نظرية السبب في القانون المصري الجديد


نظرية السبب في القانون المصري الجديد

288 – مسائل ثلاث : تلقى القانون الجديد النظرية الحديثة في السبب ميراثاً عن القانون القديم والقضاء المصري ، فقد كان الفقه والقضاء في مصر ، قبل صدور القانون الجديد ، قد عبد الطريق لنبذ النظرية التقليدية الضيقة وتلقى النظرية الحديثة الخصبة . ولكن القانون الجديد خطأ خطوة أخرى إلى الإمام ، إذ ارجع السبب سيرته الأولى عندما كان في يد الفقهاء الكنسيين عاملا لحماية المشروعية قبل أن يكون عاملا لتحصين الإرادة من عيوبها . ففصل ما بين منطقة السبب ومنطقة الغلط ، واقتصر في شروط السبب على المشروعية دون الصحة . ثم عرض في نص هام لإثبات السبب .

فنحن نستعرض هنا مسائل ثلاث : ( 1 ) اعتناق القانون الجديد للنظرية الحديثة في السبب . ( 2 ) الفصل ماب ين منطقة السبب ومنطقة الغلط في القانون الجديد . ( 3 ) إثبات السبب .

1 – اعتناق القانون الجديد للنظرية الحديثة في السبب

289 – النصوص القانونية : نص القانون الجديد في المادة 136 على ما يأتي :

 ” إذا لم يكن للالتزام سبب ، أو كان سببه مخالفا للنظام العام أو الآداب ، كان العقد باطلا ( [1] ) ” .

وكان القانون القديم ينص في المادتين 94 / 148 على أنه ” يشترط لصحة التعهدات أن تكون مبنية على سبب صحيح جائز قانوناً ” .

ونلاحظ منذ الآن الفرق ما بين النصين . فنص القانون القديم يشترط في السبب الصحة والمشروعية . أما نص القانون الجديد فلا يشترط إلا المشروعية ، إذ السبب غير الصحيح يدخل في منطقة الغلط كما قدمنا .

ولم يصرح القانون الجديد فيما أورده من نص بالمعنى الذي يقصده من ” السبب ” . ولكن لا شك في أنه يعتنق النظرية الحديثة ، وينبذ النظرية التقليدية . فقد كان هذا هو شان القانون القديم ، وهو لا يزيد في صراحة التعبير عن القانون الجديد . وكان الفقه والقضاء في مصر يفسران عبارات القانون القديم على معنى النظرية الحديثة لا على معنى النظرية التقليدية . ولم يقطع القانون الجديد صلته بهذه التقاليد ، بل هو قد تأثر بنوع خاص بتقاليد القضائين المصري والفرنسي . وقد ذكر ذلك صراحة في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذ ورد فيها ما يأتي : ” لم ينهج المشروع نهج التقنينات الجرمانية بشان نظرية السبب ، بل اختار على النقيض من ذلك مذهب التقنينات اللاتينية وانتصر معها لهذه النظرية . والواقع أن السبب كما يصوره القضاءان الفرنسي والمصري بمعنى الباعث المستحث يدخل في نطاق القانون المدني عنصراً نفسياً من عناصر الأخلاق يحد من نزعته المادية ، وهي بعد نزعة يشتد طغيانها في بعض الأحيان ” ( [2] ) . وجاء في موضع آخر من المذكرة الإيضاحية ما يأتي : ” يقصد بالسبب معناه الحديث كما يتمثله القضاءان المصري والفرنسي في العصر الحاضر . فهو بهذه المثابة الباعث المستحث في التصرفات القانونية عامة لا فرق في ذلك بين التبرعات والمعاوضات ” ( [3] ) .

فالسبب إذن ، في نظر القانون الجديد ، هو الباعث الدافع إلى التعاقد ( cause impulsive ) لا مجرد الغرض المباشر المقصود في العقد ( cause finale ) . وهو أمر نفسي خارج عن العقد يتغير بتغير البواعث . وكل ما أوردناه عن النظرية الحديثة في السبب ينطبق في القانون الجديد . و لا بد في القانون الجديد أيضاً من أن يكون السبب معلوماً من المتعاقد الآخر ، فإذا كان الباعث الذي دفع أحد المتعاقدين إلى التعاقد غير مشروع ، ولم يكن المتعاقد الآخر يعلم بهذا الباعث وليس في استطاعته أن يعلم به ، فعدم المشروعية هنا لا يعتد به ، ويكون العقد صحيحاً ، ويقوم لا على الإرادة الحقيقية فهي غير مشروعة ، ولكن على الإرادة الظاهرة ، شأنه في ذلك شأن العقد الذي يقوم على إرادة معيبة بغلط أو تدليس أو إكراه ولا يعلم المتعاقد الآخر بالعيب ولا يستطيع أن يعلم به ، وقد مر بنا ذلك ( [4] ) .

