افتقار الدائن
( Appauvrissement du creancier )
764 – الافتقار وعلاقة السببية بالإثراء : الركن الثاني لقاعدة الإثراء بلا سبب هو افتقار الدائن افتقاراً ترتب عليه إثراء المدين . فيجب إذن أن يكون هناك افتقار في جانب الدائن ، وأن يكون هناك علاقة سببية مباشرة ما بين افتقار الدائن وإثراء المدين ( [1] ) .
765 – وجوب تحقق الافتقار :فإذا تحقق الإثراء في جانب شخص ولم يقابله افتقار في جانب الشخص الآخر ، لم يكن هناك مجال لتطبيق قاعدة الإثراء . ذلك أن المثري لا يلتزم إلا بدفع أدني القيمتين ، قيمة الإثراء وقيمة الافتقار ، والمفروض أن الافتقار معدوم فلا يلتزم إذن بشيء .
ويترتب على ذلك أنه أنشأ شخص حديقة في منزله يطل عليها منزل الجار ، وجمل هذه الحديقة حتى أصبحت سبباً في رفع قيمة منزل الجار ، فالجار في هذه الحالة يكون قد أثري . ولكن صاحب الحديقة لم يفتقر ، فأنه انشأ الحديقة لمنفعة وقد جنى هذه المنفعة كاملة ، وما أنفقه في إنشاء الحديقة وتجميلها قد عاد عليه بالفائدة التي قدرها . فهو قد أخذ المقابل لما أنفقه ، ولم يخسر شيئاً ، فلا يرجع بشيء على جاره ( [2] ) .
كذلك إذا استحدث المستأجر ، دون اتفاق مع المالك ، إصلاحات في العين المؤجرة تزيد في منفعتها ، واستوفي هذه المنفعة كاملة ، فإنه لا يرجع على المالك بشيء ، وليس له إلا أن ينتزع ما استحدثه من الإصلاحات وأن يعيد العين إلى حالتها الأصلية ، بل يجب عليه ذلك إذا طلب المالك ( [3] ) .
ويتحقق افتقار الدائن على النحو الذي يتحقق به إثراء المدين . فيكون لافتقار إيجابياً أو سلبياً ، مباشراً أو غير مباشراً ، مادياً أو معنوياً .
766 – الافتقار الإيجابي والافتقار السلبي : يكون الافتقار إيجابياً إذا فقد المفتقر حقاً ، عينياً كان أو شخصياً ، أو انتقص حق له . ويتحقق هذا عادة بالإنفاق . فإذا انفق الراسي عليه المزاد لإصلاح العين التي رسا عليه مزادها ثم آلت إلى شخص آخر ، أو دفع شخص ديناً في ذمة غير ه ، أو قام مساهم في شركة برفع دعوى تحمل نفقتها ليسترد من مدير هذه الشركة مالاً لها في يده ( [4] ) ، ففي كل هذه الأحوال يكون هناك افتقار إيجابي في جانب المفتقر .
ويكون الافتقار سلبياً إذا فات المفتقر كان من حقه أن يحصل عليها ، فيفتقر ، لا بقدر ما تحمل من خسارة كما في الافتقار الإيجابي ، بل بقدر ما فاته من منفعة . مثل ذلك أن يقوم المفتقر دون اتفاق بأداء عمل للغير ، فيفتقر بما فاته من منفعة هي أجر هذا العمل . ومثل ذلك أيضاً أن يسكن شخص منزلاً لآخر دون عقد إيجار ، فيفتقر صاحب المنزل بما فاته من منفعة هي أجرة منزله . ومثل ذلك أخيراً المهندس صاحب التصميم ، والموسيقى صاحب اللحن ، والعازف بالأنساب الذي هدى الوارث إلى ميراثه ، والسمسار الذي جمع ما بين البائع والمشتري ، كل هؤلاء افتقروا بما فاتهم من منفعة هي أجر عملهم ، فافتقارهم إذن سلبي ( [5] ) .
