توافق الإرادتين
98 – التمييز بين حالتين : لم يعرض القانون القديم بنص إلى هذا الموضوع الذي يعد من أدق موضوعات العقد ، بل ترك الأمر فيه للفقه والقضاء . وهذا بخلاف التقنينات الحديثة كالتقنين الألماني وتقنين الالتزامات السويسري والمشروع الفرنسي الإيطالي ، فقد ورد فيها نصوص على جانب عظيم من الأهمية ، نسج على موالها القانون الجديد ، وهي تبين كيف يصدر الإيجاب ومتى يكون ملزماً ، والى أي وقت ، وكيف يقترن به القبول ، سواء أكان المتعاقدان حاضرين مجلس العقد أم كانا غير موجودين في مجلس واحد .
ونستعرض كلا من هاتين الحالتين : ( 1 ) حالة ما إذا ضم المتعاقدين مجلس واحد ( 2 ) وحالة التعاقد فيما بين الغائبين .
1- المتعاقدان في مجلس واحد
99 – الإيجاب والقبول : تقدم أنه لا يد لتمام العقد من صدور إيجاب من أي من المتعاقدين ح يعقبه قبول مطابق له من المتعاقد الآخر . فنتكلم في مسائل ثلاث : ( أولاً ) صدور الإيجاب ) ثانياً ) اقترانه بالقبول ( ثالثاً ) حالات خاصة في القبول .
1- صدور الإيجاب :
المراحل التي يمر بها الإيجاب :
100 – المفاوضات : من يصدر منه الإيجاب لا يستقر به الرأي في العادة على أن يصدر إيجاباً باتاً إلا بعد مفاوضات ( [1] ) قد تطول . ويعتبر من قبل المفاوضات أن يعرض شخص التعاقد دون أن يحدد أركانه . كان يضع إعلاناً ينبئ أنه يعرض منزلا للبيع أو للإيجار دون أن يذكر الثمن أو الأجرة . وإذا كانت شخصية المتعاقد محل اعتبار ، فلا يعد إيجاباً بل تفاوضاً أن يعرض شخص التعاقد حتى لو بين أركان العقد ، أما إذا لم يكن هناك اعتبار لشخصية المتعاقد عد هذا إيجاباً . وكان المشروع التمهيدي يشتمل على نص ( م 134 ) يقي بأن عرض البضائع مع بيان ثمنها يعتبر إيجاباً ، أما النشر والإعلان وبيان الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعروض أو طلبات موجهة للجمهور أو للأفراد فلا يعتبر عند الشك إيجاباً وإنما يكون دعوة إلى التفاوض ( [2] ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه لا يعد إيجاباً باتاً ، بل يكون من قبيل المفاوضات ، أن يعرض شخص على آخر القيام بعمل دون أن يتضمن العرض الشروط والتفاصيل اللازمة ( [3] ) .
والقانون لا يرتب في الأصل على هذه المفاوضات أثراً قانونياً ، فكل متفاوض حر في قطع المفاوضة في الوقت الذي يريد . ولا مسئولية على من عدل ، بل هو لا يكلف إثبات أنه قد عدل لسبب جدى . وليست المفاوضات إلا عملا مادياً لا يلزم أحداً . لذلك لا يعد السمسار نائباً لأنه إنما يمهد للمفاوضات وهي عمل مادي لا عمل قانوني .
على أن العدول عن المفاوضات قد يرتب مسئولية على من قطعها إذا اقترن العدول بخطأ منه . ولكن المسئولية هنا ليست مسئولية تعاقدية مبنية على العدول بل هي مسئولية تقصيرية مبنية على الخطأ . والمكلف بإثبات الخطأ هو الطرف الآخر الذي أصابه ضرر من العدول ، فإذا اثبت مثلا أن من قطع المفاوضات لم يكن جاداً عند الدخول فيها ، أو كان جادا ولكن لم يخطره بالعدول في الوقت المناسب ، وأنبنى على ذلك أن فاتته صفقة رابحة ، كان له الحق في المطالبة بتعويض .
101 – الإيجاب المعلق : وقد تنتهي المفاوضات إلى إيجاب معلق ، كأن يعرض شخص التعاقد بثمن معين مع الاحتفاظ بتعديل هذا الثمن طبقا لتغير الأسعار ، فيكون الإيجاب الذي صدر منه بالثمن الذي عينه معلقاً على شرط عدم تغير الأسعار ، أو أن يعرض شخص على الجمهور شيئاً ذا كمية محدودة يعين ثمنه فيتم العقد مع من قبل أولاً وتراعى الأسبقية في القبول حتى ينفد الشيء . ومن هذا يتبين أن الإيجاب المعلق هو إيجاب لا مفاوضة ، ولكنه إيجاب لا ينفذ إلا إذا تحقق الشرط الذي علق عليه .
102 – الإيجاب البات :
فإذا خرج الإيجاب من دور المفاوضة ومن دور التعليق أصبح إيجاباً باتاً . وتقرير ما إذا كان الإيجاب قد وصل إلى هذا الدور النهائي هو من مسائل الواقع لا من مسائل القانون . فينفصل فيه قاضي الموضوع طبقا لظروف كل قضية ولا معقب على حكمة .
