تنفيذ العقد قد يقوم مقام القبول
114 – يعتبر القضاء المصري أن التنفيذ الاختياري للإيجاب يقوم مقام القبول ، فيتم العقد به ، ويعتبر قبولا ضمنياً ( [1] ) . أما الزمان والمكان اللذان يتم فيها العقد فيتبع في شأن تحديدهما القواعد العامة إذ لا يوجد نص خاص في ذلك . وتقضي القواعد العامة – على ما سنرى – أن العقد يتم وقت أن يعلم الموجب بهذا التنفيذ الاختياري وفي المكان الذي علم فيه ذلك ( م 97 ) ، ما لم يوجد اتفاق بين المتعاقدين يحدد وقتاً أو مكاناً آخر ، كأن يتضح من إرادة الموجب أنه قصد أن يتم العقد من وقت التنفيذ وفي مكانه فيقوم الموجب له بالتنفيذ وفقاً لهذه الإرادة .
وكانا لمشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذه المسألة ، فكانت المادة 143 من هذا المشروع تقضي بأنه ” إذا تبين من إرادة الموجب أو من طبيعة التعامل أو من مقتضى العرف أن تنفيذ العقد يقوم مقام القبول ، فإن العقد يعتبر قد تم في الزمان وفي المكان اللذين بدأ فيهما التنفيذ . ويجب في هذه الحالة المبادرة بإخطار الطرف الآخر ببدء التنفيذ ” . ولكن هذا النص حذف في المشروع النهائي ، حذفته لجنة المراجعة لأنه ” من التفصيلات التي لا ضرورة لها ( [2] ) ” . على أن النص لو استبقى لبقى وقت تمام العقد ومكانه محددين بحصول التنفيذ لا بعلم الموجب به متى اتضح ذلك ، لا من إرادة الموجب فحسب ، بل أيضاً من طبيعة التعامل أو من مقتضى العرف ، ولوجب على الموجب له أن يبادر بإخطار الموجب ببدء التنفيذ ، ولا يكون هذا الأخطار إلا إبلاغاً للقبول الضمني الذي صدر منذ أن وقع البدء بالتنفيذ ( [3] ) .
الحالة الثالثة – القبول في عقود المزاد :
115 – هناك عقود تتم في بعض الأحيان لا من طريق الممارسة ، بل من طريق المزايدة . واهم هذه العقود البيع والإيجار . فالبيع الجبري عن طريق القضاء أو عن طريق الإدارة يتم بالمزاد . وكذلك البيوع التي تجريها المحاكم الحسبية . وقد يقع البيع الاختياري كذلك بطريق المزاد إذا اختار البائع هذا الطريق . وكثيرا ما تؤجر الجهات الحكومية ووزارة الأوقاف أراضي وعقارات بطريق المزاد . ويعنينا في العقود التي تتم بالمزايدة أن نعرف متى يتم الإيجاب ومتى يتم القبول . فقد بظن أن طرح الصفقة في المزاد هو الإيجاب ، والتقدم بالعطاء هو القبول . وليس هذا صحيحاً . فإن طرح الصفقة في المزاد لا يعدو أن يكون دعوة إلى التعاقد عن طريق التقدم بعطاء ، والتقدم بعطاء هو الإيجاب . أما القبول فلا يتم إلا برسو الم 1زاد ، ويكون هو إرساء المزاد على من يرسو عليه . وهذا هو الذي جرى عليه القضاء المصري في ظل القانون القديم ، فقد كان يعتبر التقدم بالعطاء إيجاباً لا قبولا ، ويرتب على ذلك جواز الرجوع فيه قبل إرساء المزاد ( [4] ) .
وأكد هذا المبدأ القانون الجديد بنص صريح . فقضت المادة 99 بما يأتي : ” لا يتم العقد في المزايدات إلا برسوم المزاد ، ويسقط العطاء بعطاء يزيد عليه ولو كان باطلا ( [5] ) ” . والعطاء يكون باطلا إذا صدر مثلا من شخص لا يجوز له التعاقد في الصفقة المطروحة في المزاد ، كقاض يتقدم بعطاء في مزاد لبيع عين متنازع عليها إذا كان نظر النزاع يقع في اختصاصه . ويكون قابلا للإبطال إذا صدر مثلا من قاصر أو محجور عليه . فإذا بطل العطاء في الحالين لم يبطل أثره وهو إسقاط العطاء الذي تقدمه .