ويلاحظ أن الانتفاع السلبي لا يقابله ضرورة إثراء سلبي . فكثيراً ما يحدث أن يقابل الافتقار السلبي إثراء إيجابي ، كما هو الأمر في الحالات المتقدمة وفي كل حالة أخرى يقدم فيها المفتقر عملاً أو منفعة للمثري ، فإن الإثراء الناتج عن العمل أو المنفعة يكون إثراء إيجابياً ويكون الافتقار المقابل لهذا الإثراء افتقاراً سلبياً كما رأينا . وبالعكس قد يقابل الإثراء السلبي افتقار إيجابي ، فمن يدفع دين غيره يفتقر افتقاراً إيجابياً يقابله إثراء سلبي في جانب المدين .
767 – الافتقار المباشر والافتقار غير المباشر : وعلى العكس من ذلك الافتقار المباشر والافتقار غير المباشر ، فكل افتقار مباشر يقابلة إثراء مباشر ، وكل افتقار غير مباشر يقابله إثراء غير مباشر . ذلك أن القيمة المالية إذا انتقلت مباشرة من مال المفتقر إلى مال المثري فإنه كلا من الإثراء والافتقار يكون مباشراً في هذه الحالة . وإذا انتقلت القيمة المالية بتدخل أجنبي ، تدخلاً مادياً أو تدخلاً قانونياً ، فكل من الإثراء والافتقار غير مباشر . وقد مرت بنا الأمثلة على كل ذلك .
768 – الافتقار المادي والافتقار المعنوي :وإذا كان الأصل في الافتقار أن يكون مادياً كما مر بنا في الأمثلة المتقدمة ، فإنه كالإثراء قد يكون معنوياً فالشخص الذي نفع متجراً بصلاته التجارية الواسعة لم يفتقر افتقاراً مادياً بل معنوياً ( [6] ) . وهذا هو الشأن في افتقار المهندس الذي يعمل في مصنع فيعثر على اختراع يفيد منه المصنع ( [7] ) .
769 – السببية المباشرة بين الافتقار والإثراء :ولا يكفي أن يتحقق الافتقار بل يجب أيضاً ، كما أسلفنا القول ، أن يكون هذا الافتقار هو السبب المباشر في إثراء المدين . وتقوم السببية المباشرة ما بين الافتقار والإثراء إذا كانت واقعة واحدة هي السبب المباشر لكل منهما ، كما رأينا في الأمثلة التي قدمناها في الصور المختلفة للإثراء والافتقار . فإذا دفع شخص دين غيره ، فإن افتقاره وإثراء المدين لهما سبب مباشر وأحد ، هو دفع الدين . وليس من الضروري أن تكون واقعة هي السبب المباشر لكل من الإثراء والافتقار ، بل يكفي حتى تقوم هذه السلبية المباشرة التثبت من أن إثراء المدين لم يكن ليتحقق لولا افتقار الدائن . وهذه مسألة واقع لا مسألة قانون ، يستخلصها قاضي الموضوع من ظروف القضية ولا معقب عليه في ذلك ( [8] ) .
وعند تعدد أسباب الإثراء يجوز أن نحلل علاقة السببية المباشرة بين الإثراء والافتقا على النحو الذي حللنا به علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر في المسئولية التقصيرية . ويمكن هنا أيضاً المفاضلة بين نظريتي تكافؤ الأسباب ( equivalence des causes ) والسبب المنتج ( canse etficiente ) ، والوقوف عند نظرية السبب المنتج للقول بوجود سببية مباشرة ما بين الافتقار والإثراء فإذا تبين أن الافتقار كان هو السبب المنتج للإثراء وجدت العلاقة المباشرة فيما بينهما . ويترتب على ما قدمناه أن المدينة إذا اتسعت وقعتها وعلت قيمة مبانيها ، فليس من الضروري أن تكون هناك سببية مباشرة ما بين اتساع رقعة المدينة وعلو قيمة المباني . فعلو هذه القيمة يرجع لأسباب متعددة قد يكون اتساع رقعة المدينة من بينها ، ولكن هذا السبب لا يكون في الراجح هو السبب المنتج ، إذ أن المباني في كثير من المدن الصغيرة عالية القيمة ، بل يحدث أن يكون صغر المدينة هو السبب في علو قيمة المباني ( [9] ) . ولكن توسيع شارع قديم أو فتح شارع جديد يكون في كثير من الأحوال هو السبب المنتج في علو قيمة الأرض الواقعة على جانبي الشارع ( [10] ) .