القوة الملزمة للإيجاب :
103 – في القانون القديم : لم يرد في القانون القديم نص يبين ما إذا كان الموجب يبقى ملزماً بالبقاء على إيجابه المدة الكافية لاقتران القبول بالإيجاب . فكان القضاء يذهب إلى أن للموجب أن يعدل عن إيجابه ما دام الإيجاب لم يقترن بالقبول ( [4] ) . ولكنه مع ذلك ذهب إلى أن الإيجاب المقرون بأجل يلزم الموجب بالبقاء على إيجابه طول هذا الأجل ، سواء حدد الأجل صراحة أو ضمناً ، وبنى هذا لا على أساس الإرادة المنفردة بل على أساس أن هناك عقداً تم بين الموجب والموجب له يلزم الأول بألا يعدل عن إيجابه المدة المحددة ، وقد تم هذا العقد بقبول ضمني من الموجب له أو بسكوته لأن هذا الأجل في مصلحته ( [5] ) . وذهب القضاء أيضاً إلى أن عدول الموجب عن إيجابه في وقت غير مناسب قد يجعل للموجب له حقاً في التعويض على أساس المسئولية التقصيرية ( [6] ) .
أما الفقه فكان يقول أيضاً مع القضاء بأن الإيجاب يلزم مدة الأجل ، ولكنه كان يتقلب في تفسير هذه القوة الملزمة بين هذه النظريات الثلاث : نظرية الإرادة المنفردة ، ونظرية العقد الضمني ، ونظرية المسئولية التقصيرية ( [7] ) .
104 – في القانون الجديد : وأتى القانون الجديد فأقر الوضع على أساس نص تشريعي . فقضت المادة 93 بما يأتي : ” إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد . 2 – وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال أو من طبيعة المعاملة ( [8] ) ” . فالإيجاب المقترن بميعاد للقبول ملزم للموجب طبقا لنص القانون الجديد . ولم نعد بعد هذا النص في حاجة إلى البحث عن الأساس الذي تقوم عليه هذه القوة الملزمة ، فالنص صريح في أن الإيجاب وحده هو الملزم ، أي أن الإلزام يقوم على الإرادة المنفردة طبقا لنص القانون ، وهذه هي إحدى الحالات التي نص القانون الجديد على أن الإرادة المنفردة تكون فيها مصدراً للالتزام .
ويكون تحديد الميعاد الذي يبقى فيه الإيجاب ملزماً صريحاً في الغالب . ولكن يقع أحياناً أن يستفاد هذا التحديد ضمنا من ظروف التعامل أو من طبيعته . فإذا عرض مالك آلة أن يبيعها تحت شرط التجربة ، فمن الميسور أن يستفاد من ذلك أنه يقصد الارتباط بإيجابه طوال المدة اللازمة للتجربة . وعند النزاع في تحديد الميعاد يترك التقدير للقاضي ( [9] ) . وإذا صدر الإيجاب لغائب دون أن يحدد ميعاد للقبول ، فإن الموجب يبقى ملتزماً إلى الوقت الذي يتسع لوصول قبل يكون قد صدر في وقت مناسب وبالطريق المعتاد ، وله أن يفرض أن إيجابه قد وصل غير متأخر ( [10] ) . فهنا أيضاً يوجد ميعاد ضمني ، إذ قضت طبيعة المعاملة ، والإيجاب قد صدر لغائب ، أن يتربص الموجب مستبقيا إيجابه إلى أن ينقضي الميعاد الذي يتسع عادة لوصول القبول إليه فيما لو كان الموجب له قد أرسل هذا القبول دون إبطاء لا تبرره الظروف ومع افتراض أن الإيجاب قد وصل في الميعاد المقدر لوصوله ( [11] ) .
ويبقى الموجب ملتزماً بالبقاء على إيجابه المدة التي حددها ، وما لم يكن إيجابه قد سقط برفض الطرف الآخر له قبل انقضاء هذه المادة كما سيأتي .
أما إذا لم يحدد الموجب أية مدة للقبول ، فإن إيجابه يبقى قائما ، ولكنه لا يكون ملزما ، بل يجوز له الرجوع فيه أي وقت شاء ما دام أنه لم يقترن بالقبول .
ومن ثم نتبين أن الإيجاب قد يكون قائما ملزما ، وقد يكون قائما غير ملزم ، فالقيام غير الإلزام ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
سقوط الإيجاب :
105 – الإيجاب القائم الملزم : فإذا كان الإيجاب قائماً ملزماً فإنه يسقط في حالتين :
( الحالة الأولى ) هي أن يرفض الموجب له الإيجاب ، فيسقط حتى لو لم تنقض المدة التي يكون فيها ملزماً ، ويتخذ رفض الإيجاب صوراً مختلفة ، فهو تارة يكون رفضاً محضاً ، وطوراً يكون قبولا يتضمن تعديلا في الإيجاب ( م 96 وسيأتي ذكرها ) ، وثالثة يكون إيجاباً جديداً يعارض الإيجاب الأول .
( الحالة الثانية ) هي أن تنقضي المدة التي يكون فيها الإيجاب ملزماً ، فيسقط ، وينتهي الإلزام والقيام في وقت واحد . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” يظل الموجب مرتباً بإيجابه في خلال الميعاد المحدد للقبول متى حدد له ميعاد ، سواء في ذلك أن يصدر الإيجاب لغائب أو لحاضر . فإذا انقضى الميعاد ولم يصل القبول ، فلا يصبح الإيجاب غير لازم فحسب بعد أن فقد ما توافر له من الإلزام ، بل هو يسقط سقوطاً تاماً . وهذا هو التفسير المعقول لنية الموجب ، فهو يقصد ألا يبقى إيجابه قائماً إلا في خلال المدة المحددة ما دام قد لجأ إلى التحديد . وقد يتصور بقاء الإيجاب قائماً بعد انقضاء الميعاد ولو أنه يصح غير لازم ، ولكن مثل هذا النظر يصعب تمشيه مع ما يغلب في حقيقة نية الموجب . ويراعى أن القول بسقوط الإيجاب عند انقضاء الميعاد يستتبع اعتبار القبول المتأخر بمثابة إيجاب جديد . وهذا هو الرأي الذي أخذ به المشروع في نص لا حق . وغنى عن البيان أن الإيجاب الملزم يتميز في كيانه عن الوعد بالتعاقد ، فالأول إرادة منفردة والثاني اتفاق إرادتين ( [12] ) ” .
