مبدأ سلطان الإرادة


مبدأ سلطان الإرادة

41 – عرض عام للمبدأ : يذهب أنصار هذا المبدأ إلى أن الإرادة لها السلطان الأكبر في تكوين العقد وفي الآثار التي تترتب عليه ، بل وفي جميع الروابط القانونية ولو كانت غير تعاقدية .

وعندهم أن النظام الاجتماعي يرتكز على الفرد . فهو الغاية ، ولخدمته يسخر المجموع . والفرد لا يستكمل شخصيته إلا بالحرية ، بل إن مظهر هذه الشخصية هي الإرادة الحرة المستقلة . وكما أن رجال الفلسفة يجعلون التفكير أية الشخصية من الناحية الفلسفية ، فإن رجال القانون من أنصار هذا المبدأ يتخذون الإرادة أية الشخصية من الناحية القانونية . ولما كان الفرد يعيش في المجتمع ، ولما كانت الغاية الأولى هي احترام حريته وإرادته ، كان من الواجب أن تكون روابطه بغيره من أفراد المجتمع أساسها الإرادة الحرة . فلا يخضع لواجبات إلا إذا كان قد ارتضاها مختاراً . وكل التزام أساسه الرضاء والاختيار يتمشي مع القانون الطبيعي ، لأن هذا القانون إنما يقوم على الحرية الشخصية ووجوب احترامها . فالإرادة الحرة هيب إذن مبدأ القانون ، والغاية التي ينتهي إليها . وما المهمة التي يضطلع بها القانون إلا تحقيقي حرية كل فرد بحيث لا تتعارض هذه الحرية مع حريات الآخرين . هذا التوازن ما بين الحريات جميعاً هو ما يجب على المشرع أن يعني به . وليس عليه بعد ذلك أن يرى ما إذا كان النشاط الفردي الحر يتفق مع ما تقتضيه مبادئ الأخلاق ، ولا عليه أن يرى إلى أي حقد يتفق صالح المجموع مع صالح الفرد ، فالفرد لا المجموع هو الذي يحميه القانون .

هذا المبدأ كان له حظ كبير من الأثر في القانون الحديث بعد انتشار المذهب الفردي على اثر تطور النظم الاقتصادية . ولكن استمرار هذه النظم في التطور ، وظهور الصناعات الكبيرة ، واختلال التوازن بين القوى الاقتصادية ، مهد للمذاهب الاشتراكية سبيل الانتشار ، فقامت هذه المذاهب معارضة للمذاهب الفردية ، وكان من ذلك أن انتكص مبدأ سلطان الإرادة ، وجعل خصومه يمعنون في نقده ، حتى قام أخيراً فريق من المعتدلين يضعون الأمور في حدودها المعقولة .

فنحن نتبع في بحثنا هذه المراحل الأربع ، فنرى كيف نشأ هذا المذهب ، وما بلغ إليه من المدى عند بلوغه ذروته ، وكيف رجع القهقري بعد ذلك ، ثم كيف وضع الأمر في نصابه المعقول . ولا تزعم بذكر هذه المراحل إنها تحققت عملا في التاريخ ، وإلا فإن سلطان الإرادة الكامل لم يتحقق في أية مرحلة منها على النحو الذي يصفه أنصار المبدأ المتطرفون . وإنما نعني أن هناك تطوراً في منحي التفكير الاجتماعي نقسمه إلى مراحل توخياً للإيضاح في بسط هذه الآراء . ونحن في ذلك لا نؤرخ وقائع اجتماعية ، بل نتتبع تطور نظريات ومذاهب .