( [1] ) وقد رأينا أن بعض الفقهاء يذهب إلى أنه يكفي إثراء المدين دون أن يقابل ذلك افتقار في جانب الدائن ، ويقيمون قاعدة الإثراء بلا سبب على المنفعة المستحدثة ( profit cree ) مقابلين بينهما وبين الضرر المستحدث ( risque cree ) . ولكن هذه النظرية ، كنظرية الضرر المستحدث أو تحمل التبعة ، لم يقيض لها النجاح ولا في القضاء ولا في النفقة ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
( [2] ) ويقاس على هذا المثل كل حالة ينفق فيها الشخص لجلب منفعة يستوفيها – يقوى جسراً أو يشق ترعة أو يجمل مبنى أو يصقع حياً – فهو قد انتفع بقدر ما انفق ، وإذا كان غيره قد أفاد من عمله فهو لم تلحقه أية خسارة . ويمكن القول هنا إن الافتقار له سبب هو المنفعة التي حصل عليها . ولكن ” سبب ” الافتقار غير ” سبب ” الإثراء ، و سنرى ذلك عن بحث ركن انعدام السبب ( أنظر بلانيول وريبير وإسمان 7 فقرة 761 ) .
ويلاحظ أن بعض المحاكم تعبر خطأ عن المعنى نحن بصدده بانعدام السببية المباشرة بين الإثراء والافتقار ، فتقول في شخص يقيم بناء لمصلحته فيستفيد جاره عرضاً من هذا البناء ألا محل هنا للمطالبة بدعوى الإثراء ” لأن المنفعة جاءت من طريق غير مباشر ” … … ” والواجب أن يكون بين الاستفادة والضرر رابطة السببية ” . ( الواسطي في 17 يناير سنة 1938 المجموعة الرسمية 18 رقم 475 ص 1095 ) .
( [3] ) وسنرى عند الكلام في الفضالة أن المستأجر إذا أجرى إصلاحيات في العين المؤجرة لمنفعته الشخصية لا يكون فضولياً ولا يستطيع أن يرجع بدعوى الفضالة على المالك ، لأنه لم يقصد بعمله إلا تدبير شؤونه الشخصية لا تدبير شؤون المالك فالمستأجر في هذه الحالة لا يرجع على المالك لا بدعوى الفضالة ولا بدعوى الإثراء بلا سبب . وقد قضت محكمة استئناف مصر في هذا المعنى بما يأتي : ” أن محل تطبيق نظرية الإثراء بغير سبب على حساب الغير ودعوى الفضولي هو أن يكون الإثراء بغير سبب من الأسباب القانونية ولن يكون عمل الفضولي لحساب المالك لا لحسابه الخاص لغرض الوصول إلى الانتفاع بالعين شخصياً . فمستأجر الأرض الذي يجري تحسينات فيها ويقيم مباني ويغرس أشجاراً بقصد تسهيل وسائل الاستغلال والاستعمال الشخصي رغم الخطر الصريح عليه في عقد الإيجار بعدم إجراء شيء من ذلك إلا بأمر المالك ، يكون ملزماً بإزالة أحدثه بدون أن يكون له حق الرجوع على المالك بما أوجده من التحسينات في العين المؤجرة ” . ( استئناف مصر في 27 أبريل سنة 1937 المجموعة الرسمية 38 رقم 8 ص 175 – المحاماة 18 رقم 72 ص 150 ) . ويبدو أن المحكمة أست رفض دعوى الإثراء على انعدام السبب القانوني ، وكان الأولي أن تؤسسه على انعدام الافتقار .
( [4] ) محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة في 23 ديسمبر سنة 1911 جازيت 2 ص 63 – أنظر محكمة الاستئناف المختلطة في 5 يونية سنة 1929 م 41 ص 438 – وقارن محكمة الاستئناف المختلطة في 25 أبريل سنة 1928 م 40 ص 321 .
( [5] ) أنظر في هذا المعنى محكمة الاستئناف المختلطة في 15 ديسمبر سنة 1926 جازيت 17 رقم 42 ص 53 .