106 – الإيجاب القائم غير الملزم : وإذا كان الإيجاب قائماً غير ملزم – وهذا لا يكون إلا في التعاقد ما بين حاضرين في مجلس العقد – فإنه يسقط أيضاً في حالتين :
( الحالة الأولى ) إذا عدل عنه الموجب قبل انفضاض مجلس العقد .
( الحالة الثانية ) إذا انفض مجلس العقد ولو لم يعدل عنه الموجب .
وسنرى تفصيل كل ذلك عند الكلام في مجلس العقد ( أنظر م 94 ( [13] ) ) .
107 – القبول بعد سقوط الإيجاب إيجاب جديد : وإذا سقط الإيجاب على النحو الذي قررناه فيما تقدم ، فكل قبول يأتي بعد ذلك يكون متأخراً ، ولا يعتد به على اعتبار أنه قبول لإيجاب سابق . ولكن يصح كما رأينا أن يكون هذا القبول المتأخر إيجاباً جديدا موجهاً لمن صدر منه الإيجاب الأول الذي سقط ، فإذا قبله هذا تم العقد .
نرى ذلك في حالة ما إذا رفض الإيجاب بقبول يتضمن تعديلا في الإيجاب أو بإيجاب جديد يعارض الإيجاب الأول . ونرى ذلك كما قدمنا في حالة ما إذا صدر قبول بعد انقضاء المدة التي يكون فيها الإيجاب ملزماً ( [14] ) . ونرى ذلك أيضاً في حالة ما إذا صدر قبول بعد عدول الموجب عن إيجابه . ونرى ذلك أخيراً في حالة ما إذا صدر قبول بعد انفضاض مجلس العقد . ففي هذه الحالات الأربع – وهي الحالات التي رأينا أن الإيجاب يسقط فيها – إذا صدر القبول بعد سقوط الإيجاب فلا يعتد به قبولا ، ولكنه يعدل إيجاباً جديداً .
ب – اقتران الإيجاب بالقبول
108 – الميعاد الذي يصح فيه القبول – مدة قيام الإيجاب : يصح القبول ما دام الإيجاب قائما . وقد عددنا فيما تقدم الحالات التي يسقط فيها الإيجاب . ونستخلص منها أن الإيجاب المقترن بأجل للقبول صريح أو ضمني يبقى قائماً طول مدة الأجل ، سواء كان التعاقد بين حاضرين أو غائبين . فيجوز في أي وقت في خلال الأجل أن يصدر القبول فيقترن به الإيجاب .
أما إذا كان التعاقد بين حاضرين في مجلس واحد ، ولم يقترن الإيجاب بأجل للقبول ، فإن الإيجاب يبقى قائماً – ويجوز أن يقترن بالقبول – ما دام مجلس العقد لم ينفض . فإذا انفض سقط الإيجاب وامتنع ؟؟؟؟؟ .
109 – مجلس العقد : يبقى الآن أن نبين ما هو المقصود بمجلس العقد . جاء هذا التعبير في المادة 94 من القانون المدني الجديد ، وهذا نصها : ” 1 – إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد ، دون أن يعين ميعاد القبول ، فان الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورا ، وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب عن شخص إلى آخر بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل .
2 – ومع ذلك يتم العقد ، واو لم يصدر القبول فورا ، إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول ، وكان القبول قد صدر قبل أن ينفض مجلس العقد ( [15] ) ” .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” إن الإيجاب إذا وجه لشخص حاضر وجب أن يقبله من فوره . وينزل الإيجاب الصادر من شخص إلى آخر بالتليفون أو بأية وسيلة مماثلة منزلة الإيجاب الصادر إلى شخص حاضر . وقد اخذ المشروع في هذه الصورة عن المذهب الحنفي قاعدة حكيمة ، فنص على أن العقد يتم ولو لم يحصل القبول فور الوقت إذا لم يصدر قبل افتراق المتعاقدين ما يفيد عدول الموجب عن إيجابه في الفترة التي تقع بين الإيجاب والقبول . وقد رؤى من المفيد أن يأخذ المشروع في هذه الحدود بنظرية الشريعة الإسلامية في اتحاد مجلس العقد ( [16] ) ” .
