التعسف في استعمال الحق في القانون المدني


التعسف في استعمال الحق

 ( Abus du droit )

552 – مسائل ثلاث : قدمنا أن الخطأ يكون لا في الخروج عن حدود الرخصة فحسب ، ولا في الخروج عن حدود الحق فحسب ، بل أيضاً في التعسف في استعمال الحق . وقلنا إن رجال الفقه في القرن الماضي كانوا لا يرون أن الشخص يجوز عليه الخطأ وهو يستعمل حقه . ولكن نظرية التعسف في استعمال الحق – ولها جذور في أعماق الماضي السحيق – ما لبثت أن استقرت في العصر الحاضر ، وثبت عليها القضاء ، وسلم بها الفقه .

فنحن نتابع هذه النظرية : ( 1 ) في تطورها التاريخي إلى أن نصل بها إلى يومنا هذا لنراها مسجلة في تقنيننا المدني الجديد . ( 2 ) ثم نبحث على أي أساس تقوم النظرية ، وبأي معيار تأخذ . ( 3 ) ثم ننظر في حظها من التطبيق العملي في نواحي النشاط المختلفة .

1 – التطور التاريخي لنظرية التعسف في استعمال الحق :

553 – نظرية التعسف في استعمال الحق نظرية قديمة : ليست نظرية التعسف في استعمال الحق بالنظرية الجديدة أو المبتدعة ، بل هي نظرية قديمة عرفها الرومان ، وانتقلت إلى القانون الفرنسي القديم ، وتشبع يبها الفقه الإسلامي . ولكنها اختفت ردحاً من الزمن بعد أن ظهرت مبادئ الفردية ( individualisme ) وأمعنت الثورة الفرنسية في الأخذ بهذه المبادئ وبقيت مختفية طوال القرن التاسع عشر . لا تكاد تطول برأسها في بعض أحكام القصاء حتى يتنكر لها الفقهاء ، إلى أن قيض الله لها فقيهين من أعلام الفقه الفرنسي هما سالي ( Saleilles ) وجوسران ( josserand ) ، فنفضا عنها التراب ، وأعادا لها الجدة . فما لبثت أن استقرت في الفقه بعد أن ثبت عليها القضاء . ثم أخذت بها التقنينات الحديثة . وأصبحت اليوم نظرية ثابتة مستقرة لا يستطيع أحد أن يفكر تفكيراً جدياً في الانتفاض عليها .

554 – النظرية في القوانين القديمة : قلنا إن القانون الروماني عرف النظرية . يشهد بذلك ما أورده فقهاء هذا القانون من تطبيقات لها مختلفة . من ذلك أن قرر الفقيه إيلبيان ( ulpien ) أن من حفر بئراً في أرضه وتعمق في الحفر حتى قطع العروق النابعة في عين لجاره ، لا يكون مسئولاً عن تعويض هذا الضرر ولكنه يكون مسئولاً إذا كان التعمق في الحفر من شأنه أن يسقط حائط الجار . وقد توسع القانون البريطوري ( droit pretorien ) في تطبيق النظرية ، حتى يتخفف من حدة القانون القديم وصرامته ( [1] ) .

وانتقلت النظرية إلى القانون الفرنسي القديم بعد إحياء دراسات القانون الروماني في العصور الوسطى . وذهب دوما ( Domat ) فيما يبدو إلى أن الشخص يكون متعسفاً في استعمال حقه إذا هو قصد الإضرار بالغير أو لم تكن له مصلحة في استعماله . وكان يرى أن من يباشر إجراءات التقاضى قد يتعسف في مباشرتها فتتحقق مسئوليته ( [2] ) .

ولم يكن الفقه الإسلامي ، وهو الفقه المشبع بروح دينية سامية تنهي عن التعسف وتأمر بالرفق والإحسان ، بأقل توسعاً من القانون الروماني في الأخذ بنظرية التعسف في استعمال الحق ( [3] ) بل إن القانون المدني الجديد قد حرص على أن ينتفع في صياغة النص الذي أورده في هذه النظرية بالقواعد التي استقرت في الفقه الإسلامي ، واستمد من هذا الفقه الضوابط التي اشتملت عليها النص ( [4] ) .

555 – الثورة الفرنسية والتقنين المدني الفرنسي : كان هذا العهد مشبعاً بروح الفردية كما قدمنا ، ينادى بحقوق الإنسان ، ويجعل منها حقوقاً مطلقة مقدسة . فلم تكن هناك حدود جدية تقيد من حرية الإنسان في استعمال حقه ما دام لا يجاوز الحدود المادية لهذا الحق . فانتكصت النظرية في ذلك العهد وفيما تلاه من العهود طوال القرن التاسع عشر . ولم يتحدث عنها أحد من الفقهاء . وساعد على ذلك أن مبدأ تحريم التعسف في استعمال الحق ، إذا كان قد عرف منذ القديم في القانون الروماني وفي القانون الفرنسي القديم ، كان ينقصه أن يصاغ في نظرية فقهية شاملة تجمع شتاته . وهذا ما اضطلع به رجال الفقه في القرن العشرين .

556 – انتعاش النظرية في العصر الحاضر : كان للقضاء ثم للفقه في فرنسا الفضل في إحياء مبدأ تحريم التعسف في استعمال الحق ، فصوغ المبدأ في نظرية عامة شاملة ، ما لبثت أن استقرت وأصبحت من أمهات النظريات القانونية .

بدأ القضاء الفرنسي منذ النصف الأخير من القرن التاسع عشر يقرر المبدأ في كثير من الصراحة والوضوح . فهذه محكمة استئناف كولمار ( Colmar ) تقول في حكمها الصادر في 2 مايو سنة 1855 ( [5] ) ، وقد أدانت مالكاً أقام فوق سطح منزله مدخنة غرضه الوحيد من إقامتها أن يحجب النور عن جاره ، ما يأتي : ” ومن حيث إن المبادئ العامة تقضي بأ ، حق الملكية هو على وجه ما ( en quelque sorte ) حق مطلق يبيح للمالك أن ينتفع بالشيء ، وأن يستعمله وفقاً لهواه ( abuser ) . ولكن استعمال هذا الحق ، كاستعمال أي حق آخر ، يجب أن يكون حده هو استيفاء مصلحة جدية مشروعة ( interet serieux et legitime ) وأن مبادئ الأخلاق والعدالة لتتعارض مع تأييد القضاء لدعوى يكون الباعث عليها رغبة شريرة ( malveillance ) ، وقد رفعت تحت سلطان شهوة خبيثة ( mauvaise passion ) ، دعوى لا يبررها أية منفعة شخصية ( aucune utilite personnelle ) ، وهي تلحق بالغير أذى جسيماً ( grave prejudice ) ” . وفي سنة 1871 قررت محكمة النقض الفرنسية المبدأ الآتي : ” حتى يكون ثمة محل للتعويض يجب أن يكون هناك خطأ . والقانون لا يعتبر الشخص مخطئاً إذا هو عمل ما من حقه أن يعمله ، إلا إذا قصد بالعمل أن يؤذي الغير دون أن تكون له مصلحة في ذلك ( interet pour lui – meme pour nuire a autrui et sans ) ( [6] ) ” .

