المسئولية العقدية ( جزاء العقد )
424 – نطاق المسئولية العقدية ( [2] ) : المسئولية العقدية تقابل المسئولية التقصيرية . فالأولى جزاء العقد ، والثانية جزاء العمل غير المشروع : ويعنينا هنا المسئولية العقدية ، أما المسئولية التقصيرية فستكون محل البحث عند الانتقال إلى العمل غير المشروع كمصدر للالتزام .
وقيام المسئولية العقدية يفترض أن هناك عقداً صحيحاً واجب التنفيذ لم يقم المدين بتنفيذه . ففي هذه الحالة تقول الفقرة الأولى من المادة 199 : ” ينفذ الالتزام جبراً على المدين ” . وتقول الفقرة الأولى من المادة 203 : ” يجبر المدين بعد إعذاره طبقاً للمادتين 219 و 220 على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً متى كان ذلك ممكناً ” فإذا أمكن التنفيذ العيني – وطلبه الدائن – أجبر المدين عليه . وإلى هنا لا تقوم المسئولية العقدية ، إذ نحن في صدد التنفيذ العيني للالتزام لا في صدد التعويض عن عدم تنفيذه . أما إذا لم يكن التنفيذ العيني – أو أمكن ولكن الدائن طلب التعويض ولم يبد المدين استعداده للتنفيذ العيني – ففي هذه الحالة لا يسع القاضي إلا أن يحكم بالتعويض إذا توافرت شروطه ، جزاء عدم تنفيذ الالتزام . وهنا تقوم المسئولية العقدية . فالدائن يطالب المدين بالتعويض . فعلى القاضي أن يبحث هل المدين مسئول حقاً عن عدم تنفيذ التزامه العقدي . وتجيب المادة 215 – وهي نص جوهري في كل من المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية ومن ثم وضعت في الباب المعقود لآثار الالتزام – بأنه ” إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عيناً حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه ، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبي لا يد له فيه ” . فما هي إذن الأركان التي تقوم عليها المسئولية العقدية؟ وما هي الآثار التي تترتب عليها إذا قامت أركانها؟ هذه هي في إيجاز المسائل التي تشتمل عليها المسئولية العقدية .
ويتبين مما تقدم أن المسئولية العقدية لا شأن لها بالتنفيذ العيني للالتزام العقدي ( [3] ) . وهي أيضاً لا تتحقق إذا أثبت المدين أن الالتزام قد استحال تنفيذه بسبب أجنبي . وإنما تتحقق المسئولية العقدية إذا لم ينفذ المدين التزامه العقدي تنفيذاً عينياً ولم يستطع أن يثبت أن التنفيذ قد استحال بسبب أجنبي .
425 – تشتت مسائل المسئولية العقدية – خطة البحث : ومسائل المسئولية العقدية على النحو الذي بسطناه موزعة في أمكنة متفرقة ونحن قلم شتاتها هنا . ولكنا مع ذلك نترك الكلام في التمييز بينها وبين المسئولية التقصيرية . وهل تتعدد المسئوليتان . وهل تجوز الخيرة بينهما إذا تعددتا ، إلى باب العمل غير المشروع . ونترك كذلك الكلام في تقدير التعويض تقديراً قضائياً أو اتفاقياً أو قانونياً . وما يسبق استحقاق التعويض من إعذار ، إلى الجزء الذي نتناول فيه الكلام في آثار الالتزام ( [4] ) .
ويبقى بعد ذلك من مسائل المسئولية العقدية أركانها وآثارها كما قدمنا . ولكنا – توخياً للإيجاز – سندمج آثار المسئولية العقدية في أركانها ، على خلاف الخطة التي سنتبعها في المسئولية التقصيرية إذ يقتضي المقام هناك الإسهاب والتبسيط .
وأركان المسئولية العقدية – كأركان المسئولية التقصيرية – ثلاثة : ( 1 ) الخطأ العقدي . ( 2 ) الضرر . ( 3 ) علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر . ونبحثها الآن ركناً ركناً .
المطلب الأول
الخطأ العقدي
( La faute contractuelle )
426 – مسائل ثلاث : الأصل أن يكون المدين مسئولاً عن خطأه الشخصي . ولكنه قد يكون مسئولاً عن عمل الغير أو عن الأشياء التي في حراسته ، كما هو الأمر في المسئولية التقصيرية . وقد تعدل قواعد المسئولية العقدية بالاتفاق أو عن طريق التأمين .
فنحن نبحث إذن مسائل ثلاثاً : ( 1 ) الخطأ العقدي في مسئولية المدين عن عمله الشخصي . ( 2 ) المسئولية عن الغير أو عن الأشياء . ( 3 ) تعديل قواعد المسئولية العقدية بالاتفاق أو عن طريق التأمين .
