 1912 – كوهن في العغقد بالمراسلة باريس 1921 ص 103 وم ابعدها – ليفي ديجون 1927 – كوهين ( Cohin ) في العمل السلبي الخاطئ باريس 1929 – أوبري ورو 4 فقرة 343 – بودري وبارد 1 فقرة 44 – فقرة 48 – بنكاز تكملة بودري 2 فقرة 395 – والتون 1 ص 197 – ص 199 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 160 – فقرة 166 – الدكتور حلمي بهجت بدوي فقرة 54 – الدكتور حشمت أبو ستيت فقرة 88 .
( [1] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ينبغي التفريق بين التعبير الضمني عن الااردة وبين مجرد السكوت . فالتعبير الضمني وضع ايجابي ، أما السكوت فهو مجرد وضع سلبي . وقد يكون التعبير الضمني بحسب الأحوال ايجاباً أو قبولا ، أما السكوت فمن الممتنع على وجه الاطلاق أن يتضمن ايجاباً ، وإنما يجوز في بعض الفروض الاستثنائية أن يعتبر قبولاً ” مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 57 ) .
( [2] ) قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن سكوت الحكومة عن الرد على صاحب مصنع يطلب ترخيصاً لإقامة آلة ميكانيكية في مصنعه لا يعد قبولا أو ترخيصا من جانبها حتى لو تأخرت الحكومة عن الرد في الميعاد القانوني وحتى لو حصل صاحب المصنع على تصريحات شفيوة من بعض الموظفين بأن الحكومة ستعطيه الترخيص المطلوب ( 26 ديسمبر سنة 1929 م 42 ص 123 ) . وكذلك قضت محكمة إسكندرية الابتدائية المختلطة في دائرتها التجارية بأن سكوت المشتري أكثر من ثمانية أيام دون أن يرد على بعرض يعرضه البائع ويشترط فيه شرطاً في صفقة ظلت المفاوضات دائرة فيها بين البائع والمشتري مدة أسابيع عديدة لا يعتبر رضاء من المشتري ، بل يجب أن يكون رضاؤه واضحاً جلياً بعد هذه المفاوضات الطويلة ( 6 ديسمبر سنة 1926 جازيت 17 ص 187 رقم 276 ) . وقضت المحاكم الفرنسية بأن مجرد سكوت شخص عن الرد على خطاب يعتبره فيه مرسله مساهما في شركة معينة ويخبره فيه أنه سجل في حسابه قيمة الأسهم التي احتسبها عليه ، لا يعتبر قبولا بالاكتتاب في الأسهم المذكورة ( نقض فرنسي في 25 مايو سنة 1870 داللوز 70 – 1 – 257 وفي 18 أغسطس سنة 1909 داللوز 1910 – 1 – 207 ) ، وبان الناشر الذي يرسل لشخص دون سابق اتفاق مجلة دورية لا يحق له أن يعتبر هذا الشخص قد اشترك في هذه المجلة ما دام لم يصدر منه قبول بذلك ، ولا يعتبر قبولا مجرد امتناع هذا الشخص عن رد المجلة حتى لو ذكر في المجلة أن عدم الرد يعد قبولا بالاشتراك ( محكمة السين الابتدائية في 19 ابريل سنة 1893 جازيت دي باليه 93 – 2 – 162 – محكمة دوية الإستئنافية في 10 مارس سنة 1874 داللوز 74 – 2 – 153 ) ويلاحظ أن من يتلقى المجلة ويسكت ، إذا كان سكوته لا يعد قبولا ، فإن قبوله قد يستخلص ضمناً من أعمال مادية ايجابية يقوم بها ، كأن يواظب على تسلم المجلة وقراءتها بانتظام ( أنظر دي هلتس 1 لفظ ( convention ) فقرة 6 ) .
( [3] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 142 من المشروع التمهيدي على الوجه الوارد في القانون الجديد فيما عدا فروقا لفظية طفيفة وفيما عدا عبارة وردت في المشروع التمهيدي في آخر الفقرة الثانية نصها كالآتي : ” ويكون كذلك سكوت المشتري بعد أن يتسلم البضائع التي اشتراها قبولا لما ورد في ( القانون ) من شروط ” . ووافقت لجنة المراجعة على النص ، بعد إدخال تعديلات لفظية طفيفة ، وأصبح رقم المادة 100 في المشروع النهائي ، ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 100 . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ اعترض على الجزء الأخير من الفقرة الثانية ” ويكون كذلك سكوت المشتري ألخ ألخ ” . وبعد المناقشة قررت اللجنة بقاء المادة مع حذف هذا الجزء الأخير لأنه يواجه تطبيقاً يحسن أن يترك فيه التقدير للقضاء في كل حالة بخصوصها ، وأصبح رقم المادة 98 . ووافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 64 ) .
وانظر فيما يقابل هذا النص المادة 6 من قانون الالتزامات السويسري والمادة 180 من قانون الالتزامات اللبناني .
( [4] ) ويجوز أن يكون السكوت بمنزلة القبول لا بالنسبة إلى إتمام العقد فحسب ، بل وكذلك بالنسبة إلى إلغائه أو الإقالة منه ( استئناف مختلط 11 ابريل سنة 1917 م 29 ص 358 ) .
( [5] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ويجوز أن يجعل عرف التجارة للسكوت شان التبول . وتفريعا على ذلك قضى بأنه لا تجوز المنازعة في بيع يعتبر ف يعرف السوق تامان وفقاً للشروط المدونة في بطاقة أو مذكرة لم يردها العاقد من فوره ، متى كان هذا العرف يفرض على من يطلب نقض البيع بعد فوات الوقت أن يقيم الدليل على عدم انعقاد العقد ، وهو دليل لا يسوغ للعاقد أن يستخلصه من إهماله أو خطئه الشخصي ( استئناف مختلط في 12 فبراير سنة 1930 م 42 ص 272 ) ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 59 ) .