( [1] ) قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن تنفيذ أحد العاقدين لاتفاق رغم وجود بعض مآخذ كان بوسعه أن يتمسك بها قبل التنفيذ يحول دون طلب القضاء بإبطال هذا الاتفاق أو تعديل شروطه فيما بعد ( 20 مارس سنة 1935 م 47 ص 213 ) . وقضت محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة بأنه يجوز أن يستفاد الرضاء من القيام بعمل من أعمال التنفيذ لا سبيل معه إلى الشك في انصراف نية العاقد الذي لم يوقع العقد إلى القبول ( 6 يونية سنة 1916 جازيت 7 ص 19 ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن خير طريقة لتفسير العقد تستخلص من التنفيذ الذي ارتضاه العاقدان ( 16 مايو سنة 1916 م 28 ص 233 – 16 فبراير سنة 1922 م 34 ص 182 ) . وقضت أيضاً بأن شركة المياه التي تعاقدت مع مشترك على توريد المياه له على أساس الربط الجزاف لا يجوز لها أن تلزمه بدفع ثمن ما يستهلكه على أساس ما يحتسبه العداد ما لم تقم الدليل على إنها ألغت التعاقد على أساس الربط الجزاف ( 21 مارس سنة 1917 م 29 ص 301 – 24 ابريل سنة 1930 م 42 ص 447 ) .
( [2] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 56 – ص 57 . وانظر المادة 3 من المشروع الفرنسي الإيطالي .
( [3] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” يتناول هذا النص حالة تقرب من حالة السكوت . إلا أن التنفيذ الاختياري الذي يكون متقدما على الرد يدخل في نطاق القبول الضمني . ويراعى أن الأخطار ببدء التنفيذ ليس إلا إبلاغاً للقبول الضمن الذي صدر منذ أن حدث البدء في التنفيذ . فهذا الحادث هو الذي يحدد الزمان والمكان اللذين يتم فيهاما العقد دون حاجة إلى انتظار علم الموجب بذلك . وقد استثنيت هذه الحالة كما استثنيت حالة السكوت من حكم القاعدة التي تقضي بأن التعاقد ما بين الغائبين يعتبر تاما في الزمان والمكان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 56 – ص 57 في الهامش ) . ويلاحظ أنه اشير في المذكرة الإيضاحية إلى استثناء حالة السكوت أيضاً من حكم القاعدة التي تقضي بأن التعاقد ما بين الغائبين يعتبر تاما في الزمان والمكان اللذين يعلم فيهما الموجب بالقبول . وهذا يحتاج إلى تفصيل . فقد رأينا فيما قدمناه في موضع آخر من المذكرة الإيضاحية أن هذا الاستثناء لا يقوم إلا في تحديد الزمان . أن تحديد المكان فتجري عليه القاعدة العامة ، ويعتبر التعاقد عن طريق السكوت قد تم في المكان الذي يوجد فيه الموجب عند انقضاء الميعاد المناسب إذ هو يعمل بالقبول في هذا المكان . على أن الاستثناء بالنسبة إلى زمان العقد ليس إلا استثناء ظاهريا ، إذ أن السكوت إذا اعتبر قبولا يكون صدوره والعلم به حاصلين في وقت واحد ، فلا ؟؟؟ نظريتي الإعلان والعلم في هذا الخصوص .
( [4] ) وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأن العطاء الذي يتقدم به شخص في بيع يجري بالمزاد العلني أمام المجلس الحسبي ، ثم يرجع فيه قبل موافقة المجلس ، يعتبر إيجاباً يجب أن يتعلق به قبول المجلسن ويجوز على ذلك الرجوع فيه قبل القبول ( 9 يونيه سنة 1932 المحاماة 13 ص 281 ) . وقد يشترط من يطرح الصفقة في المزاد صراحة أن له الخيار بلا قيد في قبول أي عطاء أو رفضه ، فيكون الشرط صحيحاً . وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بأنه إذا عرضت في المزاد ارض لتأجيرها على مقتضى شروط واردة بقائمة المزاد تتضمن أن لصاحب الأرض الخيار بلا قيد في قبول أو رفض أي عطاء ، فإن تقديم العطاء ، ومجرد قبول المالك لجزء من التامين النقدي وتحريره إيصالاً عنه لم ينص فيه إلا على أن صاحب العطاء ملتزم بدفع باقي التامين في اجل حدده بكتابة منه على القائمة ولم يشر فيه بشيء إلى حقوق صاحب الأرض الواردة في قائمة المزاد ، بل بالعكس اشر على القائمة في يوم حصول المزاد الذي حرر فيه الإيصال بأن المالك لا يزال محتفظا بحقه في قبول أو رفض العطاء – كل ذلك لا يفيد تمام عقد الإيجار بين الطرفين ، ولا يمنع المالك من أن يستعمل حقه في قبول العطاء أو عدم قبوله في أي وقت شاء حتى بعد انصراف صاحبه . فإذا هو فعل ذلك في نفس اليوم فقبل عطاء آخر بأجرة أكثر وحرر بالفعل عقد الإيجار بعد أن دون هذا العطاء الآخر في القائمة قبل إقفال المزاد ، كان هذا هو العقد التام اللازم ( نقض مدني في 15 ديسمبر سنة 1938 مجموعة عمر 2 رقم 149 ص 443 ) .