وهذه النظرية الحدية التي أخذ بها القانون الجديد سبقه إليها ، كما قدمنا ، الفقه والقضاء في مصر . ونعرض الآن لكل منهما .

290 – الفقه في مصر : أخذ بعض الفقهاء في مصر بالنظرية التقليدية في السبب ، ونقولها عن الفقهاء الفرنسيين كما أوردناها فيما تقدم ( [5] ) .

ولكن كثرة الفقهاء جاوزوا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة ، وهي نظرية القضاء الفرنسي ، فأثروها على النظرية التقليدية ( [6] ) .

وهناك من الفقهاء من قال بازدواج السبب ، فاستبقى النظرية التقليدية وأكملها بالنظرية بالحديثة على غرار التقنين اللبناني ( [7] ) .

ونحن لا نرى مقتضياً لا ستبقاء النظرية التقليدية وتكميلها بالنظرية الحديثة . وقد رأينا فيما قدمناه أن النظرية التقليدية لا نفع فيها والاستغناء عنها ميسور . هذا إلى أن ربط النظريتين إحداهما بالأخرى هو ربط بين نظريتين يختلفان كل الاختلاف في النزعة وفي الأصل التاريخي . وقد رأينا أن إحداهما تسربت إلينا عن الفقهاء الرومانيين في القرون الوسطى وهي تحمل اثر الصنعة الرومانية ، والأخرى تلقيناها عن الفقهاء الكنسيين وقد بنوها على أصول خلقية دينية وبعدوا بها عن الصياغة الرومانية بعد أن حرروا الإرادة من قيودها الشكلية . ففيم إذن الربط بين نظريتين متنافرتين كل هذا التنافر ! وما الجدوى في هذا الربط ، والنظرية التقليدية يمكن الاستغناء عنها ، والنظرية الحديثة فيها وحدها كل الغناء !

291 – القضاء في مصر : والقضاء في مصر كان أكثر تمشياً مع الفقه مع النظرية الحديثة ، فأخذ بها في كثير من أحكامه ، وقد اقتفى في ذلك اثر القضاء في فرنسا .

فقضت محكمة الاستئناف الوطنية في دعوى ثبت فيها أن شخصاً أودع عقداً عند رجل يأتمنه ، فاتفق ابن المودع مع الأمين على أن يسلمه العقد المذكور في مقابل أن يكتب له عقداً ببيع سبعة أفدنة – بان هذا البيع باطل لأن السبب فيه غير مشروع ، وأن الأمين الخائن لا حق له في طلب ملكية العين ولا في الثمن ( [8] ) . ويلاحظ في هذه القضية أن البيع إذا كان جدياً دفع المشتري فيه ثمناً ، كان عقداً ملزماً للجانبين اعتبر السبب فيه هو الباعث الدافع . أما إذا كان ، كما هو الغالب ، هبة في صورة بيع ، كان تبرعاً أبطله القضاء لعدم مشروعية الباعث على اعتبار أن الباعث هو السبب – وقضت هذه المحكمة أيضاً بأنه إذا كان الباعث لتبرع الخليل لخليلته هو استبقاء العلاقة غير الشريفة بينهما كان العقد باطلا ، أما إذا . كان الباعث هو تعويض الخليلة عما أصابها من الضرر بسبب هذه المعاشرة غير الشرعية بعد أن انقطعت فالباعث يكون مشروعاً والتبرع يكون صحيحاً ( [9] ) – وقضت محكمة الزقازيق الكلية بأن القضاء قد جرى على اعتبار الباعث في مرتبة واحدة مع السبب المباشر وذلك في حالة ما إذا كان العاقد الآخر يعلم بهذا الباعث ، ويعتبر الباعث في هذه الحالة أمراً ملاحظاً في العقد وانه بدونه لا يمكن أن يتم العقد ( [10] ) .

على أن النظرية التقليدية في السبب لم تعدم لها مكاناً في القضاء الوطني ، وقد تردد صداها في بعض الأحكام . فقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنه لا محل للبحث في عقد البيع في الأسباب التي يدعيها البائع كباعث على صدور العقد ، لأن الباعث من الأمور التي لا يلتفت إليها في صحة العقد ، وهو والسبب الصحيح أمران مختلفان لا يصح الخلط بينهما ( [11] ) . وقضت محكمة النقض بان السبب القانونين في عقد القرض هو دفع المقرض نقداً إلى المقترض ، ومن هذا الدفع يتولد الالتزام برد المقابل ، فإذا انتفى السبب هذا المعنى بطل العقد ( [12] ) . ويجوز أن يؤول حكم محكمة استئناف مصر بأن الباعث لم يكن معلوماً من الطرف الآخر فلا يعتد به ، وأن يؤول حكم محكمة النقض بان السبب الذي عنته في حكمها هو السبب المنشيء لعقد القرض .