42 – كيف نشأ مذهب سلطان الإرادة : لم يعترف القانون الروماني في أي عصر من عصوره بمذهب سلطان الإرادة كاملا . بدأت العقود فيه تكون شكلية تحوطها أوضاع معينة من حركات وإشارات وألفاظ وكتابة . أما مجرد توافق إرادتين ( nudum pactum ) فلا يكون عقداً ولا يولد التزاماً . فكان المدين يلتزم لا لسبب سوى أنه استوفى الأشكال المرسومة ، ويكون التزامه صحيحاً حتى لو كان السبب الحقيقي الذي من اجله التزم لم يوجد أو لم يتحقق أو كان غير مشروع أو كان مخالفاً للآداب . فالعقد الشكلي كان عقداً مجرداً صحته تستمد من شكله لا من موضوعه . ولكن الحضارة الرومانية ما لبثت أن تطورت وتعقدت سبل الحياة . فكان من ذلك توزيع العمل ، والحاجة إلى كثرة التبادل ، ووجوب السرعة في المعاملات . واقترن هذا كله يتقدم في التفكير القانونين أدى إلى التمييز بين الشكل والإرادة ف يالعقد وإعطاء الإرادة قسطاً من الأثر القانوني . ودعا هذا إلى اعتبار الاتفاق موجوداً بمجرد توافق الإرادتين ، والشكل ليس إلا سبباً قانونياً ( causa civilis ) للالتزام قد توجد أسباب غيره . ومن ثم ظهر إلى جانب العقود الشكلية العقود العينية والعقود الرضائية والعقود غير المسماة . وانتصر مبدأ سلطان الإرادة في دائرة العقود الرضائية . وانتصر بعد ذلك في بعض عقود أخرى عرفت بالعقود البريطورية ( pactes pretoriens ) والعقود الشرعية ( pactes legitimes ) . ولكن القانون الروماني لم يقرر في أية مرحلة من مراحله مبدأ سلطان الإرادة في العقود بوجه عاز . بل ظلت الأوضاع بعد أن تهذبت هي التي تخلق العقد بقدر اختلف قوة وضعفاً بحسب تطور القانون واتساع نطاق التبادل والمعاملات . وبقى العقد اللفظي ( contrat verbal ) إلى آخر عهود القانون الروماني هو القالب الذي يصبون فيه ما تبدو الحاجة إليه من الاتفاقات غير المعروفة حتى تصبح ملزمة .

أما في العصور الوسطى فلم تنقطع الشكلية وتستقل الإرادة بتكوين العقد إلا تدرجاً . وقد استمرت الشكلية في أوضاعها السابقة الذكر إلى نهاية القرن الثاني عشر . ثم أخذت تتحور ، وكانت متجهة إلى التناقص . وأخذت الإرادة يقوى أثرها في تكوين العقد شيئاً فشيئاً . وساعد على هذا التطور عوامل أربعة :

1 – تأثير المبادئ الدينية وقانون الكنيسة : فكان المتعاقد إذا اقسم على احترام عقده ، ولو لم يفرغه في شكل مخصوص ، عد الحنث باليمين خطيئة يعاقب عليها . بل كان مجرد عدم الوفاء بالوعد خطيئة دينية . وسهل الانتقال من فكرة العقوبة إلى فكرة الإلزام المدني حتى أصبح مجرد الاتفاق يجوز تنفيذه بدعوى ( action ex nudo pacto ) أمام المحاكم الكنيسة .

2 – إحياء القانون الروماني والتأثر به : ونحن نعلم أن القانون الروماني كان قد وصل في تطوره من حيث استقلال الإرادة إلى حد كبير بمختلف عقوده الملزمة . وتوسعوا في تفسير تلك الروح ، وفهموا خطأ أن القانون الروماني يقرر مبدأ سلطان الإرادة . فساعد ذلك على قبول هذا المبدأ . وأصبحت القاعدة في القانون الفرنسي القديم هي ما كان استثناء في القانون الروماني .

3 – العوامل الاقتصادية : بعد أن زاد النشاط التجاري وقويت حركة التعامل اقتضى الأمر إزالة ما يعوق المبادلات التجارية من الأوضاع والأشكال . فكانت المحاكم التجارية الإيطالية في القرن الرابع عشر تقضي طبقاً لقواعد العدالة . والعدالة لا تميز بين العقد الشكلي ومجرد الاتفاق من حيث الإلزام .

4 – العوامل السياسية : وكان ذلك بطريق التدرج في بسط نفوذ الدولة ، وتدخلها شيئاً فشيئاً في الروابط القانونية بين الأفراد ، والأخذ في حماية العقود التي تتم بمجرد الاتفاق . وكان من شان ذلك أن هجرت الأوضاع القديمة ، وحل محلها أشكال أخرى أقل إغراقاً في الفطرية والسذاجة .

