الإثراء بلا سبب
( l Enrichissement sans cause )
تمهيد
737 – الإثراء بلا سبب هو مصدر قديم من مصادر الالتزام : كل من أثرى على حساب الغير دون سبب قانوني يلتزم بأن يرد لهذا الغير قدر ما أثرى به في حدود ما لحق الغير من خسارة فإذا استولي شخص على ملك غيره ، دون أن يكون لهذا الاستيلاء بسبب قانوني ، وأضافه إلى ملكه ولو بنية حسنة ، يكون قد اثرى دون سبب قانوني على حساب الغير ، فيلتزم برد أدنى القيمتين : ما أثرى به هو وما افتقر به الغير .
وقاعدة الإثراء بلا سبب على هذا النحو الذي بيناه تعتبر من أولي قواعد القانون . تمتد جذورها فتتصل مباشرة بقواعد العدالة والقانون الطبيعي . وهي في غير حاجة إلى تبرير ، إذ تحمل في طياتها ما يبررها بل لعلها أول مصدر ظهر للالتزام في فجر التاريخ ، وهذا مبلغ حفظها من البداهة القانونية . وهي على كل حال مصدر للالتزام عاصر مصدر العمل غير المشروع ، وهذا هو من المصادر الأولي التي عرفها القانون ( [1] ) .
738 – على أن قاعدة الإثراء بلا سبب ، إذا كانت قد عرفت منذ القديم ، فهي لم تعرف إلا على نحو غير متصل الأجزاء : عرفها القانون الروماني لا كمبدأ عام تستخلص منه تطبيقاته المتنوعة ، بل كجزيئات متناثرة وفروض متفرقة تستقصي في حالات محددة ، دون أن يجمعها أصل مشترك أو تنتظمها قاعدة عامة .
وكان حظ القاعدة في العصور الوسطى ، سواء في القانون الفرنسي القديم أو في الفقه الإسلامي أو في القانون الإنجليزي ، حظاً ضئيلاً لا يداني حتى هذا المجال المحدود الذي ظفرت به في القانون الروماني .
وتلقاها القانون الحديث تراثاً مبعثراً مشتت الأجزاء ، فبقيت مختلطة بغيرها من مصادر الالتزام دون أن تظفر بقوام ذاتي وكيان مستقل ( [2] ) ، حتى عهد قريب ، إذ تناولها القضاء في فرنسا وفي مصر ، وتناولتها التقنيات الحديثة ، فارتسمت لها حدود معروفة المعالم واضحة المدى . وكسبت القاعدة ذاتيتها ، وقامت مصدراً مستقلاً إلى جانب غيرها من مصادر الالتزام .
وسجل القانون المصري الجديد أقضي مرحلة وصلت إليها القاعدة في مراحل تدرجها . ومن ثم يعنينا أن نتابع القاعدة في تطورها التاريخي .
التطور التاريخي لقاعدة الإثراء بلا سبب
القانون الروماني :
739 – طائفتان من الدعاوى :عرف القانون الروماني طائفتين من الدعاوى تقومان على قاعدة الإثراء بلا سبب : دعاوى الاسترداد لما دفع دون سبب ( condictiones sine cause ) ودعاوى الإثراء بلا سبب ( action de in rem verso ) ولكن كلا من هاتين الطائفتين من الدعاوى لم تكن تباح إلا في حالات معينة حددت على سبيل الحصر . ولم يصل القانون الروماني إلى وضع القاعدة عامة تشتمل على جميع الأحوال التي يجوز أن يتناولها الإثراء دون سبب ونستعرض هاتين الطائفتين من الدعاوى .
740 – دعاوى استرداد ما دفع دون سبب :وهذه تشتمل على الدعاوى الآتية :
1 – دعوى يسترد بها الشخص ما دفعه دون حق وهو يظن أن هذا الغير دائن له ، وتسمى ( condictio indebiti ) .
2 – دعوى يسترد بها الشخص ما دفعه للغير لسبب مشروع لم يتحقق ، وتسمى ( condictio cause date cause non secutar ) .