$ 1 – الخطأ العقدي في مسئولية المدين عن عمله الشخصي
427 – ما هو الخطأ العقدي : نبادر إلى القول بأن الخطأ العقدي هو عدم تنفيذ المدين لالتزامه الناشئ من العقد . فالمدين قد التزم بالعقد . فيجب عليه تنفيذ التزامه . والنصوص كثيرة في هذا المعنى . تقول المادة 147 فقرة أولى : ” العقد شريعة المتعاقدين ” . وتقول المادة 148 فقرة أولى : ” يجب تنفيذ العقد طبقاً لما أشتمل عليه ” . وتقول المادة 199 فقرة أولى : ” ينفذ الالتزام جبراً على المدين ” . وتقول المادة 203 فقرة أولى : ” يجبر المدين بعد إعذاره طبقاً للمادتين 219 و 220 على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً متى كان ذلك ممكناً ” . وتقول المادة 215 : ” إذا استحال على المدين أن ينفذ التزامه عيناً حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه ” .
فإذا لم يقم المدين في العقد بالتزامه كان هذا هو الخطأ العقدي . ويستوي في ذلك أن يكون عدم قيام المدين بالالتزام ناشئاً عن عمده ، أو عن إهماله ، أو عن فعله ( أي دون عمد أو إهمال ) . بل إن الخطأ العقدي يتحقق حتى لو كان عدم قيام المدين بالالتزام ناشئاً عن سبب أجنبي لا يد له فيه كالقوة القاهرة . ولكن يلاحظ في هذه الحالة الأخيرة أنه إذا تحقق الخطأ العقدي ، فإن علاقة السببية – وهي ركن في المسئولية العقدية – تنعدم ، ولا تتحقق المسئولية على ما سنرى . وعلى هذا الوجه ينبغي فهم المادة 373 ، وهي تنص على أنه ” ينقضي الالتزام إذا أثبت المدين أن الوفاء أصبح مستحيلاً عليه لسبب أجنبي لا يد له فيه ” . فانقضاء الالتزام هنا إنما يكون نتيجة لاستحالة تنفيذه عيناً ولعدم تحقق المسئولية العقدية بانعدام أحد أركانها .
ويتبين مما قدمناه أن الخطأ العقدي ليس هو إلا عدم قيام المدين بالتزامه الناشئ عن العقد ، أيا كان السبب في ذلك .
428 – نوعان من الالتزامات : الالتزام بتحقيق غاية والالتزام ببدل عناية : ولكن يجب في هذا الصدد أن نميز بين نوعين من الالتزامات .
فهناك التزام تنفيذه لا يكون إلا بتحقيق غاية معينة هي محل الالتزام . فالالتزام بنقل حق عيني – أياً كان محل الحق – والالتزام بعمل معين – تسليم عين أو إقامة مبنى أو نحو ذلك – والالتزام بالامتناع عن مل معين ، كل هذه الالتزامات يقصد بها تحقيق غاية معينة ، هي نقل الحق أو القيام بالعمل أو الامتناع عن العمل ، فتنفيذها لا يكون إلا بتحقيق هذه الغاية . فإذا لم تتحقق الغاية – أياً كان السبب في ذلك – بقى الالتزام غير منفذ . وقد اصطلح على تسمية هذا النوع من الالتزام في الفقه الفرنسي بعبارة ( Obligation de resultat ) ونسميه نحن ” الالتزام بتحقيق غاية ” .
وهناك التزام لا يرمي إلى تحقيق غاية معينة ، بل هو التزام ببذل الجهد للوصول إلى غرض ، تحقق الغرض أو لم يتحقق . فهو إذن التزام بعمل ، ولكنه عمل لا تضمن نتيجته . والمهم فيه أن يبذل المدين لتنفيذه مقداراً معيناً من العناية . والأصل أن يكون هذا المقدار هو العناية التي يبذلها الشخص العادي ، ويزيد هذا المقدار و ينقص تبعاً لما ينص عليه القانون أو يقضي به الاتفاق . فمتى بذل المدين العناية المطلوبة منه ، يكون قد نفذ التزامه ، حتى لو لم يتحقق الغرض المقصود . فالمستأجر يجب عليه أن يبذل من العناية في استعمال العين المؤجرة وفي المحافظة عليها ما يبذل الشخص المعتاد ( م 583 فقرة أولى ) . وعلى المستعير أ ،يبذل في المحافظة على الشيء العناية التي يبذلها في المحافظة على ماله دون أن ينزل في ذلك عن عناية الرجل المعتاد ( م 641 فقرة أولى ) . وإذا كانت الوديعة بغير أجر وجب على المودع عنده أ ، يبذل من العناية في حفظ الشيء ما يبذله في حفظ ماله دون أن يكلف في ذلك أزيد من عناية الرجل المعتاد ، أما إذا كانت الوديعة بأجر فيجب أ ، يبذل في حفظ الوديعة عناية الرجل المعتاد ( م 720 ) . وإذا كانت الوكالة بلا أجر وجب على الوكيل أ ، يبذل دائماً في تنفيذها عناية الرجل المعتاد ( م 704 ) . وقد عرضت المادة 211 لهذا النوع من الالتزام في عمومه ، فنصت على ما يأتي : ” 1 – في الالتزام يعمل ، إذا كان المطلوب من المدين هو أن يحافظ على الشيء أو أن يقوم بإدارته أو أن يتوخى الحيطة في تنفيذ التزامه ، فإن المدين يكون قد وفى بالالتزام إذا بذل في تنفيذه من العناية كل ما يبذله الشخص العادي . ولو لم يتحقق الغرض المقصود . هذا ما لم ينص القانون أو الاتفاق على غيره . 2 – وفي كل حالة يبقى المدين مسئولاً عما يأتيه من غش أو خطأ جسيم ( [5] ) ” . وقد اصطلح على تسمية هذا النوع من الالتزام في الفقه الفرنسي بعبارة ( Obligation de moyen ) أو بعبارة ( obligation generale de prudence et diligence ) ونسميه نحن ” الالتزام ببذل عناية ( [6] ) ” .