وما جاء القرن السابع عشر حتى أصبح مبدأ سلطان الإرادة ثابتاً مقرراً . وما كان اثر الدين يضعف حتى حل محله ما انتشر من نظريات اقتصادية وفلسفية وسياسية ، وكلها مشبعة بروح الفردية ، وقد بلغت أوجها في القرن الثامن عشر ، وهي تشيد بوجود قانون طبيعي مبنى على حرية الفرد ووجوب استقلال إرادته وتسيير هذه الإرادة لكل ما في الحياة من نظم اقتصادية واجتماعية . وقد قام الفزيوقراطيون ( physiocrates ) ينادون بالحرية الاقتصادية قانوناً طبيعياً ، ويذهبون إلى أنه لو تركت الناس أحراراً في نشاطهم الاقتصادي وفتحت أبواب المنافسة بينهم ، فلا تلبث الأمور أن تستقر ، وتتحدد الأسعار من طريق المنافسة والعرض والطلب ، لا من طريق تحكمي يمليه المشرع . ومعنى هذا أن الإرادة وحدها هي التي يجب أن تسيطر في الميدان الاقتصادي ، وأن العقود لا تخضع في تكوينها وفي الآثار التي تترتب عليها إلا الإرادة المتعاقدين . وصحب هذه النظريات الاقتصادية نظريات فلسفية وسياسية حمل لواءها روسو ( rousseau ) في كتابه المعروف بالعقد الاجتماعي ( contrat social ) ، فكانت حرية الفرد واستقلال إرادته هي المحور الذي يدور عليه تفكير ذلك العصر . وقد تلقت الثورة الفرنسية هذه النظريات وقامت عليها ، وسلمتها إلى المشرعين في أوائل القرن التاسع عشر ، فوضع قانون نابليون على أساس تقديس حرية الفرد والإمعان في احترام إرادته .

43 – مدى ما وصل إليه مبدأ سلطان الإرادة : استقر هذا المبدأ وصار دعامة تبنى عليها النظريات القانونية . وهو بعد أن تمشي فيه المنطق القانونين أصبح يشتمل على اصلين : ( أولاً ) كل الالتزامات ، بل كل النظم القانونية ، ترجع في مصدرها إلى الإرادة الحرة . ( ثانياً ) لا تقتصر الإرادة على أن تكون مصدر الالتزامات ، بل هي أيضاً المرجع الأعلى فيما يترتب على هذه الالتزامات من آثار .

فالإرادة الحرة هي التي تهيمن على جميع مصادر الالتزام . وهذه الإرادة تتجلى قوية في العقد . فالمتعاقدان لا يلتزمان إلا بارادتيهما . ولا يلتزم أحد بعقد لم يكن طرفاً فيه ، كما لا يكسب أحد حقاً من عقد لم يشترك فيه . أما نظرية الاشتراط لمصلحة الغير فتبدو ضيقة محدودة في قانون نابليون ، ولم يحصل التوسع فيها إلا في العهد الأخير . فالعقد إذن يرتكز على الإرادة ، بل هو يتمحض إرادة خالصة إذا قلنا أن إرادة المدين وحدها هي التي تلزمه . وسنرى ذلك عند الكلام في الإرادة المنفردة . وشبه العقد مبنى على إرادة مفروضة . والجريمة وشبه الجريمة مردهما إلى الإرادة الحرة . والقانون نفسه إذا رتب التزامات فإنما هو يفترض في ترتيبها أن الملتزم ارتضاها في ذمته التزاماً .

وليس سلطان الإرادة مقصوراً على توليد الالتزامات وحدها ، بل أيضاً يولد كل الحقوق الأخرى . فالملكية مبنية على حرية الإرادة ، بل هي الحرية في مظهرها الملموس المادي . وحقوق الأسرة مبنية على عقد الزواج أي على الإرادة . والميراث مبنى على وصية مفروضة . وطرق التنفيذ الإجباري ذاتها ترتكز على الإرادة الحرة ، فهي طرق وإن كانت إجبارية قد ارتضاها المدين وقت الاستدانة . بل العقوبة الجنائية لا مبرر لمشروعيتها إلا في الإرادة ، فالمجرم الذي خرج على المجتمع قد ارتضى مقدماً أن يناله الجزء . ذلك لأن القانون ما هو إلا وليد الإرادة ارتضاه الناس بأنفسهم أو بممثليهم واختاروا الخضوع لسلطانه ، والمجتمع البشري ذاته ، اليست دعامته هذا العقد الاجتماعي الذي نادى به روسو ومن قبله من الفلاسفة والمفكرين !

