نظرية الخطأ عند تكوين العقد
308 – كيف يكون هناك خطأ عند تكوين العقد – وما هو جزاء هذا الخطأ : قد يكون العقد باطلا أو قابلا للإبطال ، ويكون سبب البطلان آتياً من جهة أحد المتعاقدين ، أما المتعاقد الآخر فيعتقد صحة العقد ، ويطمئن إلى ذلك ، ويبني تعامله على هذا الاعتقاد . فإذا تقرر بطلان العقد ، ناله من وراء ذلك ضرر لم يكن في حسابه . فهل يرجع بالتعويض على من كان سبب البطلان آتياً من جهته ، وعلى أي أساس قانونين يكون هذا الرجوع ؟
هذا هو وضع المسألة في نظرية الخطأ عند تكوين العقد . ووجه الصعوبة فيها أن العقد باطل ، فليس هناك إن عقد تؤسس عليه مسئولية المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته ، فكيف إذن يمكن الرجوع عليه ؟
ونأتي بأمثلة توضح ما أسلفناه . قد يكون العقد باطلا لا نعدام الرضاء ، كشخص يترك خاتمه عند آخر فيوقع هذا به عقداً يطمئن إليه الطرف الآخر ، وكمدير شركة يصدر سندات غير صحيحة يطمئن إليها من يشتريها ، وكالموجب يعدل عن إيجابه قبل أن يتلاقى بالقبول ولكن المتعاقد الآخر يطمئن إلى أن العقد قد تم . وقد يرجع سبب البطلان للمحل أو السبب ، كأن يبيع شخص شيئاً غير موجود أن لم تتوافر فيه شروط المحل ، وكأن يلتزم البائع لسبب غير مشروع ، ولكن المشتري لا يعلم سبب البطلان ويطمئن إلى قيام العقد . وقد يكون العقد قابلا للإبطال ، كأن يتقدم قاصر إلى التعاقد ويطمئن من يتعاقد معه إلى صحة العقد ، وكأن يقع أحد المتعاقدين في غلط لا يشترك معه فيه الطرف الآخر بل يطمئن إلى أن التعاقد صحيح ، وكمن يشتري من غير المالك معتقداً أنه المالك .
ومن هذه الأمثلة ما عالجه القانون بنصوص خاصة . فالموجب الذي يعدل عن إيجابه إذا وصل عدوله إلى الطرف الآخر بعد وصول الإيجاب لم يعتد بالعدول ( م 91 جدي ) . ولا يعتد بعدم مشروعية السبب إذا كان الطرف الآخر لا يعلم بذلك كما أسلفنا . ويلزم ناقص الأهلية بالتعويض إذا لجأ إلى طرق إحتيالية ليخفي نقص أهليته ( م 119 جديد ) . وإذا شاب التعاقد غلط لم يشترط فيه الطرف الآخر ولم يعلم به ، فالغط لا يؤثر في صحة العقد ( م 120 جديد ) . وإذا حكم للمشتري بإبطال البيع وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع ، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية ( م 468 جديد ) .
ولكن في غير الأمثلة التي ورد فيها نص خاص كيف يستطيع المتعاقد الذي اطمأن إلى صحة العقد أن يرجع على المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته ؟ يمكن القول منذ الآن إن العقد الباطل يعتبر واقعة مادية ، إذا توافرت فيها شروط الخطأ التقصيري ، رجع المتعاقد الذي اطمأن إلى صحة العقد بالتعويض عن هذا الخطأ على المتعاقد الذي أتى من جهته سبب البطلان . ومن ثم يكون العقد الباطل قد أنتج أثراً قانونيناً عرضياً ، لا على أساس أنه عقد ، بل على أساس أنه واقعة مادية .