وقد كان القضاء المختلط أكثر إمعاناً من القضاء الوطني في الأخذ بالنظرية الحديثة في السبب . وإذا كانت محكمة الاستئناف المختلطة قضت في حكم قديم لها ( [13] ) بان الإيجار أو القرض لا يكون باطلا حتى لو كان المستأجر أو المقترض قصد إدارة العين للعهارة أو استعمال المبلغ المقترض في إدارة العين للعهارة ، وحتى لو كان المؤجر أو المقترض عالماً بذلك ، فقد هجرت بعد ذلك هذه النظرية التقليدية ، وأخذت في أحكام كثيرة بالنظرية الحديثة . فقضت بان بيع اسلحة محرم استيرداها إلى مصر يكون باطلا لعدم مشروعية السبب متى كان البائع عالماً بهذا التحريم ( [14] ) . وقضت بان اتفاق البائع والمشتري على الثامن الحقيقي للصفقة ، مع بقائه مخفياً حتى يذكرا ثمناً صورياً أقل من الثمن الحقيقي ، فيتمكن المشتري بذلك من تخفيض رسوم التسجيل بطريق الغش ، يكون اتفاقاً باطلاً لعدم مشروعية السبب ، ولا يستطيع المشتري التمسك بالثمن الحقيقي في مواجهة الشفيع ، كما لا يستطيع البائع التمسك بهذا الثمن في مواجهة المشتري ( [15] ) . وقضت بان عقد القرض يكون باطلا إذا قصد المقترض منه أن يتمكن من المقامرة وكان المقرض عالماً بهذا القصد ( [16] ) ، لكن إذا ثبت أن المقترض لم يستعمل القرض فعلا ي المقامرة فإن الدليل على القصد غير المشروع لا يقوم ويكون عقد القرض صحيحا ( [17] ) . وقضت بان التوكيل المعطي لسمسار لعقد صفقات بقصد المضاربة في البورصة عقد باطل لعدم مشروعية السبب ( [18] ) ، ولكن قصد المضاربة يجب أن يكون معلوماً من السمسار وإلا فلا يعتد به ( [19] ) . وقضت محكمة الإسكندرية التجارية المختلطة بأنه إذا كان الباعث على التبرع استبقاء العلاقة ما بين الخليل وخليلته كان العقد باطلا ، أما إذا كان هو التعويض عما أصاب الخليلة من الضرر بسبب المعاشرة فالباعث مشروع والعقد صحيح ( [20] ) . ولم يكن القضاء المختلط يعتبر التبرع لولد غير شرعي باطلا ، بل يعتبره وفاء لا لتزام طبيعي ، ويعطيه حكم الوصية فيجوز فيما لا يزيد عن الثلث ( [21] ) .

وإذا كان القاضي المصري – لا سيما القضاء الوطني – قد أخذ في الماضي بالنظرية التقليدية في بعض أحكامه ، فلم يعد بعد صدور القانون الجديد محل للأخذ بهذه النظرية . وأصبح من المتعين الآن الأخذ بالنظرية الحديثة التي اعتنقها القانون الجديد ، على ما تصرح به الأعمال التحضيرية فيما قدمناه .

2 – الفصل ما بين منطقة السبب ومنطقة الغلط في القانون الجديد

292 – إبعاد ” السبب غير الصحيح ” من دائرة السبب إلى دائرة الغلط : قدمنا عند الكلام في نظرية الغلط أن التمييز بين السبب غير الصحيح والغلط في الباعث كان مفهوماً وقت أن كانت النظرية التقليدية في كل من الغلط والسبب قائمة . فالنظرية التقليدية في الغلط كانت تميز بين الغلط في السبب وهو يجعل العقد باطلا ، وبين الغلط في الباعث وهو لا يؤثر في صحة العقد ، والنظرية التقليدية في السبب كانت تميز بين السبب أي الغرض المباشر من الالتزام وهو الذي يعتد به ، وبين الباعث وهو عديم الأثر ، ومن ثم كان مفهوماً أن الغلط في السبب يجعل العقد باطلا وأن الغلط في الباعث لا يؤثر في صحة العقد ، لأن السبب بالمعنى التقليدي ألصق بالعقد من الباعث فالغلط فيه أمر خطير من شأنه أن يعدم العقد ، أما الباعث فأمر خارجي عن العقد فلا يعتد بالغلط فيه .