ويتبين من هذا أن الموجب له ، إذا اتحد مجلس العقد حقيقة أو حكماً ( كما في التعاقد بالتليفون أو بأي طريق مماثل ) ، يجب عليه كمبدأ عام أن يصدر قبوله فوراً بمجرد صدور الإيجاب ، فلا يفصل وقت ما بين الإيجاب والقبول . وهذا الوضع – وهو مأخوذ من القوانين الحديثة ( [17] ) – يقتضي أن الإيجاب لا يكاد يقوم حتى يسقط ، وفي هذا من الضيق والحرج ما لا يخفى . فلطف القانون الجديد من حدة هذا الوضع بالالتجاء إلى الشريعة الإسلامية ، وجعل الإيجاب يبقى قائماً ما دام مجلس العقد لم ينقض . ومجلس العقد هو المكان الذي يضم المتعاقدين . وليس الملحوظ فيه هو المعنى المادي للمكان ، بل الملحوظ هو الوقت الذي يبقى فيه المتعاقدان منشغلين بالتعاقد دون أن يصرفهما عن ذلك شاغل آخر . فإذا اجتمع شخصان في مجلس واحد ، واصدر احدهما إيجاباً للآخر ، فليس من الضروري أن يكون القبول فوراً ، بل يجوز أن يبقى الموجب له يتدبر الأمر شيئا من الوقت ، حتى إذا عقد العزم على القبول فعل ذلك . ويكون قبوله صحيحاً بشرطين : ( الشرط الأول ) أن يبقى كل من المتعاقدين منشغلا بالتعاقد . فإذا انصرف أي منهما إلى شيء غيره اعتبر مجلس العقد في انفض ، وسقط الإيجاب . و ( الشرط الثاني ) أن يبقى الموجب على إيجابه ، فلا يرجع فيه أثناء المدة التي يبقى فيها مجلس العقد قائماً .
ولا شك في أن الوضع على هذا الأساس المستمد من الشريعة الإسلامية قد أصبح وضعاً عملياً معقولا ، ولم تعد الفورية في القبول لازمة ، بل يجوز فيه التراخي مدة معقولة لا ينشغل فيها المتعاقدان بغير العقد ويبقى فيها الموجب على إيجابه . وهذا هو ف ينظرنا خير تفسير لقواعد الفقه الإسلامي في مجلس العقد ( [18] ) .
110 – لا تحتيم في القبول : ومتى قام الإيجاب ولم ينقض الميعاد الذي يصح فيه القبول ، فإن الموجب له يكون بالخيار بين قبول الإيجاب أو رفضه ولا يتحتم عليه أن يقبل ، وإلا قام العقد على الإيجاب وحده .
ومهما يكن من بداهة هذا الحكم ، فإن ظروفاً قد تجعل الموجب له ملزماً بالقبول . ويتحقق ذلك إذا كان هو الذي دعا الموجب إلى التعاقد معه . وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذا المعنى حذف اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ، فكانت المادة 136 من هذا المشروع تنص على أنه ” يجوز لمن وجه إليه الإيجاب أن يرفضه ، ما لم يكن قد دعا إليه ، فلا يجوز له في هذه الحالة أن يرفض التعاقد إلا إذا استند إلى أسباب مشروعة ( [19] ) ” .
والتطبيقات العملية لهذا النص كثيرة متنوعة . فهناك طوائف من الناس تستحث غيرها على الإيجاب وتدعوهم إليه ، كالتجار في النشرات والإعلانات وقوائم الأسعار التي يوجهونها إلى الجمهور ، وكأصحاب الفنادق والمطاعم يفتحون أبوابهم للطارق ، وكأرباب الصناعات يدعون العمال إلى العمل في صناعاتهم . فإذا استجيبت هذه الدعوة إلى التعاقد ، كانت الاستجابة إيجاباً يمتاز عما عداه من ضروب الإيجاب بأن من وجه إليه لا يجوز له أن يرفضه لغير سبب مشروع . وقد عللت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي هذا الحكم العادل بما يأتي : ” وليس هذا الأثر القانوني إلا نتيجة للحالة التي أنشأها صاحب الدعوة ، بل وتطبيقا من تطبقات مبدأ جامع هو مبدأ إساءة استعمال الحق أو التعسف في استعماله . على أن الإساءة في هذا الفرض ترد على مجرد رخصة من الرخص ، وهذه خصوصية تسترعى الانتباه . وقد تعمد المشروع إغفال تعيين الجزاء الذي يترتب على الرفض التعسفي ، فمثل هذا الرفض يرتب مسئولية لا شك فيها . فيجوز أن يقتصر التعويض على مبلغ من المال إذا كان هذا الجزاء كافياً . ويجوز للقاضي في بعض الفروض أن يذهب إلى ما هو ابعد ، فيعتبر أن العقد قد تم على سبيل التعويض إذا كان في الظروف ما يوجب ذلك ( [20] ) ” .
111 – كيف يطابق القبول الإيجاب : وإذا كان الموجب له لا يتحتم عليه القبول على النحو الذي قدمناه ، إلا أنه إذا اختار أن يقبل وجب أن يكون قبوله مطابقاً للإيجاب مطابقة تامة ، وان يكون متفقا كل الاتفاق مع الموجب في جميع المسائل التي تناولها الإيجاب . وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذا المعنى رؤى حذفه اكتفاء بتطبيق المبادئ العامة . فكانت المادة 137 من هذا المشروع تنص على أنه ” لا يتم العقد ما لم يتفق الطرفان على كل المسائل التي تفاوضا فيها بشأن هذا العقد . أما الاتفاق على بعض هذه المسائل فلا يكفي لالتزام الطرفين ، حتى لو اثبت هذا الاتفاق في ورقة مكتوبة ( [21] ) ” .