309 – نظرية إهرنج في الخطأ عند تكوين العقد : على أن إهرنج ( Ihering ) الفقيه الألماني المعروف واجه هذا الفرض في صوره المتعددة ، فوضع له نظرية معروفة بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ( Culpa in contrahendo ) . ودعاه إلى ذلك أن القانون الروماني كان في ألمانيا هو القانون المعمول به في عهده . ولم يكن هذا القانون يسلم بأن كل خطأ يرتب مسئولية مدنية ، بل كانت الأعمال الضارة التي توجب التعويض مقيدة بشروط معينة يقضي بها قانون أكيليا ( Aquilia ) المعروف . فلم يستطيع إهرنج أن يقرر أن العقد الباطل ، كواقعة مادية ، يعتبر خطأ يوجب التعويض . ولكنه نقب في نصوص القانون الروماني فعثر على بعض النصوص التي تقضي برجوع أحد المتعاقدين على الآخر في العقد الباطل بمقتضى دعوى العقد ذاتها ( [1] ) . واستخلص من ذلك أن العقد بالرغم من بطلانه ينشيء التزاماً بالتعويض كعقد لا كواقعة مادية . ولم يرد الاقتصار على التطبيقات التي وجدها في القانون الرومانين بل رسم مبدأ عاماً يقضى بأن كل متعاقد تسبب ، ولو بحسن نية ، في إيجاد مظهر تعاقدي اطمأن إليه المتعاقد الآخر بالرغم من بطلان العقد الذي قام عليه هذا المظهر ، يلتزم بمقتضى العقد الباطل ذاته أن يعوض المتعاقد الآخر ما أصابه من الضرر بسبب اطمئنانه إلى العقد ، بحيث يرجع إلى الحالة التي كان يصير إليها لو لم يتعاقد ( [2] ) .
وتتميز نظرية إهرنج هذه بان كلا من المقومات الثلاثة للمسئولية – الخطأ والعقد والتعويض – يتلون فيها بلون خاص .
أما الخطأ فينحصر في إقدام المتعاقد الذي أتى سبب البطلان من جهته على التعاقد ، وكان واجباً عليه أن يعلم بما يحول دون هذا التعاقد من أسباب توجب بطلان العقد . على أنه حتى لو فرض أن هذا المتعاقد كان لا يستطيع أن يعلم بسبب البطلان ، فإنه يبقى أن ضرراً قد وقع ، وأن من العدل أن يتحمله هو وقد وجد سبب البطلان في جانبه ، لا أن يتحمله المتعاقد الآخر وهو حسن النية ولم يكن في موقف يستطيع فيه أن يكشف عن هذا السبب . فوجود سبب البطلان في جانب أحد المتعاقدين هو في ذاته خطأ ( culpa ) يوجب التعويض .
وأما العقد الذي اخل به المتعاقد المسئول فقد كان من الممكن تصويره على أنه عقد ضمان التزم بمقتضاه هذا المتعاقد أن يكفل للمتعاقد الآخر صحة التعاقد . ووجه ذلك أن كل شخص أقدم على التعاقد يتعهد ضمناً ألا يقوم من جانبه سبب يوجب بطلان العقد ، ورضاء المتعاقد الآخر أن يتعاقد معه إنما هو قبول ضمني لهذا التعهد ، فيتم عقد الضمان بإيجاب وقبول ضمنيين . ولكن إهرنج يصطدم هنا أيضاً بقواعد القانون الرومانين فهذه القواعد ضيقة في العقد كما هي ضيقة في الخطأ . وليس كل إيجاب وقبول في القانون الروماني يعتبر عقداً . لذلك لا يقيم إهرنج مسئولية المتعاقد على عقد الضمان هذا ، إذ هو لا يعتبر عقداً كما قدمنا ، بل يقيمها على العقد الباطل ذاته ، ولكن لا كواقعة مادية فليس كل عمل ضار يعتبر خطأ في القانون الروماني ، بل كعقد حيث تسعفه مجموعة من النصوص استخلص منها إهرنج قاعدة عامة كما أسلفنا . فإذا قيل إن العقد باطل فرضاً فكيف ينتج أثراً ، أجاب إهرنج بأنه لا يجوز أن يجرد العقد الباطل من كلا آثاره ، وإذا نقص العقد ركن أو شرط فأصبح باطلا ، كان معنى البطلان أن العقد لا ينتج من الآثار القانونية ما يقابل هذا الركن أو هذا الشرط . واستشهد إهرنج على صحة هذا الرأي بتطبيقات مختلفة في القانون الروماني ( [3] ) . وهذا رأي يقرب كثيراً من نظرية تنوع مراتب البطلان التي سبقت الإشارة إليها . ونرى من ذلك أن إهرنج يرتب على العقد الباطل أثراً أصلياً ، لا باعتباره واقعة مادة ، بل على أساس أنه عقد . وهذه الحصيصة هي أبرز خصائص نظريته .