ثم تطورت نظرية الغلط ، فاستبدلنا بالنظرية التقليدية النظرية الحديثة . وأصبح الغلط في الباعث طبقاً لهذه النظرية الأخيرة يجعل العقد قابلا للإبطال . فإذا نحن واجهنا هذه النظرية الحديثة في الغلط بالنظرية التقليدية في السبب ، بقى الفرق قائماً بين الغلط في السبب بمعناه التقليدي وهو الغرض المباشر من الالتزام وبين الغلط في الباعث وهو أمر خارجي عن العقد ، وأمكن تبرير الفرق في الحكم : فالغلط في السبب اللصيق بالعقد يجعل العقد باطلا ، أما الغلط في الباعث الخارج عن العقد فلا يجعل العقد إلا قابلا للإبطال .

ولكن لما تطورت نظرية السبب هي الأخرى واستبدلنا بالنظرية التقليدية النظرية الحديثة ، وأصبح السبب هو عين الباعث ، لم يعد هناك محل للتمييز بين الغلط في السبب بهذا المعنى الجديد وبين الغلط في الباعث . فكلاهما غلط في الباعث . ووجب إذن أن ندرك أن نظرية الغلط قد اتسعت دائرتها كما اتسعت دائرة نظرية السبب ، حتى تدخلت كل دائرة في الأخرى ، فأصبحت هناك منطقة مشتركة بين الدائرتين يتعين أن نستخلصها لاحداهما ، وإلا وقعنا في المحظور الذي أشرنا إليه عند الكلام في نظرية الغلط ، ووقع خلط عجيب ما بين نظريتي السبب والغلط ، إذ تبقى هذه المنطقة المشتركة فيما بينهما يتنازعها كل منهما ، فإذا سميناها بالسبب غير الصحيح أو السبب المغلوط ( cause erronee ) كان العقد باطلا ، وإذا سميناها بالغلط في الباعث ( erreur sur le motif ) كان العقد قابلا للإبطال ( [22] ) .

لذلك كان لا بد من التأمل فيما صارت إليه الأمور بعد تطور نظرية السبب ونظرية الغلط واستبدال النظرية الحديثة في كل منهما بالنظرية التقليدية . وقد لفت ذلك نظر بعض الفقهاء ، ولكنهم لم يشيروا في ذلك برأي حاسم ( [23] ) .

أما القانون الجديد فقد وقف موقفاً صريحاً من هذه المنطقة المشتركة ما بين السبب والغلط ، واعتبر أن السبب غير الصحيح ( أو السبب المغلوط ) هو والغلط في الباعث شيء واحد ، كلاهما غلط في الباعث كما قدمنا ، وكلاهما يجعل العقد قابلا للإبطال . وبعد أن كانت المنطقة المشتركة المشار إليها يتنازعها كل من السبب والغلط على النحو الذي بيناه ، استخلصها القانون الجديد للغلط ، واختفى من نصوص السبب في القانون الجديد النص الخاص بالسبب غير الصحيح . وهذا النظر تبرره اعتبارات منطقية واعتبارات تاريخية .

أما الاعتبارات المنطقية فترجع إلى أنه بعد أن اتسعت فكرة السبب فأصبح السبب هو الباعث ، فإن الغلط فيه لم يعد هو الغلط في السبب الضيق اللصيق بالعقد الذي تقول به النظرية التقليدية في السبب ، بل صار هو عين الغلط في الباعث الذي تقول به النظرية الحديثة في الغلط . ووجب أن يعطي الغلط في السبب إلى دائرة الغلط ، ولا يصبح هناك محل للكلام عن السبب غير الصحيح في نظرية السبب ، فهو لا يزيد على أن يكون غلطاً في الباعث ، ومحل الكلام عنه إنما يكون في نظرية الغلط . أما الغلط في السبب بمعناه التقليدي فقد قدمنا أنه غلط يمنع من تكوين العقد لانعدام الرضاء أو لانعدام المحل ، فالكلام فيه هو أيضاً لا يكون في نظرية السبب ( [24] ) .