وكما أن منشأ الالتزامات يرجع للإرادة الحرة ، كذلك الأثر الذي يترتب على الالتزام ، فهو خاضع للإرادة أيضاً . ولهذا الأصل ناحيتان :

الناحية الأولى أن كل ما ارتضاه الملتزم ديناً في ذمته يكون صحيحاً وينتج أثره لأن التزامه إنما بنى على إرادته . فلا يصح أن نقيد من اثر العقد بدعوى أن هناك غبناً لحق أحد المتعاقدين ما دام قد ارتضى هذا الغبن . والعامل الذي يتعاقد مع رب العمل حراً مختاراً يجب عليه أن ينفذ ما التزم به ، ولا يحتج بان الشروط التي ارتضاها جائرة . وليس المهم في العقد أن يكون هناك تعادل بين الشيئين المتبادلين ، بل يكفي أن يكون التعادل بين الشخصين المتعاقدين وقد توفر كل منهما على حريته وإرادته المستقلة . والأصل في الإنسان الحرية واستقلال الإرادة ، ولا يكون الأمر غير ذلك إلا في حدود رسمها القانون ، كان يكون المتعاقد قاصراً في السن أو في العقل ، أو يكون ضحية غلط أو إكراه أو غش . أما في غير هذه الحدود فالإنسان حر مستقل في إرادته . فإذا التزم بشيء كان العدل أن يقوم بما التزم به . أما ما يقال عن التضامن الاجتماعي والتعسف في استعمال الحقوق وقواعد العدالة والنظام العام ، فهذه الأشياء لا ينبغي أن تغرق في التحديد من سلطان الإرادة . وإذا كانت قواعد العدالة والنظام العام تعني شيء ، فلا أحق بعنايتها من سلطان الإرادة والتسليم بأثره كاملا في تفسير العقد وترتيب نتائجه القانونية .

والناحية الثانية من هذا الأصل أن العقد ، وقد تم بتوافق إرادتين مستقلتين ، لا يجوز تعديله إلا بتوافق هاتين الإرادتين . فلا يستقل أحد من المتعاقدين بتعديله ، ولا يجوز للقاضي نفسه بدعوى إتباع قواعد العدالة أن يعدل فيه أو أن يضيف إليه ما ليس منه .

4 – انتكاص مبدأ سلطان الإرادة ( نقد المبدأ ) : إذا ارجعنا انتصار مبدأ سلطان الإرادة إلى عوامل اقتصادية ، وهي العوامل التي أدت إلى انتشار روح الفردية ف يالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، فهذه العوامل ذاتها بعد أن تطورت ، وقامت الصناعات الكبيرة ، وتاسست الشركات الضخمة ، ونظمت طوائف العمال على اثر اختلال التوازن بين القوات الاقتصادية ، مما أدى إلى انتشار روح الاشتراكة وقيامها في وجه المذاهب الفردية ، هذه العوامل كما قلنا كان من شانها أن تنقص من سلطان الإرادة . فيكون هذا المبدأ قد قام على أساس اقتصادي ، وانتكص متأثراً بعوامل اقتصادية .