وأما التعويض فلونه الخاص في نظرية إهرنج هو ألا يكون تعويضاً كاملا كما في التعويض عن عقد صحيح . فالتعويض عن العقد الصحيح يكون عن المصلحة الايجابية ( interet positif – Erfullungs Interesse ) . أما التعويض عن العقد الباطل فيكون عن المصلحة السلبية ( interet negative – negative Vertrugs Interesse ) . ويأتي إهرنج بمثل يبين الفرق بين التعويضين : شخص احتج . غرفة في فندق وتخلف عن الحضور . فإذا كان العقد صحيحاً كان مسئولا عن تعويض المصلحة الايجابية ، أي عن الضرر الذي أصاب صاحب الفندق من عدم تنفيذ العقد ، فيدفع اجرة الغرفة . أما إذا كان العقد باطلا ومع ذلك اطمأن صاحب الفندق إلى صحة التعاقد ، فلا يرجع إلا بالمصلحة السلبية ، فيطلب تعويضاً عن الضرر الذي أصابه من جراء توهمه صحة العقد ليعود بهذا التعويض إلى الحالة التي كان عليها لو لم يوجد هذا المظهر الخداع من التعاقد . ويترتب على ذلك أنه لا يرجع بتعويض إلا إذا اثبت أن الغرفة قد طلبها آخرون فرفض الطلب لاعتقاده أن الغرفة محتجزة . وقد رأينا في الحالة الأولى أنه يرجع بأجرة الغرفة سواء طلب الغرفة آخرون أو لم يطلبها أحد . – ويكون التعويض عن المصلحة السلبية أقل عادة من التعويض عن المصلحة الايجابية . ويضرب إهرنج لذلك مثلا : تاجر باع عشرة صناديق من ” السجاير ” ، وكان العقد صحيحاً ولكن المشتري لم ينفذه ، فللبائع أن يطلب تعويضاً عن المصلحة الايجابية ، أي الربح الذي كان يجنبه من الصفقة والخسارة التي لحقته من عدم تنفيذ العقد كما لو تكبد نفقات في إرسال الصناديق واستردادها . أما إذا كان العقد باطلا ، بأن كان المشتري لم يطلب إلا صندوقاً واحداً مثلا ولكن وقع خطأ مادي في الرسالة جعل البائع يعتقد أن المطلوب هو عشرة صناديق ، فإن التعويض الذي يطلبه البائع يكون عن المصلحة السلبية حتى يعود للحالة التي كان عليها لو لم يوجد مظهر هذا التعاقد ، فيرجع بنفقات إرسال الصناديق واستردادها دون المكسب الذي كان يربحه لو تمت الصفقة . فالتعويض عن المصلحة السلبية هنا أقل التعويض عن المصلحة الايجابية . – وقد يكون مساوياً له ، وذلك أن التعويض عن المصلحة السلبية ينطوي هو أيضاً على عنصرين : الخسارة التي لحقت الدائن والمكسب الذي فاته . فإذا فرض أنه عرض على التاجر صفقة لبيع الصناديق العشرة بالثمن ذاته وامتنع عن إتمامها ظناً منه أن الصفقة الأولى قد تمت ، ففي هذه الحالة يرجع أيضاً بالمكسب الذي فاته إلى المصروفات التي أنفقها ، فيستوي التعويضان – وإذا فرض أن الصفقة التي امتنع عن إتمامها كانت تدر عليه ربحاً أكثر من ربح الصفقة الأولى ولكنه رفضها احتراماً لتعاقده الأول ، فإن التعويض عن المصلحة السلبية يكون في هذه الحالة اكبر من التعويض عن المصلحة الايجابية . ولكن الظاهر أن الدائن إذا تقاضى تعويضاً عن المصلحة السلبية ، فلا يصح أن يجاوز هذا التعويض حدود التعويض عن المصلحة الايجابية ، وإلا استفاد دون حق من بطلان العقد . – على أن التعويض عن المصلحة السلبية قد يكون في بعض الفروض منعدماً ، ففي المثال الذي نحن بصدده إذا فرض أن التاجر تبين بطلان العقد قبل أن يرسل الصناديق إلى المشتري وقبل أن تعرض عليه صفقة أخرى ، فإنه لا يتقاضى تعويضاً ما ، إذ لم يفته مكسب ولم يتكبد خسارة ( [4] ) .