وأما الاعتبارات التاريخية فترجع إلى تاريخ نظرية السبب ، وكيف استخدم الفقهاء الكنسيون هذه الفكرة بعد أن حرروا الإرادة من قيود الشكل على ما قدمنا . فقد رأينا إنهم هم الذين صنعوا نظرية السبب ، وجعلوا منها نظرية خصبة منتجة . وقد استخدموها بادئ الأمر لحماية مصلحة عامة هي المشروعية . ثم أقحموا بعد ذلك على السبب غرضاً آخر بعيداً عن الغرض الأول ، فاستخدموا نظرية السبب لحماية مصلحة خاصة فردية هي تحرير الإرادة من عيب الغلط . فمن وقع في غلط فعه إلى التعاقد ، كمن تعاقد لسبب غير مشروع ، يستطيع أن يتمسك بنظرية السبب . وظاهر أن فكرة الغلط دخيلة على نظرية السبب ، فالأولى تحمي مصلحة خاصة للأفراد ، أما الأخرى فتحمي مصلحة عامة للجماعة . والأولى إلى رجاع نظرية السبب سيرتها الأولى ، فتتمحض لحماية المصلحة العامة . وينتقل السبب غير الصحيح إلى دائرة الغلط ، ولا يبقى في دائرة السبب إلا السبب غير المشروع . وهذا ما فعله القانون الجديد .

293 – لا يوجد للسبب في القانون الجديد إلا شرط واحد هو أن يكون مشروعاً : ومن ثم لا نجد في القانون الجديد عبارة ” السبب الصحيح ” التي كنا نقرأها في القانون القديم ، فقد اختفت وأخلت باختفائها الميدان للسبب المشروع وحده . وقد رأينا أن المادة 136 من القانون الجديد تنص على أنه إذا لم يكن للالتزام سبب أو كان سببه مخالفاً للنظام العام أو الآداب ، كان العقد باطلا . وكان القانون القديم في المادتين 94 / 148 يتطلب لصحة التعهدات والعقود أن تكون مبنية على سبب صحيح جائز قانوناً .

فلا يشترط إذن في السبب إلا شرط واحد هو أن يكون مشروعاً . ومن أجل المشروعية وحدها قامت نظرية السبب أول ما قامت ، واليها وحدها عادت في القانون الجديد .

والواقع من الأمر أن السبب ، بمعنى الباعث الدافع على التعاقد ، يجب استبقاؤه ، على إلا يستخدم إلا لحماية المشروعية في التعاقد . ذلك أنه هو وحده الذي يستطيع أن يقوم بهذه الحماية في صورة السبب المشروع ، ولا يغني عنه ركن آخر ، لا ركن المحل ولا ركن الرضاء ( [25] ) . ولكن عند هذا الحد يجب أن تقف مهمته ، فلا تجاوز ذلك إلى حماية العاقد ضد الغلط في صورة السبب الصحيح ، فإن نظرية الغلط تغني عندئذ عن نظرية السبب ، بل وتفضلها من حيث الجزاء .

وقد فهم القضاء ، في مصر وفي فرنسا ، وهو يلامس الحياة العملية ، مهمة السبب على هذا الوجه فتراه يكاد يقتصر على السبب غير المشروع في إبطال العقد . وقل أن تجد تطبيقاً قضائياً لما يدعى بالسبب غير الصحيح إذ هو يختلط في العمل بالغلط . ويكفي للتثبت من ذلك استظهار ما أوردناه من أحكام القضاء المصري والفرنسي في السبب لنراها جميعاً قد عرضت للسبب غير المشروع لا للسبب غير الصحيح ( [26] ) . وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن القضاء قد اتجه اتجاهاً عملياً منتجاً في نظرية السبب . وقد قام على هذا النحو بمهمته خير قيام . أما الفقه فلا يزال مطلوباً منه أن يقوم بمهمته هو الآخر ، فيعين القضاء على شق طريقه ، ويصوغ له نظرية جديدة في السبب تتمشى مع مقتضيات العمل . وقد سبق القانون الجديد الفقه إلى ذلك ، فخطا بنظرية السبب خطوة جديدة حاسمة في تاريخ تطوره الحديث . فاتسع أفق السبب بعد هذا الضيق الذي كان ملحوظاً في النظرية التقليدية ، وخلص من الشوائب التي كانت تعتريه من جراء اختلاطه بنظرية غريبة عنه هي نظرية الغلط .

294 – مأخذان على القانون الجديد : على أن هناك مأخذين على القانون الجديد ، تمعا في العبارة التي صدرت بها المادة 136 . فقد جاء في صدر هذه المادة : ” إذا لم يكن للالتزام سبب ” . فالسبب قد نسب إلى الالتزام ، وكان الأولى أن ينسب إلى العقد إذ هو متلازم مع الإرادة كما رأينا . ثم افترض النص احتمال أن يكون هناك التزام دون سبب ، وهذا احتمال لا يتصور ، فما دمنا نجعل السبب هو الباعث ، فكل إرادة لا بد أن يكون لها باعث إلا إذا صدرت من غير ذي تمييز ( [27] ) .