ولكن الفقه لم يتنبه إلى هذه الطلائع من أحكام القضاء الفرنسي إلا في أواخر القرن التاسع عشر . فكتب بعض الفقهاء في ذلك ( [7] ) . على أن الفقيهين اللذين قادا الفقه في هذا الميدان ، في مستهل القرن العشرين ، هما كما قدمنا سالي وجوسران . واستأثر جوسران بالجولات الأولى والأخيرة ، فوضع منذ سنة 1906 مؤلفاً أسماه ” التعسف في استعمال الحقوق ” ( De l’abus des droits ) جمع فيه أحكام القضاء منسقة ، واستخلص منها أصول نظرية عامة في هذه المسألة ، على غرار نظرية سبقتها في القانون الإداري هي نظرية التعسف في استعمال السلطة ( detournement de pouvoir ) ( [8] ) . ثم كتب في سنة 1927 مؤلفاً آخر أسماه ” في روح الحقوق وفي نسبيتها – النظرية المسماة بنظرية التعسف في استعمال الحق ” ( De l’esprite de droits et de leur relativite – theorie dite de l’abus des droits ) ، كان أشمل المؤلفات في هذه المسألة وأكثرها وضوحاً .

ولم تسلم النظرية من خصوم ، وأظهر من ناصب النظرية العداء هو بلانيول الفقيه الفرنسي المعروف ، وهو يذهب إلى أن التعسف في استعمال الحق إنما هو خروج عن الحق ، ويقول في ذلك : ” ينتهى الحق حيث يبدأ التعسف ، ولا يمكن أن يكون ثمة تعسف في استعمال حق ما ، لسبب غير قابل لأن يدحض ، هو أن العمل الواحد لا يصح أن يكون في وقت معاً متفقاً مع القانون ومخالفاً له ( [9] ) ” . وظاهر أن النقد شكلي . إذ يكفي لرده أن نقول إن هناك نوعين من الخروج عن الحق : خروجاً صريحاً عن حدود الحق ، وخروجاً عن الحق بالتعسف في استعماله . ولا يتعرض بلانيول على امتداد المسئولية إلى هذا النوع الثاني ، وكل ما ينكره هو أن يسمى هذا تعسفاً في استعمال الحق ولا يسمى خروجاً عن الحق ، لأن التعسف في رأيه هو خروج عن حدود الحق . فالفرق إذن في التسمية لا في الحكم أما أن العمل الواحد لا يصح أن يكون في وقت معاً متفقاً مع القانون ومخالفاً له ، فهذا لا شك فيه . ولكن يصح أن يكون العمل الواحد متفقاً مع حدود الحق ، ويكون في الوقت ذاته مخالفاً للقانون ( [10] ) .

ومهما يكن من أمر فإن الفقه ، منذ صاغ نظرية التعسف ونسق ما بين أجزائها ، أنار السبيل للقضاء ، فصار يمشي على هدى ، وكثرت الأحكام والتطبيقات القضائية لهذه النظرية الخطيرة . وهكذا أثر القضاء في الفقه ، ثم تأثر به . وما لبث المشرع الفرنسي أن سار هو أيضاً في هذا السبيل ، فسجل انلظرية في كثير من تشريعاته المتفرقة ( [11] ) .

وقد أخذت النظرية مكاناً محترماً في التقنينات الحديثة ، حتى سما بها القانون المدني السويسري إلى الصدر من نصوصه ، ليجعل منها نظرية عامة تتمشى على جميع نواحي القانون ، ولم يقتصر على جعلها تطبيقاً من تطبيقات المسئولية التقصيرية تذكر في المكان الذي نص فيه على هذه المسئولية ( [12] ) .

وانتقلت النظرية من الفقه والقضاء الفرنسيين إلى الفقه والقضاء المصريين في ظل القانون القديم . أما التشريع المصري فلم يكن يشتمل على نص عام في الموضوع ، وإن كان قد أشتمل على بعض نصوص تطبيقية ( [13] ) .

ولكن القانون المدني الجديد احتفل بالنظرية ، وعنى بها عناية خاصة . فأحلها مكاناً بارزاً بين نصوصه ، وجعلها نظرية عامة مكانها الباب التمهيدي لا المسئولية التقصيرية ( [14] ) .

557 – النصوص القانونية : نصت المادة 4 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :

 ” من استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يكون مسئولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر ( [15] ) ” .

ثم نصت المادة 5 على ما يأتي :

 ” يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الآتية :

 ” ( أ ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير ” .

 ” ( ب ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها ” .

 ” ( ج ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها غير مشروعة ( [16] ) ” .

ويلاحظ بادئ الأمر أن القانون المدني الجديد ، إذا كان قد آثر أن يضع هذه النصوص في الباب التمهيدي لتكون مبدأ من المبادئ الجوهرية التي تسود جميع نواحي القانون ، لم يرد بذلك أن يقيم المبدأ على غير أساسه القانوني . فالتعسف في استعمال الحق ليس إلا صورة من صورتي الخطأ التقصيري على النحو الذي قدمناه ، فيدخل بهذا الاعتبار في نطاق المسئولية التقصيرية ( [17] ) .

558 – الأساس القانوني لنظرية التعسف في استعمال الحق : فالأساس القانوني لنظرية التعسف في استعمال الحق ليس هو إذن إلا المسئولية التقصيرية . إذ التعسف في استعمال الحق خطأ يوجب التعويض . والتعويض هنا ، كالتعويض عن الخطأ في صورته الأخرى وهي صورة الخروج عن حدود الحق أو عن حدود الرخصة ، يجوز أن يكون نقداً كما يجوز أن يكون عيناً . وليس التعويض العيني – كالقضاء بهدم المدخنة التي تحجب النور عن الجار – بمخرجه عن نطاق المسئولية التقصيرية ، فإن التعويض العيني جائز في الصورة الأخرى من الخطأ كما سنرى . ولا نحن في حاجة إلى القول بأساس مستقل للتعسف في استعمال الحق يتميز به عن المسئولية التقصيرية – كما ذهب بعض الفقهاء ( [18] ) إلى ذلك – إذا نحن سلمنا بجواز الحكم بتهديد مالي في شأنه ( [19] ) ، فإن التهديد المالي جائز في الالتزام الناشئ عن المسئولية التقصيرية جوازه في أي التزام آخر ( [20] ) .

ويبقى التعسف داخلاً في نطاق المسئولية التقصيرية حتى لو كان تعسفاً متصلاً بالتعاقد ( [21] ) . فالمؤجر الذي يتمسك بالشرط المانع من الإيجار من الباطن تعسفاً منه تتحقق مسئوليته التقصيرية .ويكون مسئولاً مسئولية تقصيرية كذلك من تعسف في إنهاء عقد جعل له الحق في إنهائه ، كعقد العمل أو عقد الشركة إذا لم تحدد المدة فيهما وكعقد الوكالة .

559 – معيار نظرية التعسف في استعمال الحق : فما هو إذن المعيار الذي يصلح اتخاذه لنظرية التعسف في استعمال الحق؟ هو دون شك المعيار عينه الذي وضع للخطأ التقصيري ، إذ التعسف ليس إلا إحدى صورتيه كما قدمنا . ففي استعمال الحقوق كما في إتيان الرخص يجب ألا ينحرف صاحب الحق عن السلوك المألوف للشخص العادي . فإذا هو انحرف – حتى لو لم يخرج عن حدود الحق – عد انحرافه خطأ يحقق مسئوليته .

غير أن الانحراف هنا لا يعتد به إلا إذا اتخذ صورة من الصور التي عددها نص القانون الجديد : 1 ) قصد الإضرار بالغير . 2 ) رجحان الضرر على المصلحة رجحاناً كبيراً . 3 ) تحقيق مصلحة غير مشروعة . ونبحث الآن هذه الصور واحدة بعد الأخرى .

