المحل قابل للتعامل فيه


المحل قابل للتعامل فيه

 ( النظام العام والآداب )

227 – متى يعتبر الشيء غير قابل للتعامل فيه : يكون الشيء غير قابل للتعامل فيه ، فلا يصلح أن يكون محلا للالتزام ، إذا كانت طبيعته أو الغرض الذي خصص له يأبى ذلك ، أو إذا كان التعامل فيه غير مشروع .

فالشيء لا يكون قابلا للتعامل فيه بطبيعته إذا كان لا يصلح أن يكون محلا للتعاقد ، كالشمس والهواء والبحر . ويرجع عدم القابلية للتعامل إلى استحالته ( [1] ) .

وقد يصبح التعامل ممكناً في هذه الأشياء من بعض النواحي ، فأشعة الشمس يحصرها المصور ( الفوتوغرافي ) ، والهواء يستعمله الكيمائي في أغراضه ، والبحر يؤخذ من مائة ما يصلح أن يكون محلا للامتلاك . فعند ذلك نصبح الشمس والهواء والبحر قابلة للتعامل فيها من هذه النواحي الخاصة ، وتصلح إذن أن تكون محلا للالتزام .

وقد يكون الشيء غير قابل للتعامل فيه بالنظر إلى الغرض الذي خصص له . فالملك العام لا يصح بيعه ولا التصرف فيه لأنه مخصص لمنفعة عامة ، وتخصيصه هذا يتنافى مع جواز التصرف فيه . والمال الموقوف ، يجعل ريعه لسلسلة من المنتفعين ، يقتضي إلا يجوز التصرف فيه ما دام وقفاً . وعدم القابلية للتعامل هنا نسبي . فالملك العام إذا كان لا يصلح محلا للتصرف فإنه يصلح محلا للإيجار ، كما في شغل جزء من الطريق العام أو منح رخصة لإقامة حمامات أو ” كابينات ” على شواطئ البحار . والمال الموقوف إذا كان لا يجوز بيعه فإنه يجوز إيجاره . والضابط في كل هذا أن عدم القابلية للتعامل إنما يرجع إلى الغرض الذي خصص الشيء له ، فكل تعامل يتنافى مع هذا الغرض لا يجوز ، أما التعامل الذي لا يتنافى معه فهو جائز .

وقد يكون الشيء غير قابل للتعامل لأن ذلك غير مشروع . وعدم المشروعية يرجع إما إلى نص في القانون أو إلى مخالفة هذا التعامل للنظام العام أو للآداب . على أن نص القانون الذي يمنع من التعامل في الشيء يكون مبنياً على اعتبارات ترجع هي ذاتها إلى النظام العام أو إلى الآداب . فما ورد فيه نص يحرم التعامل فيه إنما هو في الوقت عينه مخالفة للنظام العام أو للآداب أولهما معاً . ووجود النص دليل على عناية المشرع بالأمر فآثر أن يورد له نصاً . أو هو إيضاح في مقام قد يكون عدم النص فيه مؤدياً للغموض ، كالنص الذي يحرم التعامل في التركة المستقبلة . أو هو تحديد لأمر يرى المشرع تحديده ، كما حدد الربا الفاحش . أو هو تحريم لأمر تقضي ظروف البلد الخاصة بتحريمه ، كما حظر المشرع المصري لااتجار في الحشيش والمخدرات وكما حرم ببيع الوفاء . فيمكن القول إذن أن المحل يكون غير مشروع إذا كان مخالفاً للنظام العام أو الآداب ، سواء ورد نص في القانون بتحريمه أو لم يرد . وتقرر المادة 135 من القانون المدني الجديد هذه القاعدة العامة في العبارات الآتية : ” إذا كان محل الالتزام مخالفاً للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلا ( [2] ) ” . فلا يجوز إذن أن يكون الشيء المخالف للنظام العام أو الآداب محلا للالتزام ، ويستتبع ذلك أنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف النظام العام الآداب .

فإذا عرفنا النظام العام والآداب أمكن أن نقرر ما إذا كان نص معين في القانون يعتبر من النظام العام أو الآداب فلا يجوز الاتفاق على ما يخالفه ، وأمكن أيضاً أن نقرر حتى عند انعدام النص ما إذا كان الشيء مخالفاً للنظام العام أو الآداب فلا يصح أن يقوم عليه الالتزام . وهذا ما نتولى الآن بحثه .

