تعريف للالتزام
12 – القانون المدني القديم وتعريف القانون الفرنسي : بعد هذه النظرة العامة للالتزام يمكن الآن أن نختار تعريفاً له . ونذكر قبل ذلك تعريف القانون المدني القديم وتعريف القانون الفرنسي . فقد كانت المادتان 90 / 144 من القانون المدني القديم تنصان على أن ” التعهد قو ارتباط قانوني الغرض منه هو حصول منفعة لشخص الغرض منه هو حصول منفعة لشخص بالتزام المتعهد بعمل شيء معين أو بامتناعه عنه ” . والقانون القديم كان يسمي الالتزام ” تعهداً ” . ولفظ ” الالتزام ” أدق ، لأن التعهد قد يفهم على أنه التزام مصدره العقد دون غيره من المصادر الأخرى .
وقد ورد تعريف الالتزام في القانون الفرنسي عرضاً في صدد تعريف العقد . فنصت المادة 1101 من هذا القانون علي أن ” العقد اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو أكثر نحو شخص آخر أو أكثر بإعطاء شيء أو بالقيام تعمل أو بالامتناع عن عمل ” . وتعريف القانون الفرنسي يقرب من تعريف القانون المدني القديم في أن كلا منهما ينص أن محل الالتزام قد يكون إعطاء شيء ، (donner ) ، أي نقل ملكية أو حق عيني . والقانون المدني القديم يدخل الالتزام بإعطاء شيء في دائرة الالتزام تعمل .
13 – التعريف الذي ورد في المشروع التمهيدي للتقنين المدني : الجدير : وقد كان المشروع التمهيدي للتقنين المدني الجديد ، في المادة 121 ، يعرف الالتزام على الوجه الآتي ” الالتزام حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل ” .
وقد ورد في المذكرة الإيضاحية لهذا المشروع ، تعليقاً على هذا النص ، ما يأتي ( [1] ) ” كان في الوسع تعريف الالتزام بأنه علاقة قانونية أو رابطة من رواب القانون ، ولا سيما أن هذا هو التعريف التقليدي الذي ورد في التقنين المصري الحالي ( م 90 / 144 ) . بيد أنه يخشي من سياق التعريف على هذا الوجه أن يكون في ذلك قطع برأي معين في مسألة حظها من الخلاف في الفقه الحديث غير قليل . والواقع أن تعريف الالتزام بأنه رابطة قانونية إنما هو اعتناق للمذهب الشخصي ، مع ا ن الطابع المادي للالتزام أخذ يتزايد نصيبه من البروز في التشريع الحديث . وقد آثر المشروع أن يعرف الالتزام بأنه حالة قانونية تأكيداً لهذه النزعة الحديثة . وقي تعد نزعة الشريعة لغراء في تصويرها بفكرة الالتزام . ويراعي من ناحية أخري أن ذكر الدائن قد أغفل في التعريف إغفالا تاماً ولم يذكر إلا المدين . وهذا وجه آخر من وجوه التصوير المادي لالتزام . فالالتزام ، مجرداً من الدائن ، مرتبطاً بالمدين وحده ، إنما يكون عنصراً سلبياً من عناصر الذمه المالية أكثر منه علاقة قانونية تربط ما بين شخصين . وينهض لتوجيه هذا النظر ما استقر عله العمل . فمن الميسور عملا تصور التزام ليس له دائن وقت نشوئه ، والاشتراط لمصلحة الغير حافل بالتطبيقات التي يمكن أن تساق في هذا الصدد على أن الطابع الشخصي لم يهمل إهمالا تاماً . فالالتزام ، كما هو مدكور في التعريف ، يستتبع بالضرورة وجود شخص ملزم هو المدين . ومؤدي ذلك أن لكل التزام مديناً يعتبر شخصه عنصراً جوهرياً من عناصره ، وهذا هو نصيب الطابع الشخصي من فكرة الالتزام ” .
وقد رؤى حذف هذا النص في المشروع النهائي تجنباً التعريفات بقدر الإمكان فيما لا ضرورة لتعريفه وتحرزاً من تأكيد الطابع المادي الالتزام في نص تشريعي تأكيداً قد يجعله يطغي على الطابع الشخصي . فالتعريف الذي ورد في المشروع التمهيدي أليق أن يكون مكانه الفقه لا التشريع ( [2] ) .
14 – التعريف الذي تختاره : وفي رأينا أن خير تعريف للالتزام ، في المرحلة التي وصل إليها من التطور في الوقت الحاضر ، هو التعريف الذي يبرز المسألتين الآتيتين :
( أولا ) أن للالتزام ناحية مادية كما أن له ناحية شخصية . فهو حالة قانونية تربط شخصاً معيناً .
( ثانياً ) أنه ليس ضرورياً أن يوجد الدائن منذ نشوء الالتزام .
وعندنا أن التعريف الآتي يفي بهذا الفرق :
” الالتزام حالة قانونية يرتبط بمقتضاها شخص معين بنقل حق عيني أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل ” .
4 – أهمية نظرية الالتزام
وتأثرها بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والأدبية
14 – أهمية نظرية الالتزام : بعد ما قدمنا من تحديد لنظرية الالتزام بقي أن ندل على ما لهذه النظرية من شأن وخطر . فهي من القانون المدني ، بل ومن القانون عامة ، بمثابة العمود الفقري من الجيم . ويجعل لها تارد ( ( tarde في علم القانون مكان نظرية القيمة في علم الاقتصاد السياسي . ويجد علماء القانون فيها مجالا فسيحاً للسمو بالمنطق القانوني إلي أرفع مكان . بل قد يبالغ بعض الفقهاء فيغفل ما تشتمل عليه هذه النظرية من حقائق اجتماعية واقتصادية وأدبية ، ويجردها من كل ذلك ، ويبرزها قواعد فنية خالية إلا من المنطق المحض ، قريبة من المسائل الرياضية والعلوم الطبيعية . بل أن البعض قد غالي إلي حد أن وضع لها أسساً رياضية يضاهي بها النظريات الهندسية .