560 – قصد الإضرار بالغير : المعيار هنا ، على الرغم من ذاتيته ، يمكن أن يندرج في المعيار الموضوعي العام للخطأ . فإنه لا يكفي أن يقصد صاحب الحق الإضرار بالغير ، بل يجب فوق ذلك أن يكون استعماله لحقه على هذا النحو مما يعتبر انحرافاً عن السلوك المألوف للشخص العادي . فقد يقصد شخص وهو يستعمل حقه أن يضر بغيره ، ولكن لتحقيق مصلحة مشروعة لنفسه ترجح رجحاناً كبيراً على الضرر الذي يلحقه بالغير . فقصد الإضرار بالغير في هذه الحالة لا يعتبر تعسفاً ، إذ أن صاحب الحق بهذا التصرف م ينحرف عن السلوك المألوف للشخص العادي . أما إذا كان قصد إحداث الضرر هو العامل الأصلي الذي غلب عند صاحب الحق وهو يستعمل حقه للإضرار بالغير ، اعتبر هذا تعسفاً ، ولو كان هذا القصد مصحوباً بنية جلب المنفعة كعامل ثانوي ، سواء تحققت هذه المنفعة أو لم تتحقق ويكون تعسفاً ، من باب أولى ، قصد إحداث الضرر غير المقترن بنية جلب المنفعة حتى لو تحققت هذه المنفعة عن طريق عرضي ، فلو أن شخصاً غرس أشجاراً في أرضه بقصد حجب النور عن جاره ، كان متعسفاً في استعمال حق الملكية حتى لو تبين فيما بعد أن هذه الأشجار قد عادت على الأرض بالنفع .

ويجب أن يثبت المضرور أن صاحب الحق وهو يستعمل حقه قصد إلى إلحاق الضرر به . ويثبت هذا القصد بجميع طرق الإثبات ، ومنها القرائن المادية . ولا يكفي إثبات أن صاحب الحق تصور احتمال وقوع الضرر من جراء استعماله لحقه على الوجه الذي اختاره ، فإن تصور احتمال وقوع الضرر لا يفيد ضرورة القصد في إحداثه ( [22] ) .

بقى أن نعالج فرضاً كثير الوقوع في العمل ، هو ألا يقوم دليل قاطع على وجود القصد في إحداث الضرر ، ولكن الضرر مع ذلك . ويتبين أن صاحب الحق لم تكن له أية مصلحة في استعمال حقه على الوجه الذي أضر فيه بالغير . ونرى أن انعدام المصلحة هنا انعداماً تاماً قرينة على قصد إحداث الضرر ، كما يدل الخطأ الجسيم على سوء النية . ولكن هذه القرينة قابلة لإثبات العكس ( [23] ) .

561 – رجحان الضرر على المصلحة رجحاناً كبيراً : المعيار هنا موضوعي . وهو محض تطبيق للمعيار الرئيسي في الخطأ ، معيار السلوك المألوف للرجل العادي . فليس من المألوف أن الرجل العادي يستعمل حقاً على وجه يضر بالغير ضرراً بليغاً ولا يكون له في ذلك إلا مصلحة قليلة الأهمية لا تتناسب البتة مع هذا الضرر . ويكون استعمال الشخص لحقه تعسفاً ، على حد ما جاء في النص ، ” إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها ” . نقول ليس من السلوك المألوف للشخص العادي أن يفعل ذلك . ومن يفعل ، فهو إما عابث مستهتر لا يبالي بما يصيب الناس من ضرر بليغ لقاء منفعة ضئيلة يصيبها لنفسه ، وإما منطو على نية خفية يضمر الإضرار بالغير تحت ستار من مصلحة غير جدية أو مصلحة محدودة الأهمية يتظاهر أنه يسعى لها . وفي الحالين قد انحرف عن السلوك المألوف للشخص العادي ، وارتكب خطأ يوجب مسئوليته . . وقد طبق المشرع هذا المعيار ، إذ جاء في الفقرة الثانية من المادة 818 من القانون المدني الجديد ما يأتي : ” ومع ذلك فليس لمالك الحائط أن يهدمه مختاراً دون عذر قوي إن كان هذا يضر الجار الذي يستتر ملكه بالحائط ( [24] ) ” .

562 – عدم مشروعية المصالح التي يرمي صاحب الحق إلى تحقيقها : والمعيار هنا هو أيضاً موضوعي ، وإن كان طريق الوصول إليه عاملاً ذاتياً هو نية صاحب الحق . وهو على كل حال تطبيق سليم لمعيار الخطأ . فليس من السلوك المألوف للشخص العادي أن يسعى تحت ستار أنه يستعمل حقاً له إلى تحقيق مصالح غير مشروعة . فرب العمل الذي يستعمل حقه في فصل عامل لأن التحق بنقابة من نقابات العمال ، والإدارة التي تفصل موظفاً إرضاء لغرض شخصي أو لشهوة حزبية ، والمالك الذي يضع أسلاكاً شائكة في حدود ملكه حتى يفرض على شركة طيران تهبط طائراتها في أرض مجاورة أن تشتري منه أرضه بثمن مرتفع ، ومؤجر العقار الذي يمتنع من الترخيص في الإيجار من الباطن لمشتري المصنع الذي أقيام على العقار بعد أن اقتضت الضرورة أن يبيع المستأجر هذا المصنع وذلك لا توقياً لضرر بل سعياً وراء كسب غير مشروع يجنيه من المشتري ( أنظر م 594 فقرة ثانية من القانون المدني الجديد ) – كل هؤلاء يتعسفون في استعمال حقوقهم ، لأنهم يرمون من وراء استعمالها إلى تحقيق مصالح غير مشروعة ( [25] ) .

وقد آثر القانون الجديد هذا المعيار على معيارين آخرين شائعين في الفقه ، أحدهما معيار الغرض غير المشروع ( motif illegitime ) ، والثاني معيار الهدف الاجتماعي ( but social ) .

أما معيار الغرض غير المشروع فيتلخص في أن صاحب الحق يكون متعسفاً في استعمال حقه إذا كان الغرض الذي يرمي إليه غرضاً غير مشروع ( [26] ) . وظاهر أن معيار ” المصلحة غير المشروعة ” خير من معيار ” الغرض غير المشروع ” . وإذا كان كلاهما يؤدي إلى نتيجة واحدة ، فإن معيار ” المصلحة غير المشروعة ” هو تعبير موضوعي عن المعنى الذاتي الذي ينطوي عليه معيار ” الغرض غير المشروع ” . فهو إذن أدق من ناحية الانضباط وأسهل من ناحية التطبيق ( [27] ) .

ومعيار الهدف الاجتماعي يتلخص في أن الحقوق أعطاها القانون لأصحابها لتحقيق أهداف اجتماعية . فكل حق له هدف اجتماعي معين . فإذا انحرف صاحب الحق في استعمال حقه عن هذا الهدف ، كان متعسفاً وحقت مسئوليته وعيب هذا المعيار ، بالرغم من كونه موضوعياً ، هو صعوبة تحديد الهدف الاجتماعي لكل حق من الحقوق ، ثم خطر هذا التحديد . أما صعوبة التحديد فلأنه ليس من اليسير أن يرسم لكل حق هدف اجتماعي أو اقتصادي يكون منضبطاً إلى الحد الذي يؤمن معه التحكم ويتقي به تشعب الآراء . وأما خطر التحديد فلأن الهدف الاجتماعي هو الباب الذي ينفتح على مصراعيه لتدخل منه الاعتبارات السياسية والنزعات الاجتماعية والمذاهب المختلفة ، مما يجعل استعمال الحقوق خاضعاً لوجهات من النظر متشعبة متباينة ، وفي هذا من الخطر ما فيه . أما معيار ” المصلحة غير المشروعة ” فهو أبعد عن التحكم ، وأدنى إلى الاعتبارات القانونية المألوفة ( [28] ) .