على أنه ليس من الضروري لإبرام العقد أن يتم الاتفاق على جميع المسائل مسألة مسألة . فقد نصت المادة 95 من القانون الجديد على ما يأتي : ” إذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد ، واحتفظا بمسائل تفصيلية عليها فيما بعد ولم يشترطا أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها ، اعتبر العقد قد تم . وإذا قام خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها ، فان المحكمة تقضي فيها طبقا لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة ( [22] ) ” . والذي يسترعي النظر في الحالة التي جاء فيها هذا النص هو أن المتعاقدين قد حددا مسائل لم يتم الاتفاق عليها واحتفظا بها لتكون محلا للاتفاق فيما بعد ، وبالرغم من إنهما لم يتفقا عليها بعد ذلك ، إلا أن العقد يعتبر قد تم . والذي يبرر هذا الحكم هو أن هذه المسائل ليست جوهرية في العقد ، وان القانون قد افتراض أن نية المتعاقدين انصرفت إلى إبرام العقد حتى لو قام خلاف بينهما على هذه المسائل ، ما دام إنهما لم يشترطا أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها . فتسيراً لنية المتعاقدين على هذا الوجه المعقول أباح القانون للقاضي أن يقضي فيما اختلفا فيه طبقا لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة . وهذا أيضاً أمر يسترعى النظر ، فإن مهمة القاضي في هذه الحالة تخرج عن المألوف من عمله ، فهو لا يقتصر على تفسير ما اتفاق عليه المتعاقدان ، بل يجاوز ذلك إلى تدبير ما اختلفا فيه ، فهو إذن يساهم في صنع العقد ( [23] ) . ويوجه هذا الحكم فيما انطوى عليه من جرأة أنه ما دام المفروض أن المتعاقدين قد أرادا إبرام العقد ولو لم يتفقا على هذه المسائل غير الجوهرية ، استتبع ذلك أن نفرض أيضاً إنهما أراد أن يحل القاضي محلهما ليبت فيما اختلفا فيه ، لأن هذا هو السبيل الوحيد للملاءمة بين ما اتفقا عليه من إبرام العقد وما اختلفا فيه من المسائل . فإذا اتفق المؤجر والمستأجر مثلا على المسائل الجوهرية في عقد الإيجار ، فتراضيا على العين المؤجرة والأجرة والمدة وسائر الشروط الجوهرية ، واختلفا فيمن يتحمل ضريبة الخفر أو أجرة البواب أو اشتراك المياه ، وهي عادة مبالغ زهيدة ، ولم يشترطا أن العقد لا يتم إلا إذا اتفقا أيضاً على هذه المسألة التفصيلية ، كان من المستساغ أن يفترض القانون أن المتعاقدين قد أرادا إبرام عقد الإيجار ، وإنهما تركا للقاضي أن يبت في هذه المسألة غير الجوهرية طبقا للعرف إذا لم يستطيعاهما أن يصلا فيها إلى اتفاق . فالأمر إذن لا يعدو أن يكون تفسيرا لنية المتعاقدين ،بحيث لو قام دليل على أن نيتهما لم تنصرف إلى ذلك ، وإنهما لم يقصدا إبرام العقد إلا بعد الاتفاق الكامل حتى على هذه المسائل التفصيلية ، لوجب استبعاد النص ، ولنحتم على القاضي أن يقضي بأن عقد الإيجار لم يبرم ما دام أن المتعاقدين لم يتفقا على جميع المسائل التي تناولاها ، جوهرية كانت أو تفصيلية ( [24] ) .
فالقبول إذن يجب أن يكون مطابقا للإيجاب على النحو الذي قدمناه . أما إذا كان غير مطابق له ، بل اختلف عنه زيادة أو نقصا أو تعديلا ، فإن العقد لا يتم ، ويعتبر مثل هذا القبول رفضاً يتضمن إيجاباً جديدا . فإذا طلب البائع ثمنا للمبيع ألفاً تدفع فوراً ، وقبل المشتري أن يدفع الألف على أن يزيد البائع في المبيع ، أو قبل أن يدفع في المبيع وحده ثمانمائة ، أو قبل أن يدفع فيه وحده ألفاً ولكن بالتقسيط ، لم يتم البيع ، واعتبر هذا القبول إيجاباً جديداً من المشتري . وهذا الحكم هو الذي تنص عليه المادة 96 من القانون الجديد إذ تقضي بما يأتي : ” إذا اقترن القبول بما يزيد في الإيجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه ، اعتبر رفضا يتضمن إيجاباً جديدا ( [25] ) ” .
( [1] ) هناك عقود تتم عادة دون مفاوضات تسبقها ، منها : العقود المألوفة في الحياة اليومية كمن يأكل في مطعم أو ينزل في فندق أو يشتري صحيفة ، والعقود التي تبرم دون سابق مفاوضة في الحياة التجارية وهي تقتضي السرعة في البت والتعامل ، وعقود الإذعان وهي تتميز بايجاب بات في بادئ الأمر يعقبه اذعان من المتعاقد الآخر أو قبول لا بد منه على ما سنرى .
( [2] ) وقد سبت الإشارة إلى هذا النص عند الكلام في التعبير الصريح والتعبير الضمني ( انظر فقرة 76 ) ، وبينا هناك أن هذا النص في حذف في لجنة المراجتة لعدم الحاجة إليه ، إذ يسهل على القضاء تطبيق هذا الحكم دون نص عليه .
( [3] ) 2 مارس سنة 1904 م 16 ص 147 – انظر أيضاً حكماً آخر في 24 ابريل سنة 1902 م 14 ص 264 .
( [4] ) استئناف مختلط في 30 يناير سنة 1896 م 8 ص 101 – وفي ) يونيه سنة 1898 م 10 ص 322 – وفي 8 مارس سنة 1900 م 12 ص 156 – وفي 2 مارس سنة 1904 م 16 ص 147 – وفي 21 ابريل سنة 1904 م 16 ص 213 – وفي 15 نوفمبر سنة 1923 م 36 ص 32 – وفي 13 مارس سنة 1945 م 57 ص 88 .
( [5] ) استئناف مختلط في 21 مايو سنة 1879 بوريللي بك م 301 فقرة 5 – وفي 18 يناير سنة 1912 م 24 ص 100 – وفي 23 نوفمبر سنة 1917 م 30 ص 62 .