3 – دعوى يسترد بها الشخص ما دفعه للغير لمنعه من القيام بعمل غير مشروع ( كمنعه من ارتكاب جريمة ) ، أو لدفعه إلى تلافي ما قام به من عمل غير مشروع ( كدفعة إلى رد ما سرقه ) . وهذه الدعوى تسمى ( turpem causam condictio ob ) فإذا كان السبب غير المشروع قائماً عند كل من المتعاقدين ، كما إذا تعاقد شخص مع آخر لدفعه إلى ارتكاب جريمة أو عمل من أعمال العهارة أو المقامرة ، امتنع الاسترداد .
4 – دعوى يسترد بها المفتقر من المثري ما افتقر به على خلاف أحكام القانون ، كالمدين يسترد من دائنه ما دفعه من فوائد غير قانونية أو من دين عقده تحت سلطان الإكراه . وهذه الدعوى تسمي ( causam condicto ob injustum ) .
5 – دعوى يسترد بها الشخص من الغير ما دفعه له في أحوال معينة ، إذا كان السبب غير موجود أو كان لم يتحقق أو كان قد انقطع بعد أن تحقق . وهذه الدعوى تسمي ( condictio sine causa ) بمعناها الضيق . ولكنها لم تكن تباح إلا في أحوال محددة على سبيل الحصر ، فلم تمتد إلى جميع الأحوال لتصبح قاعدة عامة . من ذلك أن المفتقر لم يكن له من سبيل إلى الاسترداد في بعض الحالات ، كالمصروفات ينفقها الحائز لأرض الغير وهو حسن النية ، وكالأرض يفقدها مالكها بتحول مجرى النهر .
يلاحظ في شأن دعاوى الاسترداد هذه أمور ثلاثة .
( الأمر الأول ) أن ظهور هذه الدعاوى في القانون الروماني كان نتيجة للشكلية ( formalisme ) والتجرد ( abstraction ) اللذين انطوى عليهما التعامل في هذا القانون فقد كان العقد يعتبر صحيحاً دون اعتبار لسببه ، حتى لو كان هذا السبب غير موجود أو كان غير مشروع ، ما دام العقد قد استوفى الشكل المفروض وكانت الملكية تنتقل طبقاً للأوضاع المرسومة حتى لو كان سبب نقلها غير موجود أو غير مشروع . ومن ثم وجدت دعاوى الاسترداد هذا فيما لو نفذ العقد وكان سببه غير موجود أو غير مشروع فيسترد المدين ما دفع ، وفيما لو انتقلت الملكية لسبب غير موجود أو غير مشروع فيسترد المالك ملكه . وقد سبق بيان ذلك عند الكلام في نظرية السبب .
( الأمر الثاني ) أن كل هذه الدعاوى تتصل بعقد قائم ما بين المثري والمفتقر ( negotium contractus ) إذ هي في أصلها مشتقة من دعوى الاسترداد في عقد القرض ( mutuum ) ( [3] ) ، فمن أجل ذلك وجب أن تتصل بعقد . ومن ثم لم يكن هناك سبيل للحائز أن يسترد مصروفاته إذ هو لم يرتبط بعقد مع مالك الأرض .
( الأمر الثالث ) أن الإثراء في هذه الدعاوى يجب أن يكون قد انتقل مباشرة من مال المفتقر إلى مال المثري دون وساطة أجنبي فإذا تحقق الإثراء عن طريق هذه الوساطة ، وأثرى شخص من وراء عقد لم يكن طرفاً فيه ، فإن الإثراء هنا يكون محلاً للطائفة الأخرى من الدعاوى وهي دعاوى الإثراء بلا سبب .
741 – دعاوى الإثراء بلا سبب : وهذه بدأت في دائرة محدودة هي دائرة التعاقد الذي يتم ما بين شخص وآخر ، يكون تحت السلطة الأبوية ولداً أو تحت سلطة السيد عبداً فإذا أثرى الأب أو السيد من وراء هذا التعاقد دون أن يكون هو طرفاً فيه ، جاز الرجوع عليه بقدر ما أثرى في حدود افتقار من تعاقد مع الولد أو العبد .