563 – معياران في المشروع التمهيدي حذفا في المشروع النهائي : وقد كان المشروع التمهيدي يضيف إلى المعايير الثلاثة المتقدمة معيارين آخرين :

 ( 1 ) التعارض مع مصلحة عامة جوهرية . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” والمعيار الثاني قوامه تعارض استعمال الحق مع مصلحة عامة جوهرية . وهذا معيار مادي استقاه المشروع من الفقه الإسلامي . وقننته المجلة من قبل إذ نصت في المادة 26 على أن الضرر الخاص يتحمل لدفع ضرر عام ( أنظر أيضاً المواد 27 و 28 و29 من المجلة ) . وأكثر ما يساق من التطبيقات في هذا الصدد عند فقهاء المسلمين يتعلق بولاية الدولة في تقييد حقوق الأفراد صيانة للمصلحة العامة . كمنع اختزان السلع تجنباً لاستغلال حاجة الأفراد إليها خلال الحروب والجوائح . على أن الفكرة في خصبها لا تقف عند حدود هذه التطبيقات . فهي مجرد أمثلة تحتمل التوسع والقياس ( [29] ) ” . ويتبين من ذلك أن المعيار هنا أقرب إلى أن يكون خطة تشريعية ينهج المشرع على مقتضاها في وضع تشريعات استثنائية تقتضيها ظروف خاصة . من أن يكون معياراً يتخذه القاضي للتطبيق العملي في الأقضية اليومية . وقد حذف في المشروع النهائي كما قدمنا .

 ( 2 ) التعارض مع حقوق أخرى يتعطل استعمالها على الوجه المألوف . فقد كان نص المشروع التمهيدي يجعل استعمال الحق غير مشروع إذا كان هذا الاستعمال ” من شأنه أن يعطل استعمال حقوق تتعارض معه تعطيلاً يحول دون استعمالها على الوجه المألوف ” . وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي :

 ” والثالثة حالة استعمال الحق استعمالاً من شأنه أن يعطل استعمال حقوق تتعارض معه تعطيلاً يحول دون استعمالها على الوجه المألوف . والمعيار في هذه الحالة مادي وإذا كان الفقه الغربي لا يؤكد استقلالها هذا المعيار ، إذ يلحقه بمعيار انتفاء صفة المشروعية عن المصلحة ، أو ي جعل منه صورة لمجاوزة حدود الحق يطلق عليها اسم الإفراط ، إلا أن الفقه الإسلامي يخصه بكيان مستقل . والقضاء في مصر أميل إلى الأخذ بمذهب الفقه الإسلامي ( العطارين الجزئية في 21 أكتوبر سنة 1929 المحاماة 10 ص 783 – استئناف مختلط في 11 ديسمبر سنة 1930 م 43 ص 78 ) . وكانت المجلة قد قننت هذا الفقه فقضت في المادة 1198 بأن ” كل أحد له التعلي على حائط الملك وبناء ما يريد ، وليس لجاره منعه ما لم يكن ضرره فاحشاً ” ، وعرفت الضرر الفاحش في المادة 1199 بأنه : كل ما يمنع الحوائج الأصلية يعني المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى أو ما يضر بالبناء أي يجلب له وهنا ويكون سبب انهدامه ” . وعقبت على ذلك بتطبيقات مختلفة في المواد من 1200 إلى 1212 . وقد جرى القضاء المصري منذ عهد بعيد على الأخذ بهذه المبادئ ، ولا سيما فيما يتعلق بصلات الجوار . فقضت محكمة الاستئناف المختلطة في 30 أبريل سنة 1903 بأن ” الملكية الفردية أياً كانت سعة نطاقها تتقيد بواجب الامتناع عن إلحاق أي ضرر جسيم بالجار . . . ويدخل في ذلك كل فعل يمنع الجار من تحصيل المنافع الرئيسية من ملكه . وتواترت الأحكام بعد ذلك على تقرير المبادئ ذاتها ( [30] ) ” . ويتبين من ذلك أن هذا المعيار الثاني ليس إلا المعيار الذي يطبق في حقوق الجوار ، وهو معيار ” الضرر الفاحش ” . وقد حذف في المشروع النهائي لأن مضار الجوار في القانون المدني الجديد تخرج عن نطاق نظرية التعسف في استعمال الحق فالضرر الفاحش فيما بين الجيران ليس تعسفاً في استعمال الحق . بل هو خروج عن حدود الحق ، وقد رأينا ذلك فيما تقدم ( [31] ) .

564 – معايير التعسف ومعايير الخطأ : ويتبين مما تقدم أن للتعسف في استعمال الحق على الوضع الذي جاء به القانون المدني الجديد معايير ثلاثة : نية الإضرار ، ورجحان الضرر ، والمصلحة غير المشروعة .

ونية الإضرار هي المقابلة للخطأ العمدي . ورجحان الضرر هو المقابل للخطأ الجسيم والمصلحة غير المروعة هي المقابلة للخطأ غير الجسيم .

فالعمد والخطأ الجسيم متطابقان في صورتي الخطأ : صورة التعسف في استعمال الحق وصورة الخروج عن حدود الحق أو الرخصة . أما الخطأ غير الجسيم ، ففي الخروج عن حدود الحق أو الرخصة رأيناه أي انحراف عن السلوك المألوف للرجل العادي ، وفي التعسف في استعمال الحق لا يكون الانحراف إلا في حالة واحدة هي أن يرمي صاحب الحق في استعماله لحقه إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة . ومن ثم يكون الخطأ غير الجسيم في التعسف أضيق منه في الخروج عن الحق أو الرخصة . ويرجع السبب في ذلك إلى نصوص القانون التي ضيقت من حدود التعسف ( [32] ) . وقد يبرر ذلك أن صورة الخطأ في التعسف هي صورة مستحدثة ، فيحس عدم التوسع فيها .

ج – تطبيقات مختلفة لنظرية التعسف في استعمال الحق

565 – تطبيقات تشريعية وتطبيقات قضائية : تنتشر تطبيقات التعسف في استعمال الحق في جميع نواحي القانون . وبعض هذه التطبيقات وردت فيها نصوص تشريعية خاصة في القانون المدني الجديد ، فتسري عليها هذه النصوص بالذات . وبعضها كان ثمرة اجتهاد القضاء المصري في عهد القانون المدني القديم ، ولم يخرج القضاء في تطيقه لنظرية التعسف عن المبادئ التي قدمناها . فنورد بعضاً من التطبيقات التشريعية وبعضاً من التطبيقات القضائية ( [33] ) .

566 – تطبيقات تشريعية من نصوص القانون المدني الجديد :

نصت الفقرة الأولى من المادة 11 على ما يأتي : ” الحالة المدنية للأشخاص وأهليتهم يسري عليها قانون الدولة التي ينتمون إليها بجنسيتهم . ومع ذلك ففي التصرفات المالية التي تعقد في مصر ، وتترتب آثارها فيها ، إذا كان أحد الطرفين أجنبياً ناقص الأهلية وكان نقص الأهلية يرجع إلى سبب فيه خفاء لا يسهل على الطرف الآخر تبينه ، فإن هذا السبب لا يؤثر في أهليته ” فناقص الأهلية هنا إذا طلب إبطال العقد يكون متعسفاً ، فيرد عليه قصده ، ويحرم من الحق في إبطال العقد ، ولا يؤثر هذا السبب الخفي في أهليته . وجزاء التعسف هنا هو منع الضرر من أن يقع .