والعبارة التي ننتقدها أليق بالنظرية التقليدية ، ففي هذه النظرية ينسب السبب إلى الالتزام ويتصور أن يكون غير موجود . ولكن لا يجوز أن يفهم منذ لك أن القانون الجديد قد استبقى النظرية التقليدية ، فإن الأعمال التحضيرية صريحة في أنه قد نبذها واعتنق النظرية الحديثة ( [28] ) .


 ( [1] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادتين 189 و 190 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : م 189 : يكون العقد باطلا إذا التزم المتعاقد دون سبب أو لسبب غير مشروع – م 190 – كي كون السبب غير مشروع إذا كان مخالفاً للنظام العام أو للآداب . وفي لجنة المراجعة ادمجت المادتان في مادة واحدة على الوجه الآتي : ” إذا لم يكن للالتزام سبب ، أو كان سببه مخالفاً للنظام العام أو الآداب ، كان العقد باطلا ” . وأصبح رقم المادة 140 في المشروع النهائي – ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وكذلك فعلت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وأصبح رقم المادة 136 . ووافق عليها مجلس الشيوخ دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 226 – ص 228 ) .

 ( [2] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 225 . وقد أشارت المذكرة الإيضاحية إلى تعديلين استحدثهما القانون الجديد فقالت : ” ورغم أن المشروع قد التزم حدود التصوير التقليدي للسبب كما ارتسمت معالمه في التقنينات اللاتينية ، إلا أنه عرض له بتعديلين متفاوتي الأهمية . فيراعى أولاً أنه اقتصر على رد عدم مشروعية السبب إلى تعارضه مع النظام العام أو الآداب دون أن يشير إلى مخالفته لنص من نصوص القانون . وهو بإغفال هذه الإشارة يخالف ما اتبعه التقنين الفرنسي وأكثر التقنينات اللاتينية معتدا في ذلك بعين الاعتبارات التي أملت عليه مسلكه فيما يتعلق بعدم مشروعية المحل . والواقع أنه قد يؤخذ على الإشارة إلى مخالفة السبب لنص من نصوص القانون إفراطها في السعة أو تجردها من الفائدة . فهي تجاوز حدود المقصود إذا صرفت عبارة ” نص القانون ” إلى الأحكام التشريعية كافة . وهي تصبح عديمة الغناء إذا اقتصر المقصود من هذه العبارة على الأحكام الامرة التي لا يجوز الخروج عليها بمشيئة الأفراد . ويراعى من ناحية أخرى أن المشروع قد اغفل ذكر ” السبب الصحيح ” ، وهو ما يكون غير مطابق للواقع ، وهذا هو أهم التعديلين ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 225 ) .

 ( [3] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 227 .

 ( [4] ) وقد يقال أيضاً – كما قيل في صدد الغلط والتدليس والإكراه – إن العقد يقوم لا على التراضي ، بل على سبيل التعويض .

 ( [5] ) أنظر الدكتور عبد السلام ذهني بك في النظرية العامة في الالتزامات ص 145 وما بعدها – الدكتور محمد صالح بك في أصول التعهدات ص 264 وما بعدها .

 ( [6] ) أنظر والتون 1 ص 61 – ص 63 – الدكتور محمد وهيبة في النظرية العامة في الالتزامات فقرة 318 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 544 – فقرة 548 .

 ( [7] ) وقد أشارت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إلى نظرية السبب المزدوجة التي أخذ بها التقنين اللبنانين ولم يأخذ بها القانون الجديد ، فقالت في هذا الصدد ما يأتي : ” ويفرق ا لتقنين اللبنانين بين سبب الالتزام وسبب العقد ( م 194 ) . فسبب الالتزام هو الباعث الذي يدفع إليه مباشرة . وهو بهذا الوصف يتمثل في صورة واحدة في كل ضرب من ضروب الالتزام ، ويعتبر جزءاً من التعاقد نفسه . فهو في العقود الملزمة للجانبين الالتزام المقابل ، وفي العقود العينية تسلم المعقود عليه ، وفي التبرعات نية التبرع ، وفي المعاوضات الملزمة لجانب واحد التزام مدني أو طبيعي كان قائماً بين المتعاقدين قبل التعاقد ( م 195 ) . أما سبب العقد فهو الباعث الشخصي الذي يدعو المتعاقد إلى إبرامه ، وهو لا يعتبر شقاً من التعاقد ، فهو يختلف باختلاف الأحوال في العقد الواحد . بيد أن هذه التفرقة ليست في الواقع إلا إبقاء على التمييز بين دلالة السبب في الفقه التقليدي وبين دلالته الحديثة كما استخلصها القضاء . ولما كان التصوير التقليدي ضيق الحدود فقد رؤى الإعراض عنه ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 227 ) – أنظر أيضاً جوسران 2 فقرة 148 .