ويتولى خصوم المبدأ تفنيد النتائج التي وصل إليها أنصاره . فيقولون إن جعل الإرادة مصدراً لكل الحقوق فيه إغراق في نواح ووهم في نواح أخرى . فالالتزامات التعاقدية ذاتها وهي مبنية على توافق إرادتين لا تستند إلى محض الإرادة الداخلية ، والمتعاقد لا يتقيد بتعاقده لأنه أراد ذلك فحسب ، بل هناك اعتبارات اجتماعية ترجع للثبات والاستقرار الواجب توافرها في المعاملات والثقة التي يولدها التعاقد في نفوس المتعاقدين ، وهي التي تستند إليها قوة الإلزام في العقود . وقد لا يتم اتحاد حقيقي بين الإرادتين عند التعاقد ، ومع ذلك فاتحادهما حكما يكفي ما دام التعاقد قد ولد ثقة مشروعة يترتب على الإخلال بها ضرر . وما العقد إلا نظام من النظم الاجتماعية يراد به تحقيق التضامن الاجتماعي وتوجيه الإرادة في هذا السبيل ، وليس الغرض منه تحقيق ما للإرادة من سلطان . وهناك نظرية ألمانية لا تحفل بالإرادة الباطنة ولا تجعل لها سلطاناً ، بل تنظر إلى الإرادة الظاهرة لأنها وحدها الشيء المحسوس كحقيقة اجتماعية ، وهي التي يؤبه لها لأنها تولد الثقة المشروعة .

أما إسناد مصادر الالتزام الأخرى إلى الإرادة فالحجة فيه أوهي . وقد تبين أن ما يسمى بشبه العقد لا يشبه العقد في شيء من حيث استناده إلى الإرادة كما أن الجريمة وشبه الجريمة إنما يتولد الالتزام فيهما من القانون ، وهو التزام يترتب على عكس مقتضى إرادة من صدر منه العمل غير المشروع ، فإن هذا لم يرد أن يلتزم بعمله ، بل أراد النقيض من ذلك ، فيلزمه القانون رغماً عن إرادته ، فأين نحن هنا من سلطان الإرادة ! ولقد كانت نظرية سلطان الإرادة عائقاً يحول دون الأخذ بمسئولية المجنون والطفل والأخذ بالمسئولية المادية وهذه مذاهب تطورت إليها الشرائع الحديثة ، وفي الأخذ بها إلى مدى معين إرضاء للعدالة ، ومطاوعة لأسباب الاستقرار ، وسير في طريق التقدم .

وإذا تركنا الالتزامات جانباً ونظرنا إلى الحقوق الأخرى التي يزعمون أن مصدرها الإرادة ، رأينا أن وهم القائلين بهذا الرأي هنا أيضاً يتجسم . فالملكية ليست إرادة المالك ، بل إن هذه الإرادة يرد عليها قيود متعددة ترجع إلى التضامن الاجتماعي ، وبخاصة ما يتصل منه بمراعاة حسن الجوار . وليس الميراث مبنياً على وصية مفترضة ، بل الواقع من الأمر أن الميراث سبق الوصية في التطور التاريخي ، وأساسه اشتراك الأسرة في ملكية الأموال . أرأيت لو كان المورث طفلا أو مجنوناً أكان يصح الزعم بان ميراثه وصية مفترضة وهو لا يستطيع أن يترك وصية صريحة ! كذلك روابط الأسرة لم ينظمها عقد الزواج ، فإن هذا العقد إنما وضع الزوجين في مركز قانونين نظمه المشرع نفسه طبقاً لصالح المجتمع وصالح الأسرة ، ولا دخل لإرادة الزوجين في ذلك . أما القول بان المجرم قد ارتضي توقيع العقوبة عليه فهو قول أقرب إلى التهكم منه إلى الحقيقية ، وإلا فأي مجرم رأى في العقوبة جزاء ارتضاه لنفسه ! إنما العقوبة ترجع في مشروعيتها إلى اعتبارات اجتماعية لا دخل لإرادة المجرم فيها .

45 – وضع الأمور في نصابها – إلى أي حد تسيطر الإرادة على العقود : تبين من نقد مبدأ سلطان الإرادة أن الخطأ الذي وقع فيه أنصار هذا المبدأ هو اتخاذه مبدأ مطلقاً في كل نواحي القانون . وهذه المبالغة كانت سبباً في مبالغة تعارضها ، وقام خصوم المبدأ هم أيضاً يقولون بنبذه مرة واحدة . وبين الامعان في إطلاق المبدأ إلى أوسع مدى والمبالغة في رده إلى أضيق الحدود ، وجد المعتدلون مجالا لوضع الأمور في نصابها الصحيح .