( [6] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 22 مارس سنة 1905 م 17 ص 169 – 9 ديسمبر سنة 1909 م 22 ص 73 – 3 فبراير سنة 1915 م 27 ص 146 – 2 مايو سنة 1916 م 28 ص 287 – 14 ديسمبر سنة 1916 م 29 ص 111 – ويلاحظ أن الأحكام السابقة إذا اعتبرت السكوت موافقة على الحساب المقدم ، فإنها تستثنى حالة الغلط في الحساب والحذف والإضافة والتزوير ، وما إلى ذلك ، فمثل هذا يصحح .
( [7] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 12 فبراير سنة 1930 م 42 ص 272 ( وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم ) – نقض فرنسي في 11 يوليه سنة 1923 سيريه 1924 – 1 – 117 – وفي 15 يوليه سنة 1926 سيريه 1926 – 1 – 262 .
( [8] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 27 ابريل سنة 1899 م 11 ص 200 – 2 مايو سنة 1912 م 24 ص 315 – 18 نوفمبر سنة 1925 م 38 ص 56 .
( [9] ) مثل استكمال تنفيذ العقد مشتر لآلات ميكانيكية استنفد الأجل المضروب لفحص هذه الآلات وطلب أجلاً جديدا لفحص تكميلي كان متوقعا في عقد البيع ، فله أن يعتبر سكوت البائع رضاء بمنحه هذا الأجل الجديد ( تقض فرنسي في 7 مارس سنة 1905 سيري 1905 – 1 – 427 ) . ومثل تعديل العقد ما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة من أنه إذا عدل البائع من شروط البيع فلم يضرب للتسليم أجلاً محددا بل جعله في أقرب ميعاد مستطاع ، وسكت المشتري على ذلك ، فسكوته يعتبر رضاء بهذا التعديل ( استئناف مختلط 18 نوفمبر سنة 1915 م 38 ص 56 ) . ومثل فسخ العقد أن شخصاً أوصى بكميات كبيرة من الفحم من انجلترا ، ثم نشبت الحرب ، فأخبره المصنع أنه يستحيل عليه إرسال ما يطلب بعد أن منعتة الحكومة الانجليزية تصدير الفحم ، فسكت ، ثم عاد بعد ذلك يطالب المصنع بتنفيذ تعهده . فقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه بصرف النظر عما إذا كان التزام المصنع أصبح تنفيذه مستحيلا بقوة قاهرة ، فإن سكوت المشتري قد جعل المصنع على حق في اعتقاده بفسخ العقد ( 11 ابريل سنة 1917 م 29 ص 358 ) .
( [10] ) وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن الشخص الذي يصدر منه إيجاب بضمان آخر يريد استئجار عين من الحكومة يعد مقيداً بهذا الضمان بمجرد رسو المزاد على من كفله دون حاجة لقبول الكفالة من جانب الحكومة ، إذ السكوت في هذه الحالة يعتبر قبولا ( 13 فبراير سنة 1896 م 8 ص 118 ) .
( [11] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” أما السكوت فمن الممتنع على وجه الإطلاق أن يتضمن إيجاباً ، وإنما يجوز في بعض فروض استثنائية أن يعتبر قبولا . وقد تناول النص هذه الفروض ، وتقل بشأنها عن تقنين الالتزامات السويسري ضابطاً مرنا يهيئ للقاضي أداة عملية للتوجيه قوامها عنصران : أولهما التثبت من عدم توقع أي قبول صريح ، وهذه الواقعة قد تستخلص من طبيعة التعامل أو من عرف التجارة وسنتها أو من ظروف الحال . والثاني التثبت من اعتصام من وجه إليه الإيجاب بالسكوت فترة معقولة . . . ويراعى . . . أن انقضاء الميعاد المعقول أو المناسب هو الذي يحدد وقت تحقق السكوت النهائي الذي يعدل القبول ويكون له حكمه ، وفي هذا الوقت يتم العقد . أما فيما يتعلق بمكان الانعقاد فيعتبر التعاقد قد تم في المكان الذي يوجد فيه الموجب عند انقضاء الميعاد المناسب إذ هو يعلم بالقبول في هذا المكان . ولم تعرض التقنينات اللاتينية ، فيما عدا استثناءات خاصة ، لقيمة السكوت كطريق من طرق التعبير عن الإرادة . بيد أن التقنينات الجرمانية وغيرها من التقنينات التي تأثرت بها تورد على النقيض من ذلك أحكاماً وافية في هذا الشأن . ويستخلص من دراسة مختلف المذاهب ومقارنتها في النصوص التشريعية وأحكام القضاء أن مجرد السكوت البسيط لا يعتبر إفصاحاً أو تعبيراً عن الإرادة . أما السكوت ” الموصوف ” وهو الذي يعرض حيث يفرض القانون التزاما بالكلام فلا يثير إشكالاً ما ، لأن القانون نفسه يتكفل بتنظيم أحكام . وليس يبقى بعد ذلك سوى ” السكوت الملابس ” وهو ما تلابسه ظروف يحمل معها محمل الإرادة ، فهو وحده الذي يواجهه النص ، محتذياً في ذلك حذو أحدث التقنينات وأرقاها ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 57 – ص 58 ) .
منشور في مقال أقوى محامي الأردن