( [6] ) محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة في 6 يناير سنة 1923 جازيت 14 ص 13 رقم 17 .
( [7] ) أنظر كتاب ” نظرية العقد ” للمؤلف ص 244 – ص 246 .
( [8] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 130 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” 1 – إذا حدد ميعاد للقبول التزم الموجب بإيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد . 2 – وقد يستخلص الميعاد ضمناً من الظروف أو من طبيعة التعامل ” . وفي لجنة المراجعة اقترح أن يكون التزام الموجب لا بإيجابه بل بالبقاء على إيجابه ، فإن هذا أدق في الدلالة على المعنى المقصود ، فوافقت اللجنة على ذلك كما ادخلت بعض تعديلات لفظية ، وأصبح رقم المادة 95 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 95 . ووافقت عليها كذلك لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ تحت رقم 93 . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 36 – ص 38 ) .
وكان المشروع التمهيدي يشتمل على نص يسبق هذا النص جاء فيه ما يأتي : ” كل من صدر منه إيجاب يلتزم بإيجابه ما لم يصرح بأنه غير ملزم أو ما لم يتبين من الظروف أو من طبيعة التعامل أنه لم يقصد أن يلتزم بإيجابه ” ( م 129 من المشروع التمهيدي ) . وحذف هذا النص في المشروع النهائي اكتفاء بالنص الذي استبقى في حالة الإيجاب المقترن بأجل ، إذ أن هذه الحالة هي وحدها التي تظهر فيها الفائدة العملية من القول بالضفة الملزمة للإيجاب . أما إذا لم يقترن الإيجاب بأجل ، فيمكن القول بأنه لو كان النص المحذوف قد استبقى لأفاد أن الموجب يبقى في هذه الحالة ملزماً بالبقاء على إيجابه المدة المعقولة ، وحذف النص جعله غير ملزم . ولكن الفائدة العملية من هذا القول تكاد تكون معدومة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 30 ) .
( [9] ) هذه العبارات مأخوذة من المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 37 ) .
( [10] ) وقد كانت المادة 132 من المشروع التمهيدي تجري على هذا الوجه ، وحذفت في المشروع النهائي اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 40 ) . ويلاحظ إننا انتقلنا في هذا الفرض من تعاقد يصدر الإيجاب فيه لحاضر في مجلس العقد إلى تعاقد يصدر الإيجاب فيه لغائب .
( [11] ) أنظر في مثل ثالث لتحديد ميعاد للقبول تحديداً ضمنياً محكمة الاستئناف المختلطة في 18 يناير سنة 1912 م 24 ص 100 .
هذا وتقديم عطاء في مناقصة متى وصل إلى علم من وجه إليه العطاء – والعلم هنا يقع على تقديم العطاء في ذاته ولا يشمل مضمون العطاء لأن هذا يكون سريا كما تقضي بذلك طبيعة المعاملة – يكون ملزماً لا يجوز الرجوع فيه حتى قبل فض المظاريف ، لأن الإيجاب قد أقترن بأجل ضمني هو الميعاد الذي حدد لإرساء العطاء .
( [12] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 36 – وانظر أيضاً في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 17 نوفمبر سنة 1917 م 3 ص 62 .
( [13] ) كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص يعدد الحالات التي يسقط فيها الإيجاب ، فكانت المادة 133 من هذا المشروع تنص على ما يأتي : ” يسقط الإيجاب : 1 ) إذا انقضت صفته الملزمة قبل أي قبول . 2 ) إذا رفضه من وجه إليه . 3 ) إذا كان من وجه إليه الإيجاب قد عارضه بإيجاب آخر ” . ولما عرضت هذه المادة على لجنة المراجعة قررت حذفها لأنها تشتمل على تعداد يحسن تركه للفقه ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 40 – ص 41 في الهامش ) .
( [14] ) أنظر في حالة وصول القبول متأخراً ، سواء لأنه صدر بحيث يصل في الميعاد ولكنه وصل متأخراً بالفعل أو صدر بحيث لا يمكن أن يصل في الميعاد ، نظرية العقد للمؤلف ص 253 حاشية رقم 1 و 2 .
هذا وقد كانت الفقرة الأولى من المادة 141 من المشروع التمهيدي تجري على الوجه الآتي : ” يعتبر القبول بعد الميعاد بمثابة إيجاب جديد ، ومع ذلك إذا كان القبول قد أرسل في الوقت المناسب ، ولكنه وصل إلى الموجب بعد الميعاد ، وكان الموجب ينوي إلا يرتبط بهذا القبول ، وجب عليه ، إن علم أن القبول رغم تأخره في الوصول قد أرسل في الوقت المناسب ، أن يخطر الطرف الآخر فوراً بتأخر القبول ، فإذا نهاون في الأخطار اعتبر القبور غير متأخر ” وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذا النص ما يأتي : ” ويجب التفريق بين القبول الذي يرسل بعد انقضاء الميعاد المحدد له وبين القبول الذي يرسل في الوقت المناسب ولكن يتأخر وصوله إلى الموجب . فالقبول الثاني دون الأول هو الذي يرتب على عاتق الموجب ، إذا انصرفت نيته إلى عدم الارتباط به ، الالتزام بأن يخطر الآخر فوراً بذلك . فإذا تهاون في الأخطار وأصبح التأخير بذلك منسوباً إلى خطئه ، فيعتبر أن القبول قد وصل في الوقت المناسب ” . ولما عرض النص على لجنة المراجعة قررت حذفه اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 49 – ص 51 ) .