ونحن إذا توخينا الاعتدال وجانبنا التطرف ، تبينا أن الإرادة لا سلطان لها في دائرة القانون العام . فالروابط الاجتماعية التي تخضع لهذا القانون إنما تحددها المصلحة العامة لا إرادة الفرد . أما العقد الاجتماعي المزعوم فقد أصبح نظرية عتيقة مهجورة .

وإذا انتقلنا إلى دائرة القانون الخاص ، فما يتعلق منها بالأسرة لا مجال للإرادة فيه إلا بقدر محدود . فعقد الزواج ، وهو الأساس الذي ترتكز عليه الأسرة ، مصدره إرادة المتعاقدين ، ولكن الآثار التي تترتب على العقد ليست خاضعة للإرادة ، بل ينظمها القانون طبقاً لمصلحة الأسرة والمجتمع . وكذلك بقية روابط الأسرة لا شأن للإرادة فيها .

وما يتعلق من دائرة القانون الخاص بالأموال نرى الإرادة تنشط فيها تدرجاً . وهي في الحقوق العينية اضعف نشاطاً منها في الحقوق الشخصية . فإن الحقوق العينية ، وإن كانت الإرادة مصدراً لكثير منها ، حقوق محصورة لا تستطيع الإرادة أن تخلق شيئاً جديداً فيها . ثم إن آثار هذه الحقوق لا تخضع لإرادة الأفراد إلا نادراً ، بل إن القانون هو الذي يتولى في الغالب تحديد مداها .

ولكن الإرادة في الحقوق الشخصية لها مجال واسع ، فهي مصدر لكثير من هذه الحقوق ، وهي التي ترتب آثارها . ومع ذلك لا نريد أن نبالغ في أهمية الإرادة حتى في الحقوق الشخصية . فإنها إذا كانت من أهم المصادر لهذه الحقوق نف ذلك لا يمنع من أن يوجد بجانبها مصادر أخرى قد تعدلها في الأهمية كالعمل غير المشروع ، أو تقرب منها كالإثراء بلا سبب .

وإذا خلصنا إلى الالتزامات التعاقدية وجدنا الإرادة تجول في هذا الميدان أوسع ما تكون خطي وابعد ما تكون مدى . ولكن حتى في هذا الميدان ، إذا نظرنا إلى الإرادة من حيث إنها ترتب أحكام الالتزامات التعاقدية ، وجدنا إنها محدودة في ذلك بقيود النظام العام والآداب . بل إن إرادة الفرد – حتى في داخل هذه القيود – يضعف أثرها في بعض العقود التي تضع نظاماً ثابتة للطوائف والجماعات ، كما في الجمعيات والشركات والنقابات ، فهذه تنظيمها الجماعة التي تنتمي إليها ولا تعتد في تنظيمها بإرادة كل فرد من أفرادها . وهناك عقود الجماعة ( contrats collectfs ) ، كعقد العمل الجامع ( contrat collecolf du travail ) ، وصلح أغلبية الدائنين مع المفلس ، نرى فيها الأقلية تخضع لإرادة الأغلبية . كذلك توجد قيود على حرية الإرادة ترجع لاختلال التوازن بين القوى الاقتصادية وأنصار القانون للجانب الضعيف ، كما نرى في تشريع العمال وفي عقود الإذعان وفي نظرية الاستغلال وهي نظرية تتوسع تدرجاً في القوانين الحديثة حتى تتناول كل العقود ثم إن الإرادة وهي في دائرة كل هذه القيود لا تزال خاضعة أيضاً لشكلية تتطلبها بعض العقود حماية للمتعاقد الذي يقدم على أمر خطير كما في الهبة والرهن الرسمي . وهي تخضع كذلك لقواعد الشهر حماية للغير حسن النية . وتخضع أخيراً لقواعد الإثبات وهي قواعد من شانها أن تقيد سلطان الإرادة من الناحية العملية .

هذه هي الحدود التي يرسمها القانون في الوقت الحاضر ميداناً لسلطان الإرادة . فهو يعترف بهذا السلطان ، ولكن يحصره في دائرة معقولة ، تتوازن فيها الإرادة مع العدالة والصالح العام

منشور في مقال أقوى محامي الأردن

اذا كان لديك ملاحظة اكتبها هنا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s