228 – النظام العام والآداب ( * ) L’ordre public et les bonnes moeurs : القواعد القانونية التي تعتبر من النظام العام هي قواعد يقصد بها إلى تحقيق مصلحة عامة ، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ، تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد . فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها ، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم ، حتى لو حققت هذه الاتفاقات لهم مصالح فردية ، فإن المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة . ويلاحظ أن دائرة النظام العام تضيق إذا تغلبت نزعة المذاهب الفردية ، فإن هذه المذاهب تطلق الحرية للفرد ، فلا تتدخل الدولة في شؤونه ، ولا تحميه إذا كان ضعيفاً ، ولا تكبح جماحه إذا كان قوياً ، فإذا تغلبت النزعة الاشتراكية ومذاهب التضامن الاجتماعية اتسعت دائرة النظام العام ، وأصبحت الدولة تقوم بشؤون كانت تتركها للفرد ، وتتولى حماية الضعيف ضد القوى . بل هي تحمي الضعيف ضد نفسه ، كما رأينا ذلك في عقود الإذعان وفي نظرية الاستغلال . ولا تستطيع أن نحصر النظام العام في دائرة دون أخرى ، فهو شيء متغير ، يضيق ويتسع حسب ما يعده الناس في حضارة معينة ” مصلحة عامة ” . ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد ” النظام العام ” تحديداً مطلقاً يتمشى على كل زمان ومكان ، لأن النظام العام شيء نسبي ، وكل ما تستطيع هو أن نضع معياراً مرناً يكون معيار ” المصلحة العامة ” ، وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة يؤدي إلى نتائج غير التي نصل إليها في حضارة أخرى ( [3] ) .

والآداب ، في امة معينة وفي جيل معين ، هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقاً لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية . وهذا الناموس الأدبي هو وليد المعتقدات الموروثة والعادات المتأصلة وما جرى به العرف وتواضع عليه الناس . وللدين اثر كبير في تكييفه . وكلما اقترب الدين من الحضارة ، كلما ارتفع المعيار الخلقي ، وزاد التشدد فيه . ومن هنا نرى أن العوامل التي تكيف الناموس الأدبي كثيرة مختلفة . فالعادات والعرف والدين والتقاليد وإلى جانب ذلك ، بل في الصميم منه ، ميزان إنساني يزن الحسن والقبح ، ونوع من الإلهام البشري يميز بين الخير والشر ، كل هذه العوامل مجتمعة توجد الناموس الأدبي الذي تخضع الناس له ، ولو لم يأمرهم القانون بذلك . ومعيار الآداب أو ” الناموس الأدبي ” ليس معياراً ذاتياً يرجع فيه كل شخص لنفسه ولتقديره الذاتي ، بل هو معيار اجتماعي يرجع فيه الشخص لما تواضع عليه الناس . وهو في ذات الوقت معيار غير ثابت ، يتطور تبعاً لتطور الفكرة الأدبية في حضارة معينة فهناك أمور كانت تعتبر مخالفة لأداب فيما مضى ، كالتامين على الحياة والوساطة في الزواج والعرى ، أصبحت الآن ينظر لها نظراً آخر . وهناك بالعكس أمور أصبحت الآن مخالفة للآداب ، كالسترقاق وإدخال المهربات في بلاد أجنبية ، وكانت من قبل غير ذلك ( [4] ) .

ونرى من ذلك أن النظام العام والآداب هما الباب الذي تدخل منه العوامل الاجتماعية والاقتصادية والخلقية ، فتؤثر في القانون وروابطه ، وتجعله يتمشى مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والخلقية في الجيل والبيئة . وتتسع دائرة النظام العام والآداب أو تضيق تبعاً لهذه التطورات ، وطريقة فهم الناس لنظم عصرهم ، وما تواضعوا عليه من آداب ، وتبعاً لتقدم العلوم الاجتماعية . كل هذا يترك للقاضي يفسره التفسير الملائم لروح عصره ، فالقاضي يكاد إذن يكون مشرعاً في هذه الدائرة المرنة ، بل هو مشرع يتقيد بآداب عصره ونظم أمته الأساسية ومصالحها العامة ( [5] ) . ونحن في العصور الحاضرة نشهد تغلب النزعة الاشتراكية واتساع دائرة النظام العام من ناحية ، ونشهد من ناحية أخرى تأثر القانون المضطرد بالعوامل الخلقية ، حتى صح أن يسمى هذا العصر بعصر تغلغل الروح الاشتراكية والروح الخلقية في القانون ( socialization et moralization du droit ) ( [6] ) . على أن الفكرتين اللتين تسودان النظام العام والآداب ، فتبعثان فيهما الخصب والمرونة والقابلية للتطور هما :

 ( أولاً ) فكرة المعيار ، فمعيار النظام العام هو المصلحة العامة ، ومعيار الآداب هو الناموس الأدبي ، وهما معياران موضوعيان لا ذاتيان .

 ( وثانياً ) فكرة النسبية ، فلا يمكن تحديد دائرة النظام العام والآداب إلا في امة معينة ، وفي جيل معين .

وخير سبيل لتحديد ما يراد بالنظام العام والآداب أن نورد تطبيقات عملية لذلك ، فنستعرض اتفاقات تخالف النظام العام ، وأخرى تخالف الآداب ، في عصرنا الحاضر .