أما إذا أرسى من طرح الصفقة المزاد على من رسا عليه ، فقد تم العقد ولا يجوز للراسى عليه المزاد الرجوع فيه بعد ذلك . وقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنه ما دام قد ثبت بمحاضر جلسة المجلس الحسبي أن الراسى عليه المزاد قبل الشراء بثمن معين ، ووافق المجلس الحسبي على هذا الثمن وقرر إيقاع البيع ، وما دام الإيجاب والقبول قد وقعا ممن يملكون التعاقد وحصل الاتفاق على المبيع والثمن ، فيكون البيع قد تم ، ولا عبرة بتحرير العقد لأن العقد ليس إلا السند الكتابي للبيع ، وليس للراسي عليه المزاد أن يرجع بعد ذلك في العقد من تلقاء نفسه ، لأنه لا يملك الجوع بغير إرادة الطرف الآخر ( 14 فبراير سنة 1935 المحاماة 15 رقم 317 / 2 ص 372 ) .
وقد يقدم شخص عطاء يكون عرضاً مستجداً ومستقلا عن شروط المناقصة ، فإذا قبله من طرح الصفقة في المناقصة تم العقد بينهما ، ولا يجوز الرجوع فيه بعد ذلك ( أنظر في هذا المعنى : نقض مدني في 13 يناير سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 368 ص 699 ) .
ويلاحظ في كل ما قدمناه أن هذا هو القضاء المصري في ظل القانون القديم ، حيث كان الإيجاب غير ملزم ويجوز الرجوع فيه مادام أنه لم يقترن بالقبول . أما في ظل القانون الجديد حيث الإيجاب ملزم إذا اقترن بأجل ولو ضمني ، فقد قدمنا أن صاحب العطاء لا يجوز له الرجوع في عطائه بعد أن يصل العطاء إلى علم من وجه له ، لأن العطاء يعتبر إيجاباً ملزماً إذ هو قد اقترن بأجل ضمني هو فض المظاريف وإرساء العطاء على من يرسو عليه .
( [5] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 144 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” لا يتم العقد في المزايدات إلا برسو المزاد . ويسقط العطاء بعطاء يزيد عليه ، أو باقفال المزاد دون أن يرسو على أحد ” . ولما تلى النص في لجنة المراجعة ، اضافت اللجنة عبارة ” ولو كان باطلا ” بعد عبارة ” عطاء يزيد عليه ” ، وأصبح رقم المادة 101 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 101 . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تناقش الأعضاء في حكم المزايدات التي يشترط في اعلانها أن لصاحب الشان الحق في رفض أو قبول أي عطاء يقدم فيها ، فقيل إن إرساء المزاد لا يتم إلا باستعمال حق الخيار المشروط في الإعلان ، وفي حكم المزايدات الحكومية التي تحتاج إلى تصديق طبقا للقواعد المالية ، فقيل أنه لا يمكن إرساء المزاد إلا بعد التصديق عليه إذ التصديق هو القبول بارساء ممن يملكه . وسال أحد الأعضاء كيف يكون العطاء باطلا ، فاجيب . بإمكان تحقق ذلك فيما لو كان صاحب العطاء قاصراً أو معتوهاً . ثم وافقت اللجنة على المادة مع حذف عبارة ” أو بإقفال المزاد دون أن يرسو على أحد ” ، وقد راعت في ذلك أن الارساء هو الذي يتم به العقد ، فإيراد هذه العبارة يكون مجرد تزيد قد يحمل على محمل آخر . وأصبح رقم المادة 99 . ثم وافق مجلس الشيوخ على المادة كما عدلتها اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 64 – ص 67 ) .
هذا وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ينطبق هذا النص على جميع عقود المزايدات ، وبوجه خاص على البيوع والإيجارات التي تجري بطريق المزايدة وهو يحم خلافاً طال عهد الفقه به . فافتتاح المزايدة على الثمن ليس في نطق النص إلا دعوة للتقدم بالعطاءات . والتقدم بالعطاء هو الإيجاب . أما القبول فلا يتم إلا برسو المزاد . وقد اعرض المشروع عن المذهب الذي يرى في افتتاح المزايدة على الثمن إيجاباً وفي التقدم بالعطاء قبولا . ويراعى أن العطاء الذي تلحق به صفة القبول ، وفقاً لحكم النص ، يسقط بعطاء يزيد عليه حتى لو كان هذا العطاء باطلا أو قابلا للبطلان ، بل ولو رفض فيما بعد . ويسقط كذلك إذا اقفل المزاد دون أن يرسو على أحد . وليس في ذلك إلا تطبيق للقواعد العامة ، فما دام التقدم بالعطاء هو الإيجاب فهو يسقط إذا لم يصادفه القبول قبل انقضاء الميعاد المحدد . أما الميعاد في هذا الفرض فيحدد اقتضاء من دلالة ظروف الحال ومن نية المتعاقدين الضمنية ، وهو ينقضي بلا شك عند التقدم بعطاء اكبر أو بإقفال المزاد دون أن رسو على أحد ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 64 – ص 65 ) .
نضيف إلى ما تقدم أن العطاء اللاحق يسقط العطاء السابق ، لا باعتباره تصرفا قانونياً بل باعتباره واقعة مادية . ولا يمنع العطاء اللاحق أن يكون واقعة مادية أنه وقع باطلا كتصرف قانوني .
منشور في مقال أقوى محامي الأردن