310 – اثر نظرية إهرنج في القوانين الحديثة : وقد تأثرت بعض القوانين الحديثة بنظرية إهرنج سالفة الذكر . ونتعقب هذا الأثر في القانون الألماني بنوع خاص . ثم نرى إلى أي حد أخذ بالنظرية كل من القانون الفرنسي والقانون المصري القديم والقانون المصري الجديد .
أما في القانون الألماني فقد أخذ المشرع بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ، ولكن لا كنظرية عامة ، بل في مواطن متفرقة . فنص في المادة 122 على أنه إذا كان إعلان الارادةب اطلا وفقاً للمادة 118 ( إرادة غير جدية ) ، أو طعن فيه بالبطلان على أساس المادتين 119 ( الغلط ) و 120 ( الخطأ في نقل الإرادة ) ، فعلى من صدرت منه هذه الإرادة إذا كانت موجهة إلى شخص معين أن يعوض هذا الشخص ، وإذا لم تكن موجهة لشخص ما أن يعوض أي شخص ، عن الضرر الذي أصابه لاعتقاده صحة الإرادة ، دون أن يجاوز مقدار التعويض حد ماله من المصلحة في أن تكون الإرادة صحيحة . وينقطع الالتزام بالتعويض إذا كان من أصابه الضرر يعلم أو يجب ضرورة أن يعلم سبب البطلان أو القابلية للإبطال . وهذا النص تطبيق لنظرية الخطأ عند تكوين العقد في فروض معينة : فرض الإرادة غير الجدية وفروض الغلط . ونصت المادة 307 من القانون الألماني على أن الطرف الذي يعلم ، أو يجب ضرورة أن يعلم ، عند إتمام عقد يرمى إلى عمل مستحيل ، باستحالة هذا العمل ، يلتزم بتعويض الطرف الآخر عن الضرر الذي أصابه من جراء اعتقاده بصحة العقد ، دون أن يجاوز مبلغ التعويض حد المصلحة التي لهذا الطرف في صحة العقد . على أنه لا محل للالتزام بالتعويض إذا كان الطرف الآخر يعلم ، أو يجب ضرورة أن يعلم ، بهذه الاستحالة . وهذا النص تطبيق آخر للنظرية في فرض بطلان العقد لاستحالة المحل ، ويتميز بأنه يشترط فيه خطأ من جانب الطرف المسئول ، فهو إما أن يكون عالماً باستحالة تنفيذ العقد وفي هذه الحالة يكون سيء النية ، وإما أن يكون في استطاعته أن يعلم بهذه الاستحالة وفي هذه الحالة يكون مقصراً ، فهو مخطئ في الحالتين ومسئوليته مبنية على هذا الخطأ . ونلاحظ أن القانون الألماني إذا كان قد أخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد في الفروض التي قدمناها ، فإنه لم يبين المسئولية على خطأ عقدي كما فعل إهرنج ، فقد جعل المسئولية تقصيرية في الفرض كما رأينا ، وجعلها مسئولية مادية في الفروض الأولى .
أما في القانون الفرنسي فقد ذهبت بعض الفقهاء الفرنسيين إلى الأخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد . واستند سالي في ذلك إلى نص المادة 1599 من القانون الفرنسي ، وهوي قضي بان بيع ملك الغير باطل ويترتب عليه الحكم بالتعويض إذا كان المشتري يجهل أن الشيء مملوك للغير . فمصدر التعويض في هذه الحال . في نظر سالي ، لا يمكن أن يكون خطأ من البائع فقد يكون حسن النية ، وإنما هو عقد ضمان يستخلص من ظروف التعاقد ، إذ أن البائع بإقدامه على البيع يكون قد تعهد ضمناً بكفالة صحة العقد ( [5] ) . على أن جمهرة الفقهاء الفرنسيين لا تأخذ بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ، ونرى في حالة ما إذا كان العقد باطلا أن من أتى سبب البطلان من جهته لا يكون مسئولا إلا إذا ثبت خطأ في جانبه طبقاً لقواعد المسئولية التقصيرية ( [6] ) .
والقانون المصري القديم كالقانون الفرنسي لم يؤخذ فيه بنظرية الخطأ عند تكوين العقد ( [7] ) .