 ( [1] ) أما إذا كان الشيء يمكن التعامل فيه ولكن لا مالك له ، فهو مال مباح ، كالطير في الهواء والسمك في البحر ، ويملكه من يستولى عليه ويستطيع أن يتعامل فيه .

 ( [2] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 188 من المشروع التمهيدي على النحو الآتي : ” يكون محل الالتزام غير مشروع إذا كان مخالفا للنظام العام أو الآداب ” . وفي لجنة المراجعة عدل النص لايراد الحكم القاضي ببطلان العقد ، فأصبح مماثلا للنص الذي انتهى إليه القانون الجديد ، وقدم في المشروع النهائي تحت رقم 139 . ووافق مجلس النواب عليه تحت الرقم ذاته . ثم وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 135 ، وكذلك وافق عليه مجلس الشيوخ دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 222 – ص 224 ) .

 ( [3] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ويلاحظ أن فكرة النظام العام فكرة مرنة جداً . وقد بلغ من أمر مرونتها أن عمد التقنين الألماني إلى إغفال النص عليها عند صياغة المادة 138 . فعلى اثر مناقشات هامة عنيفة جرت بوجه خاص في مجلس الريشتاج انتهى الأمر إلى استبعاد نصوص مختلفة جاء ففيها ذكر العقد المخالف للآداب وللنظام العام كذلك . وكان الاعتقاد السائد أن نظرية النظام العام تنطوي على فكرة عامة مجردة قد تترتب عليها نتائج بالغة الخطورة ، من بينها أن القاضي ربما أباح لنفسه أن يتخذ من النظام العام نظرية فلسفية أو دينية يبينها على مجموعة المبادئ الدستورية أو على سياسة التشريع العامة أو على رأيه الخاص في المسائل الاجتماعية أو الفلسفة الأخلاقية أو الدينية . وقد دافع الحزب الاشتراكي بكل قوته عن النص المقرر لمفكرة النظام العام . وكان يرمي من ذلك إلى اعتبار كل عقد لا يتفق ومبادئ حماية الطبقة العاملة مخالفا للنظام العام . على أن هذه النتائج بذاتها هي التي جعلت غالبية أعضاء الريشتاج تنفر من النص المقرر للنظام العام ومن كل معيار نظري ، وترغب في وضع معيار عملي بحث قوامه العرف والمبادئ المستقاة من الآداب العامة . وعلى هذا النحو لا تكون الاتفاقات التي أشار إليها الحزب الاشتراكي باطلة طبقاً لمذهب من المذاهب الاشتراكية وإنما بناء على التيار الاجتماعي للآداب العامة ( تعليقات على التقنين الألماني الجزء الأول ص 154 – ص 155 ) . ومهما يكن من أمر فليس في الوسع نبذ فكرة النظام العام دون أن يستتبع ذلك اطراح ما توطد واستقر من التقاليد . وقد رؤى من الواجب أن يفرد مكان لهذه الفكرة في نصوص المشروع لتظل منفذاً رئيسياً تجد منهن التيارات الاجتماعية والأخلاقية سبيلها إلى النظام القانوني لتثبت فيه ما يعوزه من عناصر الجدة والحياة . بيد أنه يخلق بالقاضي أن يتحرز من إحلال آرائه الخاصة في العدل الاجتماعي محل ذلك التيار الجامع للنظام العام أو الآداب . فالواجب يقتضيه أن يطبق مذهباً عاماً تدين به الجماعة بأسرها لا مذهبا فردياً خاصاً ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 223 ) .

 ( [4] ) وقد يستعين القانون على جعل القواعد الخلقية تتدخل في الروابط القانونية من طريق الالتزام الطبيعي . فالاعتراف بالجميل قاعدة خلقية لا يجعلها القانون ملزمة ، ولكن إذا أعطى شخص آخر مالا ، لا تكرما منه بل اعترافا بجميل عليه ، فالقانون يعد هذا وفاء لالتزام طبيعي وليس تبرعا . فالقانون إذن قد ينهي بطريق غير مباشر عما تنهي عنه الأخلاق مباشرة ، بان يجعل الاتفاق المخالف للآداب باطلا . وقد يأمر ، بطريق غير مباشر أيضاً ، بما تأمر به الأخلاق مباشرة ، بان يجعل هذا الذي تأمر به التزاما طبيعيا في ذمة المدين .

 ( [5] ) ومن هنا كان البت فيما إذا كانت قاعدة قانونية تعتبر من النظام العام أو من الاداب مسالة قانون ن تخضع لرقابة محكمة النقض ز

 ( [6] ) ومما هو جدير بالذكر أنه حيث تتسع دائرة النظام العام يضيق مبدأ سلطان الإرادة ، وحيث تضيق هذه الدائرة يتسع المبدأ . وقد سبق أن بينا أن مبدأ سلطان الإرادة يتقيد بالنظام العام والآداب .

اذا كان لديك ملاحظة اكتبها هنا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s