ونصت الفقرة الأولى من المادة 410 على ما يأتي : ” يجوز لكل من الخصين أن يوجه اليمين الحاسمة إلى الخصم الآخر . على أنه يجوز للقاضي أن يمنع توجيه اليمين إذا كان الخصم متعسفاً في توجيهها ” . وهنا أيضاً جزاء التعسف هو منع الضرر من أن يقع .

ونصت الفقرة الثانية من المادة 695 في عقد العمل على ما يأتي : ” وإذا فسخ العقد بتعسف من أحد المتعاقدين ، كان للمتعاقد الآخر ، إلى جانب التعويض الذي يكون مستحقاً له بسبب عدم مراعاة ميعاد الإخطار ، الحق في تعويض ما أصابه من ضرر بسبب فسخ العقد فسخاً تعسفياً ” . وجزاء التعسف هنا تعويض نقدي .

ونصت المادة 696 6في عقد العمل على ما يأتي : ” 1 – ويجوز الحكم بالتعويض عن الفصل ولو لم يصدر هذا الفصل من رب العمل ، إذا كان هذا الأخير قد دفع العامل بتصرفاته ، وعلى الأخص بمعاملته الجائرة أو مخالفته شروط العقد ، إلى أن يكون هو في الظاهر الذي أنهى العقد . 2 – ونقل العامل إلى مركز أقل ميزة أو ملاءمة من المركز الذي كان يشغله لغير ما ذنب جناه ، لا يعد عملاً تعسفياً بطريق غير مباشر إذا ما اقتضته مصلحة العمل ، ولكنه يعد كذلك إذا كان الغرض منه إساءة العامل ” . وجزاء التعسف هنا أيضاً تعويض نقدي .

ونصت الفقرة الثانية من المادة 818 على ما يأتي : ” ومع ذلك فليس لمالك الحائط أن يهدمه مختاراً دون عذر قوي إن كان هذا يصر الجار الذي يستتر ملكه بالحائط ” . ويجوز أن يكون جزاء التعسف هنا هو إزالة الضرر بعد أن وقع ، فيقام الحائط الذي هدمه مالكه تعسفاً من جديد .

ونصت المادة 1029 على ما يأتي : ” لمالك العقار المرتفق به أن يتحرر من الارتفاق كله أو بعضه إذا فقد الارتفاق كل منفعة للعقار المرتفق ، أو لم تبقى له غير فائدة محدودة لا تتناسب البتة مع الأعباء الواقعة على العقار المرتفق به ” . والتعسف هنا في أن يطالب مالك العقار المرتفق بقاء حتى الارتفاق بعد أن زالت منفعه . والجزاء هو إزالة الضرر عيناً بإنهاء حق الارتفاق ( [34] ) .

567 – تطبيقات قضائية : والقضاء المصري في عهد القانون المدني القديم عني بالأحكام التي تطبق نظرية التعسف في استعمال الحق في نواح مختلفة . ونجتزئ هنا بالإشارة إلى بعض منها .

من ذلك التعسف في استعمال حق الملكية ، إذا استعمل المالك حقه بنية الإضرار بالغير . ويؤخذ قرينة على نية الإضرار ألا يكون للمالك نفع ظاهر من استعمال حقه على النحو الذي اختاره مع علمه بالضرر الذي يلحق الغير . فيعتبر متعسفاً المالك الذي يقيم حائطاً في حدود ملكه يستر النور ويمنع الهواء عن جاره دون نفع ظاهر له ( [35] ) . أما إذا أقام الحائط ليستتر من أن يطل الجار على داره أو على حديقته ، فلا تعسف ولا تعويض ( [36] ) . وإذا استعمل المالك حقه دون حيطة ، فانحرف بذلك عن السلوك المألوف للشخص العادي وأضر بالجار ضرراً بليغاً ، كان مسئولاً مثل ذلك من يبني في أرضه فيخالف قواعد فن البناء تقصيراً أو إهمالاً فيضر بجاره ( [37] ) . ومثل ذلك أيضاً من يقيم في ملكه مدخنة تؤذي الجار وكان يمكنه تجنب هذا الأذى لو أقام المدخنة في مكان آخر ( [38] ) .

ومن ذلك أيضاً التعسف في استعمال الحق في إنهاء العقد . فرب العمل الذي يفصل عاملاً مدفوعاً في ذلك بعامل الانتقام يكون متعسفاً وتتحقق مسئوليته التقصيرية ( [39] ) .

ومن ذلك أخيراً التعسف في استعمال السلطة الوظيفة ، وهو ما يعرف في القانون الإداري بالتعسف في استعمال السلطة ( detournement du pouvoir ) . فإذا انحرف الموظف في أعمال وظيفته عن مقتضى الواجب المفروض عليه ، وصدر تصرفه بقصد الإضرار لأغراض نقابية عن المصلحة العامة . كان متعسفاً في استعمال السلطة وتحققت مسئوليته ( [40] ) .


 ( [1] ) أبلتون في المجلة الدولية للتعليم سنة 1924 ص 151 ب .

 ( [2] ) منقول عن مازو 1 فقرة 556 .

 ( [3] ) أنظر في هذا الموضوع رسالة المرحوم الأستاذ أحمد فتحي في نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي – الدكتور السعيد مصطفى السعيد بك في مدى استعمال حقوق الزوجية .

 ( [4] ) أنظر المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي للقانون المدني الجديد 1 الباب التمهيدي ص 31 – ص 35 .

 ( [5] ) دبللوز 185 – 2 – 9 .

 ( [6] ) أنظر مازو 1 فقرة 577 – تعليق فرون ( ferron ) فى سيريه 1905 – 2 – 19 .

 ( [7] ) سنكتلت ( sainetelette ) في كتابه المسئولية والضمان ( Responsabilite et garantie ) – سوزيه ( Sauzet ) في المجلة الانتقادية للتشريع والقضاء سنة 1883 ص 616 وما بعدها .

 ( [8] ) وقد كان القانون الإداري طليعة للقانون المدني في نظريات ثلاث من النظريات الرئيسية : نظرية التعسف في استعمال الحق ونظرية الحوادث الطارئة ونظرية تحمل التبعة .

 ( [9] ) وهذا أصل ما كتبه بلانيول : Le droite cesse ou l’abus commence, e il ne peut y avoir usage abusive d’un droite quelconque, pour la raison irrefatable qu’un scul et meme acte ne peut pas etre tout a la conforme au droite et contraire au droit, ( planiol II no . 841 )

 ( [10] ) الموجز في النظرية العامة للالتزامات للمؤلف فقرة 324 – وجاء في هذه الفقرة أيضاً ما يأتي : ” أما الذين ينكرون على النظرية أن من معاييرها تلمس الدافع الذي حدا بالشخص على استعمال حقه على النحو الذي اختاره ، وأن الدافع شيء نفسي يتعذر الغوص عليه في أعماق الضمير ، فينبغي أن يتنبهوا إلى أن هذا النقد لا ينصب على هذه النظرية وحدها ، بل هو يتناول كل معيار شخصي في القانون . والمعايير الشخصية كثيرة . وفي كل وقت يطلب من القاضي أن يطبقها على الأقضية التي تعرض له ، فيبحث عن حسن النية وسوء النية ، وعن الغلط الدافع للتعاقد ، وعن السبب الدافع كركن من أركان الالتزام ، وعن الغش والتواطؤ في الدعوى البوليصية ، وما إلى ذلك ” .

 ( [11] ) أنظر في هذه التشريعات المختلفة مازو 1 فقرة 558 .