( [15] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 131 من المشروع التمهيدي على الوجه الوارد في القانون الجديد ( فيما عدا فروقا لفظية طفيفة ) . ولما تلى النص في لجنة المراجعة لوحظ أن المشروع اخذ بنظرية مجلس العقد في الفقه الإسلامي على أن يكون مفهوماً أنه لم يرد الإمعان في وجهة النظر المادية التي نراها عادة في كتب الفقه . فوافقت اللجنة على النص بعد تعديلات لفظية طفيفة ، وأصبح رقم المادة 96 في المشروع النهائي ، ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 96 . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تساءل أحد الاعضاء عما إذا كان من الممكن الاستغناء عن الفقرة الثانية من المادة فأجيب بالنفي لأن تلك الفقرة تعالج حكم القبول إذا صدر قبل ارفضاضا مجلس العقد . وقد وافقت اللجنة ووافق مجلس الشيوخ على المادة تحت رقم 94 . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 39 – ص 44 ) .
( [16] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 42 .
( [17] ) أنظر المادة 4 من تقنين الالتزامات السويسري والمادة 147 فقرة 1 من التقنين الألماني .
( [18] ) نحن هنا نأخذ بالمذهب الحنفي وهو المذهب الذي قصد القانون الجديد أن يستمد منه في هذه المسألة . وقد اختلفت الحنفية مع الشافعية في ذلك . فالحنفية يرون كما قدمنا جواز القبول ولو تراخى عن الإيجاب ما دام قد صدر في مجلس العقد . أما الشافعية فيشترطون الفور في القبول ، فإذا لم يصدر القبول فوراً سقط الإيجاب ولو لم يرجع فيه الموجب . ولكنهم في الوقت ذاته يقولون بخيار المجلس ، فيجوز للموجب له أن يرجع في قبوله قبل انفضاض مجلس العقد . ومن ثم أصبح مذهب الشافعي ، بفضل هذه الصياغة الفنية ، معقولا ، وأصبح الفرق بينه وبين المذهب الحنفي محدود المدى من الناحية العملية . فالحنفية يقولون إن الموجب له يستطيع أن يؤخر قبوله إلى ما قبل انفضاض المجلس ، والشافعية يقولون بل يجب أن يقبل فورا ، ولكنه يستطيع الرجوع في قبوله إلى ما قبل انفضاض المجلس . أما المذهب الملاكي فيشترط الفورية كالذمهب الشافعي ، ويمنع خيار المجلس كالمذهب الحنفي ، وهذا هو مذهب القوانين الحديثة . ولم يختره القانون الجديد لما ينطوي عليه من ضيق وحرج .
وتنقل هنا بعض ما جاء في البدائع في هذه المسألة : ” وأما الذى يرجع إلى مكان العقد فواحد وهو اتحاد المجلس ، بأن كان الإيجاب والقبول في مجلس واحد . فان اختلف المجلس لا ينعقد ، حتى لو أوجب أحدهما البيع فقام الاخر عن المجلس قبل القبول أو اشتغل بعمل آخر يوجب اختلاف المجلس ثم قبل لا ينعقد ، لان القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر في المجلس ، لانه كما وجد احدهما انعدم في الثاني من زمان وجوده ، فوجد الثاني والاول منعدم فلا ينتظم الركن ، الا ان اعتبار ذلك يؤدى إلى انسداد باب البيع ، فتوقف أحد الشطرين على الآخر حكما . وجعل المجلس جامعا للشطرين مع تفرقهما للضرورة ، وحق الضرورة يصير مقضيا عند اتحاد المجلس ، فإذا اختلف لا يتوقف . وهذا عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله الفور مع ذلك شرط لا ينعقد الركن بدونه . وجه قوله ما ذكرنا ان القياس أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر والتأخر لمكان الضرورة وانها تندفع بالفور . ولنا ان في ترك اعتبار الفور ضرورة لان القابل يحتاج إلى التأمل ، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التأمل ” ( البدائع 5 ص 137 ) .
هذا التحليل الرائع هو الذي تقف عنده . ولا نجاري المذهب الحنفي بعد ذلك في تصويره لمجلس العقد تصويراً مادياً ضيقاً يخرج به عن مقتضيات الحياة . وهذا بعض ما جاء في البدائع في صدد هذا التصوير الضيق : ” وعلى هذا إذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابتين أو دابة واحدة في محمل واحد ، فان خرج الإيجاب والقبول منهما متصلين انعقد ، وان كان بينهما فصل وسكوت وان قل لا ينعقد ، لان المجلس تبدل بالمشى والسير وان قل . . . ولو تبايعا وهما واقفان انعقد لاتحاد المجلس . ولو أوجب أحدهما وهما واقفان فسار الآخر قبل القبول أو سارا جميعا ثم قبل لا ينعقد ، لانه لما سارا وسارا فقد تبدل المجلس قبل القبول ، فلم يجتمع الشطران في مجلس واحد . . . . . ولو تبايعا وهما في سفينة ينعقد ، سواء كانت واقفة أو جارية ، خرج الشطران متصلين أو منفصلين ، بخلاف المشى على الأرض والسير على الدابة ، لان جريان السفينة بجريان الماء لا بإجرائه ، ألا ترى أن راكب السفينة لا يملك وقفها فلم يكن جريانها مضافا إليه فلم يختلف المجلس ، فأشبه البيت . بخلاف المشى والسير . أما المشى فظاهر لانه فعله ، وكذا سير الدابة مضاف إليه ، ألا ترى انه لو سيرها سارت ولو وقفها وقفت ، فاختلف المجلس بسيرها ” ( البدائع 5 ص 137 ) .