وكذلك هو الأمر في القانون الجديد . بل إن المشروع التمهيدي لهذا القانون كان قد تضمن نصاً يقرر هذا النظرية ، فحذف النص في المشروع النهائي ” لأن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية ألمانية دقيقة يحسن عدم الأخذ بها ” ( [8] ) . وإذا كانت الفقرة الأولى من المادة 142 من القانون الجديد تنص على أنه ” في حالتي إبطال العقد وبطلانه يعاد المتعاقدان إلى الحالة التي كان عليها قبل العقد ” ، فليس المقصود من هذا كما سنرى التعويض عن المصلحة السلبية المعروفة في نظرية الخطأ في تكوين العقد ، بل أن يرد كل من المتعاقدين ما تسلمه من الآخر ، دون تعويض عن أية مصلحة ايجابية أو سلبية ، إلا إذا ثبت في جانب المسئول خطأ تقصيري ، وإذا تعذر الرد حكم بتعويض معادل . وإذا كانت المادة 119 تنص على أنه ” يجوز لناقص الأهلية أن يطلب إبطال العقد ، وهذا مع عدم الإخلال بالزامه بالتعويض إذا لجأ إلى طرق إحتيالية ليخفي نقص أهليته ” . فالتعويض هنا ، كما هو ظاهر ، مبنى على أساس المسئولية التقصيرية ، وهي ترجع إلى الطرق الإحتيالية التي استعملها القاصر ، بحيث لو لم يستعملها لما ألزم بتعويض لا عن مصلحة ايجابية ولا عن مصلحة سلبية . وإذا كانت المادة 468 في بيع ملك الغير قد نصت على أنه ” إذا حكم للمشتري بإبطال البيع ، وكان يجهل أن المبيع غير مملوك للبائع ، فله أن يطالب بتعويض ولو كان البائع حسن النية ” ، فذلك لأن المشرع قد اعتبر أن بيع الشخص لشيء غير مملوك له يعتبر في ذاته خطأ تقصيرياً يوجب التعويض ، ولو كان هذا الشخص حسن النية .
311 – رفض نظرية إهرنج والرجوع إلى فكرة الخطأ التقصيري دون الخطأ العقدي : والواقع من الأمر أن نظرية إهرنج كانت من نظريات الضرورة ، قال بها اضطراراً لما ضاق القانون الرومانين عن أن يتسع لحاجات التعامل ، فوسع من فكرة الخطأ ومن فكرة العقد كما رأينا . أما الآن فنحن في سعة من امرنا بعد أن تحررنا من قيود القانون الرومانين وأصبح كل خطأ موجباً للمسئولية أياً كان هذا الخطأ . فإذا ثبت في جانب من أتى سبب البطلان من جهته تقصير كان مسئولا ، ولن نحار في تكييف هذه المسئولية ، فهي مسئولية تقصيرية مبنية على الخطأ الثابت .
على أن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية غير صحيحة . فهي بين أمرين . إما أن تجعل قيام سبب البطلان في جانب المتعاقد خطأ حتما ، وقد يكون هذا المتعاقد يجهل كل الجهل سبب البطلان ولم يرتكب أي تقصير في ذلك ، فالخطأ هنا أقرب إلى فكرة تحمل التبعة منه إلى الخطأ التقصيري . وإما أن تفرض عقداً ضمنياً بكفالة التعاقد ، ونحن إنما نتناول هذا العقد ونقسر عليه المتعاقد قسراً ولا نتمشى في ذلك مع نيته الحقيقية . على أن هذا العقد الضمني لا يستقيم لنا في كل الأحوال . فلو أن سبب البطلان كان القصر ، أيكون القاصر ، وهو غير ملتزم بالعقد الصريح الذي تقرر إبطاله لنقص أهليته ، ملتزماً بالعقد الضمني الذي يكفل به صحة التعاقد ! وأين نقص الأهلية ! ألا يؤثر في العقد الضمني كما اثر في العقد الصريح ! وقل مثل ذلك في حالة بطلان العقد لعدم جدية الإرادة ، فمن كان هازلا في العقد الصريح إلا يكون أكثر هزلا في العقد الضمني ! ثم إن التعويض عن المصلحة السلبية دون المصلحة الايجابية ينطوي على شيء من التحكم قد يصعب تبريره في بعض الحالات . كذلك الباقي من المقومات الثلاثة للنظرية – الخطأ والعقد – في كل منهما انحراف غير مستساغ عن القواعد العامة ، وهو انحراف لم نعد الضرورة تبرره . والقانون الألماني ذاته لم يأخذ ، كما رأينا ، بالنظرية كقاعدة عامة ، بل قصر النص فيها على حالات معينة ، وهو في هذه الحالات حاد عن النظرية في الصميم منها ، فلم يجعل المسئولية عقدية ، بل جعلها تقوم تارة على تحمل التبعة وطوراً على التقصير ، وقد تقدم بيان ذلك .