 ( [12] ) وهذا ما جاء في المادة الثانية من القانون المدني السويسري : ” يجب على كل شخص أن يستعمل حقوقه وأن يقوم بتنفيذ التزاماته طبقاً للقواعد التي يرسمها حسن النية . أما التعسف الظاهر ( abus manifeste ) في استعمال الحق فلا يقره القانون ” . ونصت المادة 226 من القانون الألماني على أنه ” لا يجوز استعمال حق لمجرد الإضرار بالغير ” ونصت الفقرة الثانية من المشروع الفرنسي الإيطالي ما يأتي : ” يلتزم أيضاً بالتعويض كل من أوقع ضرراً بالغير ، بأن جاوز في استعماله لحقه الحدود التي يقيمها حسن النية أو الغرض الذي من أجله أعطى هذا الحق ” .

 أنظر أيضاً المادة 135 من قانون الالتزامات البولوني والفقرة الثانية من المادة 1295 من القانون النمساوي والمادة الأولى من القانون السوفييتي .

 ( [13] ) مثل ذلك : م 38 / 59 – 60 مدني قد : ” ليس للجار أن يجبر جاره على إقامة حائط أو نحوه على حدود ملكه ولا على أن يعطيه جزءاً من حائطه أو من الأرض التي عليها الحائط المذكور ، ومع ذلك ليس لمالك الحائط أن يهدمه لمجرد إرادته إن كان ذلكيترتب عليه حصول ضرر للجار المستتر ملكه بحائطه ما لم يكن هدمه بناء على باعث قوي ” . – م 115 / 120 من قانون المرافعات القديم : ” يجوز للمحكمة في جميع الدعاوى أن تحكم بتعويضات في مقابلة المصاريف الناشئة عن دعوى أو مرافعة كان القصد منها مكيدة الخصم ” .

 ( [14] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في يهذا الصدد ما يأتي : ” بيد أن المشروع أحل النص الخاص بتقرير نظرية التعسف في استعمال الحق مكاناً بارزاً بين النصوص التمهيدية لأن لهذه النظرية من معنى العموم ما يجعلها تنبسط على جميع نواحي القانون دون أن تكون مجرد تطبيق لفكرة العمل غير المشروع . وإذا كان القضاء قد رأى أن يستند في تطبيقها إلى قواعد المسئولية التقصيرية بسبب قصور النصوص ، فهو لم يقصر هذا التطبيق على ناحية معينة من نواحي القانون المدني ، وإنما بسطه على هذه النواحي جميعاً ، بل وعلى نواحي القانون قاطبة ، فهو يجزم بأن النظرية تنطبق على روابط الأحوال الشخصية كما تنطبق على الروابط المالية ، وأنها ستري في شأن الحقوق العينية سريانها في شأن الحقوق الشخصية ، وأنها لا تقف عند حدود القانون الخاص بل تجاوزه إلى القانون العام . ولذلك آثر المشروع أن يضع هذه النظرية وضعاً عاماً ، محتذياً مثال أحدث التقنينات وأرقاها ( أنظر المادة 2 من التقنين المدني السويسري والمادة الأولى من التقنين المدني السوفييتي ) . وقد ساعد على اختيار هذا المسلك إقرار الشريعة الإسلامية لنظرية التعسف في استعمال الحق بوصفها نظرية عامة وعناية الفقه الإسلامي بصياغتها صياغة تضارع إن لم تقف في دقتها وإحكامها أحدث ما أسفرت عنه مذاهب المحدثين من فقهاء الغرب . وإزاء ذلك حرص المشروع على أن ينتفع في صياغة النص بالقواعد التي استقرت في الفقه الإسلامي ، وهي قواعد صدر عنها التشريع المصري في التطبيقين اللذين تقدمت الإشارة إليهما ( المواد 38 / 59 – 60 مدني و 115 / 120 مرافعات ) واستلهمها القضاء في كثير من أحكامه ( استئناف مختلط في 6 أبريل سنة 1906 م 18 ص 189 – وفي 3 مايو سنة 1906 م 18 ص 235 ) . ولهذا لم ير المشروع أن ينسج على منوال التقنين السويسري في النص على أن كل شخص يجب عليه أن يباشر حقوقه ويبقى التزاماته وفقاً لما يقتضي حسن النية أن يختار الصيغة التي آثرها المشرع السوفييتي إذ قضى في المادة الأولى من التقنين المدني بأن القانون يتكفل بحماية الحقوق المدنية إلا أن تستعمل على وجه يخالف الغرض الاقتصادي أو الاجتماعي من وجودها . وأعرض أيضاً عن الصيغة التي اختارها التقنين اللبناني ( م 124 ) وهي لا تعدو أن تكون مزاجاً من نصوص التقنين السويسري والتقنين السوفييتي . والواقع أن المشرع تحامى اصطلاح ” التعسف ” لسعته وإبهامه وجانب أيضاً كل تلك الصيغ العامة بسبب غموضها وخلوها من الدقة ، واستمد من الفقه الإسلامي بوجه خاص الضوابط الثلاثة التي اشتمل عليها النص . ومن المحقق أن تفصيل الضوابط على هذا النحو يهيئ للقاضى عناصر نافعة للاسترشاد ، ولا سيما أنها جميعاً وليدة تطبيقات عملية انتهى إليها القضاء المصري عن طريق الاجتهاد . . . . وعلى هذا النحو وضع المشروع دستوراً لمباشرة الحقوق ألف فيه بين ما استقر من المبادئ في الشريعة الإسلامية وبين ما انتهى إليه الفقه الحديث في نظرية التعسف في استعمال الحق ولكن دون أن يتقيد كل التقيد بمذاهب هذا الفقه . وبذلك أتيح له أن يمكن للنزعة الأخلاقية والنزعات الاجتماعية الحديثة وأن يصل بين نصوصه وبين الفقه الإسلامي في أرقى نواحيه وأحفلها بعناصر المرونة والحياة ” . ( المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 31 – ص 32 و ص 35 ) .

 ( [15] ) تاريخ النص : لم يكن للمادة 4 مقابل في المشروع التمهيدي . وقد اقترح في لجنة المراجعة وضع النص الآتي : ” من استعمل حقه استعمالاً جائزاً لا يكون مسئولاً عما ينشأ عن ذلك من ضرر ” ، ليقرر المبدأ العام الذي يمهد للنص التالي الخاص بالتعسف في استعمال الحق ، فأقرت اللجنة النص وأصبح رقمه المادة 4 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب عليه ، ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ بعد استبدال كلمة ” مشروعاً ” بكلمة ” جائزاً ” وبقى رقم النص المادة 4 . ووافق عليه مجلس الشيوخ كما أقرته لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 199 – ص 200 ) .

 ( [16] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 6 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” يصبح استعمال الحق غير جائز في الأحوال الآتية : ( 1 ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير ( ب ) إذا كان متعارضاَ مع مصلحة عامة جوهرية ( ج ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها غير مشروعة ، أو كانت هذه المصالح قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها ، أو كان استعمال الحق من شأنه أن يعطل استعمال حقوق تتعارض معه تعطيلاً يحول دون استعمالها على الوجه المألوف ” . وفي لجنة المراجعة عدلت المادة على الوجه الآتي : ” يكون استعمال الحق غير جائز في الأحوال الآتية : ( 1 ) إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير ( ب ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها ( ج ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها غير مشروعة ” . ووافق مجلس النواب على المادة تحت رقم 5 . ووافقت عليها لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ بعد استبدال كلمة ” مشروع ” بكلمة ” جائز ” ، وبقى رقمها 5 . ووافق عليها مجلس الشيوخ كما أقرتها لجنته . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 200 – ص 211 ) .