ونرى من ذلك أن فقهاء الحنفية يشترطون اتحاد المجلس الحقيقي ، ثم يقلبون المسألة على وجوهها المنطقية ، فيخلص لهم أنه إذا اختلف المجلس بالتنقل الاختياري ( المشي أو السير على الدابة ) لا ينعقد البيع ، أما إذا اختلف بالتنقل غير الاختياري ( جريان السفينة ) ينعقد . وفي هذا ذهاب بالمنطق إلى ابعد مدى ، وفيه من الحرج في التعامل مالا يخفى ، إذ يمتنع على ” شخصين يمشيان أنو يسافران على دابة أو على غيرها من وسال النقل أن يتعاقدا لاختلاف المجلس ، مع أنه لا يوجد ما يدعو إلى الوقوف عند الاتحاد الحقيقي للمجلس ، فيكفي الاتحاد الحكمي ، وقد اقر فقهاء الحنفية هذا الاتحاد الحكمي في التنقل غير الاختياري للضرورة ، والضرورة ذاتها هي التي تقضي علينا أن نكتفي بالاتحاد الحكمي في التنقل الاختياري أيضاً . وقد أراد شارح المجلة الأستاذ سليم باز رفع الحرج في حالة يكثر وقوعها وهي السفر بالسكة الحديدية ، فذكر في هذه المسألة ما يأتي : ” أما لو تبايعا وهما في السفينة فإنه يصح لكون السفينة كالبيت فلا ينقطع المجلس بجريانها لأنهما لا يملكان إيقافها ( طحطاوي عن النهر ) ، قلت ومثل السفينة سكة الحديد ” ( شرح المجلة لسليم باز ص 86 ) .
( [19] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 45 – ص 46 .
( [20] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 45 في الهامش . وقد جاء أيضاً في المذكرة الإيضاحية في صدد النشرات والإعلانات التي يوجهها التجار إلى الجمهور ما يأتي : ” وقد تقدم في الفقرة الثانية من المادة 134 من المشروع أن النشرات والإعلانات وقوائم الأسعار التي يجري التعامل بها وغير ذلك من البيانات الموجهة للجمهور أو الافراد تعتبر في الأصل دعوة لحث الناس على الإيجاب . فليس ينصرف حكم النص في الصورة التي يواجههاالى الإيجاب النهائي الملزم الذي ينقلب إلى ارتباط تعاقدي متى اقترن به القبول ، وإنما ينصرف هذا الحكم إلى مجرد الدعوة للتقدم بالإيجاب . والاستجابة لهذه الدعوة هي التي تعتبر إيجاباً نهائيا ملزما ، يمتاز عما عداه من ضروب الإيجاب بأن من وجه إليه لا يجوز له أن يرفضه لغير سبب مشروع ” ، ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 45 في الهامش ) .
( [21] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 46 . أنظر أيضاً محكمة استئناف أسيوط في 3 يونيه سنة 1948 المحاماة 28 رقم 273 ص 805 .
( [22] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 138 من المشروع التمهيدي على الوجه الوارد في القانون الجديد مع بعض فروق لفظية . ولما تلى في لجنة المراجعة لاحظ بعض الأعضاء أن التمييز بين المسائل الجوهرية والمسائل التفصيلية أمر دقيقي في بعض الأحوال ، فلا يحسن تركه لتقدير القاضي خشية التحكم ، ودارت مناقشة طويلة حول هذه المسألة ، واستقر الرأي على إبقاء المادة بعد تعديلات لفظية تحت رقم 97 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب عليها دون تعديل ، ثم وافق عليها كل من لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ تحت رقم 95 ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 45 – ص 49 ) .
وانظر أيضاً المادة 2 من تقنين الالتزامات السويسري والمادة 61 فقرة 2 من تقنين الالتزامات البولوني .
( [23] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” وفي هذه الحالة يتولى القاضي أمر الفصل في المسائل التفصيلية التي أرجئ الاتفاق عليها ما لم يتراض العاقدان بشأنها . وعلى هذا النحو يتسع نطاق مهمة القاضي ، فلا يقتصر على تفسير إرادة العاقدين بشأنها . وعلى هذا النحو يتسع نطاق مهمة القاضي ، فلا يقتصر على تفسير إرادة العاقدين ، بل يستكمل ما نقص منها ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 46 ) .
( [24] ) يؤيد ذلك ما جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي : ” ومهما يكن من أمر فينبغي التنويه بأن هذه الأحكام لا تعدو أن تكون مجرد تفسر لإرادة المتعاقدين . فإذا تعارض هذا التفسير مع ما أراده المتعاقدان ، بأن اشترطا صراحة أو ضمنا أن يكون العقد باطلا عند عدم الاتفاق على المسائل التي احتفظ بها ، وجب الاحترام هذه الإرادة ، ولا يتم العقد ما لم يحصل الاتفاق على تلك المسائل ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 47 ) .
( [25] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 141 من المشروع التمهيدي ، وكانت هذه المادة تشتمل على فقرتين ، حذفت الفقرة الأولى منهما في المشروع النهائي اكتفاء بتطبيق القواعد العامة كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، أما الفقرة الثانية فجاءت مطابقة للنص الذي ورد في القانون الجديد . وقد وافقت عليها لجنة المراجعة ومجلس النواب ولجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ دون تعديل ، وأصبحت المادة 96 في القانون الجديد ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 49 – ص 51 ) .
منشور في مقال أقوى محامي الأردن