16 – تطور النظرية : على أنه إذا صح أن نظرية الالتزام هي أصلح النظرية قانونية ميداناً للتفكير المنطقي ، و أذا صح أيضاً أنها أولي النظريات قابلية للتوحيد في شرائع الأمم المختلفة لوحدة أصلها التاريخي ولسيادة المنطق فيها ، فليس بصحيح ما يزعم بعض الفقهاء من أن هذه النظرية لم تتطور ، بل بقيت ثابتة على الزمن ، تلقيناها عن الرومان كنا هي دون تعيير يذكر . والصحيح أن نظرية الالتزام تطروا تطوراً كبيراً منذ عهد الرومان إلي النوم . وقد تأثرت في تطورها بعوامل اجتماعية واقتصادية وأدبية .
17 – تأثر النظرية بالعوامل الاجتماعية : فالنظريات الاشتراكية وما في منحاها من النظريات الأخرى أثرت في نظرية الالتزام تأثيراً واضحاً . هذا عقد العمل ، وقد أخذ يزدحن بالقواعد والأحكام التي تهدف إلي حماية العمال وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن لهم من قبل كطرية الاجتماع وحق تكوين النهابات وحق الإضرات . وهذه نظرية العقد ذاتها ، وقد أخذت قوة الإلزام في العقد تبني فيها على التضامن الاجتماعي أكثر مما تقوم على إرادة الفرد . وهذه عقود الإذعان ، وقد أخذت الدولة تتدخل في تنظيمها حتى لا تترك جانب المستهلك دون حماية وهو الجانب الضعيف . وهذه نظرية الغبن ، وقد أخذت تتسع في القوانين الحديثة حتى أصبحت نظرية عامة تنطبق على جميع العقود على خلاف ما كانت تقضي به النظريات الفردية من وجوب ترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم تما أراد مهما أصابه من غبن في ذلك .
18 – تأثر النظرية بالعوامل الاقتصادية : كذلك كان للعوامل الاقتصادية تأثير كبير في نظرية الالتزام . فقد كان من شأن السرعة في تداول المال أن أخذ المذهب المادي لالتزام يبرز إلي جانب المذهب الشخصي كما قدمنا . وحدت ظاهرة اقتصادية أخرى هي استغلال القوات الطبيعية استغلالا اقتصادياً مما أدي إلي استعمال مختلف الآلات الميكانيكية . وكان لهذا أثره في نظرية الالتزام ، فقد اقترن تقدم الآلات وكثرة استعمالها بمخاطر جمة تستهدف لها الناس ، وكان هذا سبباً في تأسيس المسئولية على الخطأ المفروض ، بل وفي خلق نظرية تحمل التبعة . وكان من ذلك أيضاً أن اتسع نطاق عقد التأمين بأنواعه المختلفة ، فوسع من نظرية الاشتراط لمصلحة الغير حتى بدت في ثوب جديد . وظاهرة اقتصادية ثالثة كان لها أثرها ي نظرية الالتزام قي تجمع رؤوس الأموال للإنتاج على أثر تقدم الصناعة ، وكان من وراء ذلك أن جدت نظريات في تنظيم النشاط الاقتصادي ، وأدى ازدياد هذا النشاط إلى خلق أنواع جديدة من العقود لم تكن معروفة من قبل ، كالعقود الجماعية والعقود النموذجية وعقود التزام المرافق العامة . هذا إلى أن المشاكل الاقتصادية بعد الحربين العالميتين الاخيرتين قد خلقت نظريات قانونية جديدة . نرى هذا في نظرية الظروف الطارئة ، وفي نظرية الوفاء بعملة نقص سعرها وما يتصل بذلك من ” شرط الذهب ” ، وفي التسعير الجبري للسلع والأجر .
19 – تأثر النظرية بالعوامل الأدبية : أما تأثير العوامل الأدبية في نظرية الالتزام فهو قديم . فالنظرية التي تقضى بان الغش يفسد العقود ، ونظرية التعسف في استعمال الحق ، والمبدأ القاضي بأنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام ، كل هذه نظريات مشبعة بالروح الأدبية ، وهي تقوم على محاربة سوء النية والضرب على أيدي العابثين بالأخلاق والآداب العامة . وهناك الالتزامات الطبيعية ، وهي التزامات تمت بصلة متينة إلى قواعد الأخلاق ، يعترف بها القانون ويضع لها نوعاً من الجزاء ، فتمتزج المثل الأدبية بالقواعد القانونية حتى تصبح شيئا واحداً . هذا إلى أن المصادر غير التعاقدية للالتزام إنما تقوم على أساس متين من القواعد الأدبية . فالالتزام بالتعويض عن العمل الضار يستند إلى التزام بوجوب الامتناع عن الأضرار بالغير دون حق . كذلك مبدأ الإثراء بلا سبب يمنع الشخص من أن ينتفع على حساب غيره . والالتزامات التي ينشئها القانون ، كالتزامات الجوار والتزامات أفراد الأسرة بعضهم نحو بعض ، هي في الواقع أوامر ونواه أدبية تقضي بوجوب العطف على الجار والكف عن إيذائه والبر بذوى القربى والأرحام . فإذا قلنا أن القانون إنما يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لا نكون مبالغلين في هذا القول ، ونكون قد دللنا في الوقت ذاته على أن القانون والأخلاق شيئان متلازمان .
( [1] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 9 في الهامش .
( [2] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 9 في الهامش .
منشور في مقال أقوى محامي الأردن