 ( [17] ) وقد ناقشت لجنة مراد سيد أحمد باشا طويلاً المكان الذي يوضع فيه النص الخاص بالتعسف في استعمال الحق . فقال أحد الأعضاء إن نظرية إساءة استعمال الحق إن هي إلا توسع في فكرة العمل غير المشروع ، ولهذا السبب يكون مكانها المنطقي في باب الالتزامات بين تلك التي تنشأ عن العمل غير المشروع ، وهذا هو ما أخذت به أحدث التشريعات كالمشروع الفرنسي الإيطالي والقانون البولوني والقانون اللبناني . فقيل رداً على ذلك إن نطاق تطبيق مبدأ استعمال الحق ليس مقصوراً عن الحقوق الناشئة عن التزامات ، بل يمتد إلى كل قانون سواء في ذلك القانون المدني أو القانون التجاري أو قانون المرافعات أو القانون العام . فإذا كان هناك نص ينبغي بطبيعته أن يدرج بين النصوص التمهيدية فهو ذلك الخاص بإساءة استعمال الحق وقد أورد التقنين السويسري نصاً بهذا المعنى في الباب التمهيدي ( م 2 ) . أما التقنين الألماني فقد أفرد لهذا الموضوع نصاً تحت عنوان ” في استعمال الحقوق ” ( م 266 ) . وإذا كانت بعض التقنينات الحديثة قد أوردت هذا النص في باب الالتزامات فما ذلك إلا اضطراراً ، حيث إن هذه التقنينات إنما جاءت خاصة بالالتزامات . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 202 – 204 في الهامش ) .

 ( [18] ) أنظر بنكلز ملحق بودري 3 فقرة 236 – سافاتييه في تعليق له في داللوز 1938 – 1 – 73 .

 ( [19] ) وذلك كالحكم على من أقام حائطاً في ملكه ليحجب النور عن جاره بمبلغ من المال يدفعه عن كل يوم يتأخر فيه عن إزالة هذا الحائط .

 ( [20] ) ماز 1 فقرة 564 هامش رقم 2 .

 ( [21] ) وقد قضت محكمة النقض بأن نظرية إساءة استعمال الحق مردها إلى قواعد المسئولية في القانون المدني ، لا إلى قواعد العدل والإنصاف المشار إليهما في المادة 29 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية ( القديمة ) . فإذا كان الحكم قد أسس قضاءه على تلك النظرية ، فإنه يكون قد أعمل القانون المدني في الدعوى لا قواعد العدل والإنصاف ( وكان وجه الطعن هو أن الحكم خالف المادة 29 من اللائحة إذ أخذ بنظرية إساءة استعمال الحق على الرغم من صراحة نص العقد في حين أنه لا مجال للاجتهاد والاستناد إلى قواعد العدل متى كان النص صريحاً ) نقض مدني في 28 نوفمبر سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 144 ص 259 ) .

 ( [22] ) فلو أن شخصاً يملك أرضاً للصيد ، وصاد فيها ، فأصاب شخصاً آخر دون أن يتعمد ذلك ، فإنه لا يكون لديه قصد الإضرار بالغير حتى لو ثبت أنه تصور احتمال وقوع هذه الإصابة ، ولا يعد هذا التصرف تعسفاً ، لا باعتبار أنه ينطوي على قصد الإضرار بالغير ، ولا بأي اعتبار آخر ، إذ هو لا يدخل تحت حالة من الحالات الثلاث التي يتحقق فيها التعسف في استعمال الحق .

 ( [23] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” وأول هذه المعايير هو معيار استعمال الحق دون أن يقصد من ذلك سوى الإضرار بالغير . وهذا معيار ذاتي استقر الفقه الإسلامي والفقه الغربي والقضاء على الأخذ به . وقد أفرد له التقنين الألماني المادة 226 وهي في طليعة النصوص التشريعية التي دعمت أسس نظرية التعسف في استعمال الحق . والجوهري في هذا الشأن هو توافر نية الإضرار ، ولو أفضى استعمال الحق إلى تحصيل منفعة لصاحبه . ويراعى أن القضاء جرى على استخلاص هذه النية من انتفاء كل مصلحة من استعمال الحق استعمالاً يلحق الضرر بالغير متى كان صاحب الحق على بينة من ذلك . وقد جرى القضاء أيضاً على تطبيق الحكم نفسه في حالة تفاهة المصلحة التي تعود على صاحب الحق في هذه الحالة ” ( المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 32 – ص 33 ) .

 ( [24] ) أنظر أيضاً المادتين 826 و 1029 من القانون المدني الجديد . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” والثانية حالة استعمال الحق ابتغاء تحقيق مصلحة قليلة الأهمية لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها . والمعيار في هذه الحالة مادي . ولكنه كثيراً ما يتخذ قرينة على توافر نية الإضرار بالغير . ويساير الفقه الإسلامي في أخذه بهذا المعيار اتجاه الفقه والقضاء في مصر وفي الدول الغربية على حد سواء ” . ( المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 34 ) .

 ( [25] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” الأولى حالة استعمال الحق استعمالاً يرمي إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة . وتعبير المشروع في هذا المقام خير من نص بعض التقنينات على صرف الحق عن الوجهة التي شرع من أجلها . ولا تكون المصلحة غير مشروعة إذا كان تحقيقها يخالف حكماً من أحكام القانون فحسب ، وغنما يتصل بها هذا الوصف أيضاً إذا كان تحقيقها يتعارض مع النظام العام أو الآداب . وغذا كان المعيار في هذه الحالة مادياً في ظاهره ، إلا أن النية كثيراً ما تكون الغلة الأساسية لنفي صفة المشروعية عن المصلحة . وأبرز تطبيقات هذا المعيار يعرض بمناسبة إساءة الحكومة لسلطاتها كفصل الموظفين إرضاء لغرض شخصي أو شهوة حزبية ( استئناف مصر الدوائر المجتمعة في أول مارس سنة 1928 المحاماة 8 ص 750 ) . وأحكام الشريعة الإسلامية في هذا الصدد تتفق مع ما استقر عليه الرأي في التقنينات الحديثة والفقه والقضاء . ( المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 33 ) .

 ( [26] ) أنظر جوسران 2 فقرة 296 .

 ( [27] ) أنظر فى نقد معيار الغرض غير المشروع مازو 1 فقرة 575 .

 ( [28] ) أنظر في نقد معيار الهدف الاجتماعي مازو 1 فقرة 572 .

 ( [29] ) المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 33 – مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 209 .

 ( [30] ) المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي 1 الباب التمهيدي ص 34 – مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 210 .