وممن يقول بازدواج السبب الدكتور حشمت أبو ستيت بك فقرة 242 ، وهو صريح في هذا المعنى . أنظر أيضاً الدكتور بهجت بدوي بك ص 173 – ص 174 .

 ( [8] ) 24 فبراير سنة 1915 الشرائع 2 رقم 216 ص 210 .

 ( [9] ) 13 يونية سنة 1909 المجموعة الرسمية 11 رقم 3 ص 6 – الحقوق 24 ص 230 .

 ( [10] ) 20 فبراير سنة 1930 المحاماة 11 رقم 39 ص 72 .

 ( [11] ) 26 نوفمبر سنة 1929 المحاماة 10 رقم 147 ص 295 .

 ( [12] ) 3 نوفمبر سنة 1932 مجلة القانون والاقتصاد 3 ص 476 .

 ( [13] ) 22 نوفمبر سنة 1877 المجموعة الرسمية للقضاء المختلط 3 ص 18 .

 ( [14] ) 27 يناير سنة 1909 م 21 ص 136 .

 ( [15] ) 22 يناير سنة 1924 م 36 ص 170 – ولمحكمة النقض قضاء في مسألة كهذه في حكم لها صدر اخيراً ( لم ينشر بعد ) ذهبت فيه إلى أن الشفيع يعتبر من الغير بالنسبة إلى الثمن الصوري ، فله أن يأخذ به دون الثمن الحقيقي ما دامت له مصلحة في ذلك . وعندهنا أن الشفيع لا يعتبر من الغبر في عقد البيع الذي ذكر فيه الثمن الصوري المخفض ، لأن الغير في الصورية هو شخص ثبت له حق على العين محل التصرف الصوري دون أن يكون هذا الحق ناشئاً عن التصرف الصوري ذاته ، والشفيع شخص ثبت له حق على العين الشمفوعة نشا عن البيع الصوري فلا يكون ” غيراً ” . وإذا أراد الأخذ بالشفعة وجب أن يدفع الثمن الحقيقي ، قل هذا الثمن عما هو مذكرو في العقد أو زاد . وسنعرض لهذه المسألة بتفصيل أوفى عند الكلام في الصورية .

أما قضاء محكمة الاستئناف المختلطة الذي أوردناه هنا ، فوجه الاستشهاد به أنه يأخذ بالنظرية الحديثة في السبب ، ولكن نأخذ عليه أنه إذا اعتبر الاتفاق على الثمن الحقيقي باطلا لعدم مشروعية السبب ، وجب أيضاً أن يعتبر الاتفاق على الثمن الصوري غير موجود لصوريته ، فيسقط الاتفاق في الحالتين . ولا يستطيع الشفيع أن يتمسك لا بالثمن الصوري ولا بالثمن الحقيقي . بل هو لا يستطيع الأخذ بالشفعة إطلاقاً لن البيع الذي يريد بسببه الأخذ بالشفعة ير موجود لانعدام الثمن .

 ( [16] ) 25 فبراير سنة 1897 م 9 ص 194 – 15 مايو سنة 1929 م 41 ص 394 .

 ( [17] ) 24 يونية سنة 1931 جازيت 22 رقم 279 ص 249 .

 ( [18] ) 16 مارس سنة 1933 م 45 ص 203 .

 ( [19] ) 5 ديسمبر سنة 1934 م 47 ص 50 .

 ( [20] ) 8 يونية سنة 1916 جازيت 6 رقم 536 ص 176 .

 ( [21] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 10 مارس سنة 1897 م 9 ص 190 .

 ( [22] ) أنظر آنفاً فقرة 173 .

 ( [23] ) من ذلك ما ورد في بلانيول وريبير وبولانجيه ( الطبعة الثالثة 1949 ) 2 فقرة 205 وفقرة 304 وفقرة 824 ( وقد سبقت الإشارة إليها آنفاً في حاشية الفقرة 173 من هذا الكتاب ) من أن الغلط في الباعث هو في الواقع غلط في السبب ، والجزءا في الحالتين هو البطلان النسبي لا البطلان المطلق ، وذلك لأن شرط الصحة في السبب تراد به حماية مصلحة فردية ، فجزاء الإخلال به البطلان النسبي ، أما شرط المشروعية فتراد به حماية مصلحة عامة ، فجزاء الإخلال به البطلان المطلق – أنظر أيضاً في هذا المعنى بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 263 .