( [6] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 4 مارس سنة 1925 م 37 ص 265 ( وقد سبقت الإشارة إلى هذا الحكم )
( [7] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 26 مايو سنة 1910 م 22 ص 338 .
( [8] ) مارافان مجلة مصر العصرية ص 91 – ص 93 – ديموج 3 فقرة 156 – أوبرى ورو وبارتان 9 ص 358 – بلانيول وريبير وإسمان 7 فقرة 755 .
( [9] ) أنظر في هذا المعنى ديموج 3 فقرة 156 ص 251 .
( [10] ) ويؤيد ذلك القوانين الخاصة التي تجعل للحكومة الحق في تقاضي تعويض من ملاك الأراضي على جانبي الشارع الجديد في مقابل ما ظفروا به من علو قيمة أراضيهم بسبب هذا الشارع الجديد .
هذا وهناك رأي يقضي بأنه إذا كان افتقار الدائن مقترناً بخطأ منه ، فلا يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء ( كولان وكابيتان وجوليودي لامورانديير 2 باريس سنة 1948 فقرة 411 ص 299 – بلانيول وريبير وبولانجيه 2 باريس سنة 1949 فقرة 1269 – ذهني بك في نظرية الالتزام فقرة 706 ) . ويستند هذا الرأي إلى حكم صدر من محكمة النقض الفرنسية ( 11 يولية سنة 1889 داللوز 1889 – 1 – 393 ) في قضية ثبت فيها أن مصروفاً أعطى مديناً قرضاً ليفي بدين عليه مضمون برهن في الدرجة الأولي ، وأهمل المصروف في أن يقوم بإجراءات الحلول محل الدائن المرتهن الأول ، وترتب على هذا الإهمال المصرف في أن يقوم بإجراءات الحلول محل الدائن المرتهن الأول ، وترتب على هذا الإهمال أن الدائن المرتهن في المرتبة الثانية ارتفع إلى المرتبة الأولي . فرجع المصروف على هذا الدائن بدعوى الإثراء إذ قد استفاد من افتقار المصرف فأصبح في المرتبة الأولي وجاء المصرف بعده ، فرفضت المحكمة دعوى المصرف ، وبنت حكمها على أن المصرف قد أهمل في عدم اتخاذ إجراءات الحلول . والرأي الصحيح في نظرنا أن المصروف ترفض دعواه لا لأنه أهمل في عدم اتخاذ إجراءات الحلول كما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية ، بل لأن الدائن الذي ارتفع إلى المرتبة الأولي قد أثرى بسبب مشروع إذا استفاد بمقتضى مركز قانوني وضعه فيه القانون ، وسنرى تفصيل ذلك في الكلام عن سبب الإثراء .
ولا يوجد في القواعد العامة التي يقوم عليها مبدأ الإثراء بلا سبب ما يؤيد الرأي الذي تنقذه . ذلك أنه متي ثبت أن شخصاً افتقر فاغتنى غيره على حسابه دون سبب مشروع ، فإن العدالة تقضى بتعويض المفتقر ، سواء اقترن بإهمال منه أو لم يقترن . وإنما وجب التعويض لأن أحد الشخصين اغتني على حساب الآخر دون سبب مشروع ، وهذا الأساس قائم سواء كان مفتقر مهملاً أو غير مهمل .
يؤيد ذلك أن التطبيقات التشريعية لبدأ الإثراء بلا سبب لم يخل بعضها من أن يكون المفتقر فيها مهملاً بل سئ النية فمن بنى فمن أو غرس في أرض غيره ولو بسوء نية لم يحرم من التعويض ( م 924 ) . كذلك لم يميز المشروع فيمن يتعامل مع ناقص الأهلية بين حسن النية وسيئها فكلاهما يستطيع الرجوع بدعوى الإثراء فيما إذا طلب ناقص الأهلية إبطال العقد ( م 142 ) . ( أنظر في هذا الموضوع الموجز للمؤلف فقرة 383 وقد نقلنا عنه ما قدمناه في هذا الصدد . وانظر الدكتور حشمت أبو ستيت في نظرية الالتزام فقرة 536 في آخرها . )
نقلا عن محامي أردني