 ( [31] ) أنظر آنفاً فقرة 551 – هذا وقد كان النص الخاص بالتعسف في استعمال الحق محل مناقشات مشبهة في لجنتي مراد سيد أحمد باشا وكامل مصدقي باشا . وقد أقرت لجنة مراد سيد أحمد باشا النص الآتي : ” لا يسمح باستعمال الحق إذا تجاوز الحدود التي يمليها حسن النية أو يقررها الغرض الذي من أجره وجد هذا الحق ” . وفي لجنة كامل صدق باشا اقترح النص الآتي : ” لا يكون استعمال الحق مشروعاً إذا جاوز الحدود التي يقتضيها حسن النية أو الغرض الذي من أجله تقرر هذا الحق ” . وذكر أن هذا النص يكاد يردد حرفياً ما جاء بالمادة 74 فقرة 2 من المشروع الفرنسي الإيطالي والمادة 35 من القانون البولوني والمادة 124 من القانون اللبناني . وقال أحد أعضاء اللجنة إنه يبدو من مقارنة وجهات النظر جميعاً أن نظرية إساءة استعمال الحق تخضع لاعتبارين أساسيين : أحدهما نفسي محض وهو نية التدليس التي تصرف العمل المشروع إلى قصد واحد هو الإضرار بالغير ، والثاني مادي يواجه الضرر المتسبب عن مباشرة هذا العمل في نطاق يجاوز الحدود المادية المرسومة له ، وقد اقترح بناء على ذلك النص التالي : ” لا يجوز لأحد أن يستعمل حقه دون مصلحة تعود عليه ولمرد قصد الإضرار بالغير ” ، فهذا النص يوفق بين الاعتبارين السابق ذكرهما ، ويتضمن الشروط الأربعة المطلوبة وهي : ( 1 ) استعمال الحق . ( 2 ) انعدام المصلحة من هذه الاستعمال . ( 3 ) قصد الإضرار ( ويستوي معه الخطأ الجسيم ) . ( 4 ) الضرر الفعلي . ورأى أحد الأعضاء أن من الخير عدم استحداث جديد في هذه النظرية وذلك باقتباس نص قائم في أي من التشريعات الحديثة لتجنيب المحاكم الوقوع في العثرات التي يهيئها تطبيق نص جديد في مثل هذا الموضوع ، واقترح اقتباس نص المشروع الفرنسي الإيطالي . واقترح أحد الأعضاء النص التالي : ” يعد مسئولاً كل من تجاوز حدود الغرض الاجتماعي الذي من أجله تقرر الحق ” .

 وتقدم أحد الأعضاء بنص آخر يجمع بين الفكرة التي عبر عنها القانون المدني الألماني وفكرة استعمال الحق بطريقة منافية للغرض الاجتماعي الذي من أجله تقرر إلحاق ، على النحو الآتي : ” تنتهي مشروعية استعمال الحق إذا كان من شأنه الإضرار بالغير دون فائدة تعود على من يستعمله ، أو إذا كان مخالفاً صراحة للغرض الاجتماعي الذي تقرر من أجله ” . ثم اقترح أخيراً الأخذ بالنص الوارد في المشروع النهائي للقانون المدني الإيطالي وهو : ” لا يسوغ لأحد أن يستعمل حقه بطريقة تتعارض والغرض الذي من أجله تقرر له هذا الحق ” . فوافقت اللجنة على الأخذ بهذا النص وجعله المادة 7 من الباب التمهيدي . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 1 ص 204 – ص 208 في الهامش ) .

 ( [32] ) وكان القضاء المصري في عهد القانون القديم يطبق هذه المبادئ قبل أن ترد في نصوص القانون الجديد . من ذلك ما قضت به محكمة استئناف مصر الوطنية من أن نظرية الاعتساف في استعمال الحق تسمح بأن يكون لصاحب الحق جواز إنكاره بما يرجع لتقديره هو لظروفه الخاصة به ، إلا إذا استخدم بقصد التنكيل بالغير ولغير غرض جدى شريف يرجوه لنفسه من وراء الإنكار ( استئناف مصر في 22 يونية سنة 1931 المحاماة 12 رقم 222 ص 443 ) . وما قضت به محكمة مصر الكلية الوطنية من أنه لا يجوز استعمال الحق إذا كان الغرض الأساسي منه هو الإضرار بالغير ( محكمة مصر الكلية الوطنية في 31 مايو سنة 1937 المحاماة 18 رقم 31 ص 74 ) . وما قضت به محكمة الاستئناف المختلطة فيمن اختار عمداً من بين الطرف القانونية المواتية له ما يضر منها بالغير من غير أية فائدة يجنيها ، فإنه يسيء استعمال حقه ويلزم بالتعويض ( استئناف مختلط في 12 فبراير سنة 1 936 المحاماة 17 رقم 333 ص 698 ) . وما قضت به هذه المحكمة أيضاً من أن التعسف في استعمال الحق عمل غير مشروع ، إما لأنه قد تم بقصد الإضرار بالغير ، وغما لأنه انحرف عن العرض الذي أعطى الحق من أجله ، وإما لأنه ألحق بالغير ضرراً جسيماً ( استئناف مختلط في 7 أبريل سنة 1945 م 57 ص 125 ) .

 هذا وجزاء التعسف في استعمال الحق يغلب أن يكون تعويضاً نقدياً . وقد يكون تعويضاً عينياً ، إما بإزالة الضرر بعد أن وقع ( هدم الحائط الذي يحجب النور مثلاً ) ، وإما يمنع الضرر أن يقع ( كما إذاك أن في التنفيذ العيني إرهاق للمدين ، وتعسف الدائن في المطالبة بهذا التنفيذ في غير مصلحة جدية ، فإنه يمنع من ذلك ويفرض عليه أن يقتصر على تعويض نقدي : م 203 فقرة 2 ) . وسنرى أمثلة أخرى في التطبيقات التشريعية للتعسف .

 ( [33] ) هذا وكثيراً ما تختلط تطبيقات التعسف في استعمال الحق بتطبيقات الخروج عن حدود الحق أو الرخصة . وقد سبق أن بينا الفرق ما بين الوضعين .

 ( [34] ) أنظر في تطبيقات تشريعية أخرى يتنوع فيها الجزاء : م 124 ( التمسك بالغلط على وجه يتعارض مع ما يقضي به حسن النية ) – م 516 فقرة 10 ( عزل الشريك من الإدارة دون مسوغ ) – م 594 فقرة 2 ( إيجار من الباطن للعقار الذي أنشئ به مصنع أو متجر ) – م 815 ( تعلية الحائط المشترك ) – م 1023 ( زيادة عبء حق الارتفاق ) – م 10224 – 1025 ( تجزئة العقار المرتفق والعقار المرتفق به ) م 1094 ( إنقاص حق الاختصاص إلى الحد المناسب ) – م 1106 ( إدارة المرهون رهن حيازة إدارة سيئة ) .

 ( [35] ) استئناف مختلط في 17 أبريل سنة 1919 م 31 ص 252 – وفي 12 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 27 .

 ( [36] ) استئناف مختلط في 14 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 34 – وفي 9 ديسمبر سنة 1937 م 50 ص 42 .

 ( [37] ) استئناف مختلط في 10 يونية سنة 1915 م 27 ص 403 .

 ( [38] ) استئناف مختلط في 25 نوفمبر سنة 1880 المجموعة الرسمية للمحاكم المختلطة 6 ص 8 .

 ( [39] ) استئناف مختلط في 19 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 41 – وأنظر أيضاً : استئناف مختلط في 9 ديسمبر سنة 1903 م 16 ص 45 – وفي 10 أبريل سنة 1913 م 25 ص 308 – وفي 30 ديسمبر سنة 1914 م 27 ص 93 – وفي 25 يونية سنة 1918 م 30 ص 491 – وفي 21 فبراير سنة 1924 م 36 ص 242 – وفي 12 مايو سنة 1925 م 37 ص 417 .

 ( [40] ) نقض مدني في 19 نوفمبر سنة 1942 مجموعة عمر 4 رقم 3 ص 3 – وقد يقع التعسف في استعمال السلطة عن طريق قرار إداري يصدر من الموظف ، فيكون باطلاً ويوجب التعويض . وكل من دعوى الإلغاء ودعوى التعويض في هذه الحالة يكون من اختصاص محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة ، ويشترك القضاء العادي مع القضاء الإداري في الاختصاص بنظر دعوى التعويض دون دعوى الإلغاء . وقد يقع التعسف في استعمال السلطة عن طريق عمل مادي ، فيوجب مسئولية كل من الموظف والحكومة مسئولية تقصيرية ، ودعوى المسئولية هنا من اختصاص القضاء العادي وحده .

نقلا عن محامي أردني

اذا كان لديك ملاحظة اكتبها هنا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s