ومن ذلك أيضاً ما هب إليه الدكتور حلمي بهجت بدوى بك ( أصول الالتزامات ص 179 و ص 186 وص 232 ) من أن الغلط صورة من صور السبب غير الصحيح ، فهو يصوغه على أنه قصور الغرض المباشر الذي اتجهت إليه إرادة المتعاقد عن إجابة الحافز الرئيسي الذي حفزه للتعاقد ، ويقول إن هذه الصيغة هي بعينها صيغة السبب غير الصحيح ، وهي على هذا الوجه صالحة للتطبيق على جميع أنواع الغلط دون حاجة إلى تقسيم الغلط إلى غلط في الشخص وغلط في الشيء وغلط في غير ذلك ، لأن العبرة ليست بذات الشخص أو بذات الشيء وإنما بالغرض الذاتي أي بالحافز الرئيسي . فإذا ما خلص له أن حالتي الغلط والتدليس هما بعينهما حالة السبب غير الصحيح ، جعل الجزاء في كل هذه الأحوال البطلان النسبي لا البطلان المطلق . فهو يلحق الغلط بالسبب في ماهيته ، ثم يلحق السبب بالغلط في جزائه . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ( أنظر آنفاً حاشية الفقرة 173 ) .

 ( [24] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ويراعى من ناحية أخرى أن المشروع قد اغفل ذكر ” السبب غير الصحيح ” ، وهو ما يكون غير مطابق للواقع ، وهذا هو أهم التعديلين . فالحق أن الغلط في هذا الشأن لا يعدو أن يكون غلطا في الباعث . وقد كان يخلق التنبيه إلى ما في الإبقاء على التفرقة بين الغلط والسبب غير الصحيح من تشبث بأهداب السطحيات والفوارق الصناعية ، بعد أن أصابت فكرة الغلط من السعة ما جعلها تجاوز نطاقها المادي الضيق ، وتصبح فكرة نسفية تتناول الباعث المستحث ، وتنتهي بذلك إلى صورتها السوية في ” الغلط الجوهري ” . ولهذا رؤى إخراج ” السبب غير الصحيح ” أو الغلط في السبب من بين أسباب البطلان المطلق واعتباره سبباً للبطلان النسبي ، شأنه في ذلك شأن سائر ضرور الغلط . ولم يتسبق المشروع من صور السبب غير الصحيح إلا السبب الصوري . ومع ذلك فقد رد حكمه إلى فكرة المشروعية ، وجعل السبب الحقيقي مرجع الحكم فيما يرتب العقد من آثار ، فإن كان هذا السبب مشروعاً صح العقد ، وإن كان غير مشروع بطل العقد لعدم مشروعية سببه لا للصورية ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 225 – ص 226 ) .

 ( [25] ) ولا يجوز أن يقال إنه يمكن الاستغناء عن مشروعية السبب ، والاقتصار على اشتراط أن يكون العقد غير مخالف للنظام العام أو الآداب كما فعل التقنين الألماني مثلا . فإن هذا الاشتراط لا يستقيم إلا إذا قيل إن المقصود به أن يكون غرض العقد غير مخالف للنظام العام أو الآداب . وغرض العقد هو سببه ، والتعبير عن الغرض بالسبب أدق من ناحية الصياغة الفنية .

 ( [26] ) أنظر في هذا المعنى بلانيول وريبير وبولانجيه ( الطبعة الثالثة سنة 1949 ) 2 فقرة 281 ، وقد جاء في هذه الفقرة ما يأتي : ” لم يستخدم القضاء كثيراً فكرتي انعدام السبب والسبب غير الصحيحن فقد كان لديه لهذا الغرض أداة أخرى هي إبطال العقد الغلط . ولكنه على النقيض من ذلك استخدم إلى مدى بعيد فكرة السبب غير المشروع ، فقد أعطته المادة 1133 وسيلة من وسائل الصنعة الفنية لتقرير جزاء للقاعدة التي اشتملت عليها المادة السادسة من القانون المدني الفرنسي ” .

 ( [27] ) وكان من الحير أن تصاغ المادة 136 على الوجه الآتي : ” إذا التزم المتعاقد لسبب غير مشروع ، كان العقد باطلا ” .

 ( [28] ) قارن الدكتور أبو عافية في التصرف المجرد فقرة 54 ص 199 هامش رقم 9 .

منشور في مقال أقوى محامي الأردن

اذا كان لديك ملاحظة اكتبها هنا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s