فالأولى إذن الرجوع إلى فكرة المسئولية التقصيرية في الخطأ عند تكوين العقد ، واعتبار العقد الباطل واقعة مادية قد تستكمل عناصر الخطأ التقصيرى فتوجب التعويض . ويكون العقد الباطل ، في هذه الحالة أيضاً ، قد أنتج أثراً عرضياً ، لا باعتباره عقداً ، بل باعتباره واقعة مادية ( [9] ) .
( [1] ) إهرنج : أعماله المختارة ( الترجمة الفرنسية ) جزء 2 ص 10 وما بعدها .
( [2] ) وقد ضرب إهرنج لذلك مثلا : متجر في مدينة كولونيا ابرق إلى مصرف في مدينة فرانكفورت أن يبيع لحسابه عدداً معيناً من السندات . ولكن لفظ ” يبيع ” بالألمانية ( verkaufen ) وقع فيه خطأ مادي ، وحذف منه المقطع الأول ( vor ) فأصبح ( kaufen ) ، وهذا اللفظ معناه ” يشتري ” . فكان من ذلك أن اشترى المصرف لعميله بدلا من أن يبيع . نزل سعر السندات بعد ذلك ، فبلغت الخسارة مبلغاً جسيماً ( إهرنج : أعماله المختارة الترجمة الفرنسية جزء 2 ص 7 – ص 8 ) .
( [3] ) إهرنج : أعماله المختارة ( الترجمة الفرنسية ) جزء 2 ص 28 – ص 30 .
( [4] ) اهرنج : أعماله المختارة ( الترجمة الفرنسية ) جزء 2 ص 18 – ص 22 .
( [5] ) ساليم في الالتزامات في القانون الألماني فقرة 161 – أنظر أيضاً في هذا المعنى بتوسع كبير بودري وبارد 1 فقرة 362 .
( [6] ) بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 131 وفقرة 324 – ومع ذلك أنظر فقرة 189 . مازو 1 فقرة 116 – 121 – هلسنراد ص 75 و ص 189 – ص 190 .
( [7] ) نظرية العقد للمؤلف فقرة 592 .
( [8] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 263 في الهامش – وكانت المادة 204 من المشروع التمهيدي تجري على الوجه الآتي : ” 1 – إذا كان العقد باطلا أو قابلا للبطلان ، فعلى الطرف الذي يتمسك بالبطلان أن يعوض الطرف الآخر عن الضرر الذي لحقه بسبب اعتقاده صحة العقد ، دون أن تجاوز قيمة التعويض قدر المنفعة التي كانت تعود عليه لو كان العقد صحيحا . 2 – على أنه لا محل للتعويض إذا كان من أصابه الضرر من بطلان العقد له يد في وقوع هذا البطلان ، أو كان يعلم بسببه ، أو ينبغي أن يعلم به ” . وقد اقترح في لجنة المراجعة حذف النص لأن نظرية الخطأ عند تكوين العقد نظرية ألمانية دقيقة يحسن عدم الأخذ بها ، فوافقت اللجنة على ذلك . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 263 في الهامش ) .
( [9] ) قارن الدكتور حلمي بهجت بدوى في أصول الالتزامات فقرة 174 – فقرة 179 – ولا يغيب عن البال أننا ، وقد جعلنا المسئولية تقصيرية ، نوجب الأخذ بقواعد هذه المسئولية . فيجب على من يطالب بالتعويض إثبات أن العقد الباطل قد استكمل عناصر الخطأ ، لأن الخطأ واجب الإثبات هنا . ويجب أيضاً أن يلاحظ أن الخطأ التقصيري يختلف عن الخطأ العقدي في الأهلية وفي مدى التعويض وفي الإعذار وفي التضامن وفي الإعفاء الاتفاقي من المسئولية ، وسيأتي بيان هذا كله عند الكلام في المسئولية التقصيرية
منشور في مقال أقوى محامي الأردن