ثم اتسعت دائرة هذه الدعاوى ، فشملت التعاقد ما بين شخصين لا يخضع أحد منهما لسلطة ما . فإذا أثرى شخص ثالث من وراء هذا التعاقد جاز الرجوع عليه بدعوى الإثراء ، كشريك تعاقد مع الغير فعاد التعاقد بنفع على الشركة . ولكن ظلت الحالات التي تباح فيها هذه الدعاوى هي أيضاً محددة ، ولم توضع قاعدة عامة تشمل جميع حالات الإثراء بلا سبب .
القانون الفرنسي القديم :
742 – دعاوى استرداد ما دفع دون سبب :لم يعترف هذا القانون بقاعدة الإثراء بلا سبب قاعدة عامة شاملة التطبيق ، وقصر المبدأ على حالات معينة انتقلت إليه من القانون الروماني . واظهر هذه التطبيقات هي دعاوى استرداد ما دفع دون حق ( condictiones sine causa ) ( [4] ) وقد وقع تطور هام في شأن هذه الدعاوى منذ ظهرت نظرية السبب في القانون الفرنسي القديم . فقد ترتب على اعتبار السبب ركنا في العقد أن فقدت دعاوى استرداد ما دفع دون حق الشيء الكثير من أهميتها . إذ كانت في القانون الروماني – وعنده العقود شكلية مجردة كما سبق القول – ذريعة لتلاقي النتائج التي تترتب على هذه الشكلية وهذا التجريد ، فكان المتعاقد يسترد بها ما دفعه دون سبب أو لسبب غير مشروع أما بعد أن اعترف القانون الفرنسي القديم بالسبب ركناً في العقد . فقد أصبح العقد الذي لا سبب له أو الذي يكون سببه غير مشروع عقداً باطلاً . فلم تعد هناك حاجة لدعاوى الاسترداد إلا في الحالات القليلة التي ينفذ فيها العقد رغم بطلانه . أو في الحالات التي يفسح فيها العقد بعد تنفيذه .
743 – دعاوى الإثراء بلا سبب : وبقيت دعاوى الإثراء بلا سبب ( actio de in rem verso ) تباح في بعض حالات الإثراء ولكنها ما لبثت أن اختلطت بدعوى الفضالة وعالج بوتييه الأولي باعتبارها فرعاً عن الثانية . فذكر أنه إذا تولي شخص شؤون غيره ، معتقداً أنه يدبر شؤون نفسه . أو فعل ذلك رغم إرادة رب العمل ، اختل ركن من أركان الفضالة ، فلا تطبق أحكامها كاملة . وتطبق أحكام الفضالة ناقصة ( gestion d affaires anormale ) يقتصر فيها الفضولي على استرداد ما أنفق في حدود ما أثرى به رب العمل يوم رفع الدعوى ( [5] ) .
( [1] ) جيرار ( Girard ) موجز القانون الروماني باريس سنة 1924 ص 642 وما بعدها .
( [2] ) يشبهها الأستاذ ريبير ( Ripert ) في كتابه ” القاعدة الأدبية فقرة 133 ” بجدول من الماء يجري تحت الأرض ، فليست من القواعد القانونية المحددة ما يشهد بوجوده ، ولكن الجدول لا يظهر فوق الأرض أبداً .
( [3] ) أنظر سافيني ( Savigny ) في القانون الروماني ( ترجمة جينو 1851 – 1855 ) . ص 513 – ص 617 – قارن جيرار موجز القانون الروماني باريس سنة 1924 ص 625 وما بعدها .
( [4] ) أنظر دوما ( Domat ) ( القوانين المدنية 1 الكتاب الثاني الباب السابع الفصل الأول فقرة ؟؟ ) .
( [5] ) أنظر بوتيه ( Pothie ) في باب الوكالة فقرة 182 وفقرة 189 .