فإذا قلنا بعد ذلك إن الخطأ العقدي هو عدم تنفيذ المدين لالتزامه الناشئ من العقد ، وجب أن نميز في هذا الصدد بين هذين النوعين من الالتزام . فالالتزام بتحقيق غاية يكون الخطأ العقدي فيه هو عدم تحقيق هذه الغاية ( [7] ) . والالتزام ببذل عناية يكون الخطأ العقدي فيه هو عدم بذل العناية المطلوبة ( [8] ) .
429 – إثبات الخطأ العقدي : والأصل أن الدائن هو المكلف بإثبات الدين ، والمدين هو المكلف بإثبات التخلص منه ( م 389 ) . ولكن مجال تطبيق هذه القاعدة يكون ندما يطالب الدائن المدين بتنفيذ التزامه عيناً فعلى الدائن في هذه الحالة أن يثبت مصدر الالتزام ( العقد مثلاً ) ، فإذا أدعى المدين أنه نفذه فعليه هو أن يثبت ذلك . وإلا حكم عليه بالتنفيذ العيني . أما في إثبات الخطأ العقدي فالأمر مختلف : الدائن لا يطالب المدين بتنفيذ الالتزام عيناً ، بل يطالبه بتعويض لعدم تنفيذ الالتزام . فالدائن هو الذي يدعى أن المدين لم ينفذ التزامه ومن أجل ذلك يطالبه بالتعويض . فعلى الدائن إذن يقع عبء إثبات أن المدين لم ينفذ التزامه ( [9] ) . فإذا أثبت ذلك كان هذا إثباتاً للخطأ العقدي على النحو الذي أسلفناه . ولما كان على الدائن أيضاً أن يثبت الضرر ، وكانت علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر مفروضة كما سنرى ، فإن الدائن متى أثبت عدم تنفيذ الالتزام وأثبت الضرر الذي أصابه يكون قد اضطلع بما يقع على عاتقه من إثبات . فاستحق التعويض . وهذا ما لم ينف المدين السببية المفترضة بإثبات السبب الأجنبي .
ونطبق هذه القواعد على الالتزام بغاية والالتزام بعناية .
ففي الالتزام بغاية ، كالتزام البائع بنقل ملكية المبيع ، يثبت الدائن – وهو هنا المشتري – عقد البيع وعدم انتقال ملكية المبيع إليه . فيثبت بذلك في جانب البائع خطأ عقدياً ، لا يستطيع هذا أ ، ينفيه بإثبات أن بذل كل ما في وسعه لنقل ملكية المبيع إلى المشتري فلم يستطع . لأنه ملزم بتحقيق غاية . وليس أمامه إلا أ ، يثبت السبب الأجنبي لنفي علاقة السببية ، وإلا فالخطأ ثابت في جانبه ومسئوليته العقدية متحققة . ولا نقول هنا – كما كان يقال عادة – إن عدم تنفيذ البائع لالتزامه يجعل الخطأ العقدي مفروضاً في جانبه ، بل نقول إن عدم تنفيذ الالتزام هو بعينه الخطأ العقدي ، وقد أثبته الدائن ، فليس هو بالخطأ المفروض في جانب المدين ، بل هو خطأ ثابت ( [10] ) . وللبائع ، عند ما يثبت المشتري عقد البيع ، ألا يقف موقفاً سلبياً ويترك المشتري يثبت الخطأ العقدي على النحو الذي بيناه ، بل يقف موقفاً إيجابياً ويثبت أنه قد قام بتنفيذ التزامه عيناً ونقل ملكية المبيع إلى المشتري فلا محل إذن لمطالبته بالتعويض ، فنخرج بذلك من نطاق المسئولية العقدية إلى نطاق التنفيذ العيني .
وفي الالتزام بعناية . كالتزام الطبيب بعلاج المريض ( [11] ) ، يثبت المريض أن الطبيب التزم بعلاجه – وهذا هو العقد الصريح أو الضمني – ويثبت إلى جانب ذلك أن الطبيب لم ينفذ التزامه فلم يبذل في علاجه العناية المطلوبة ، بأن يثبت على الطبيب إهمالاً معيناً أو انحرافاً على أصول الصنعة . فإذا أثبت ذلك كان هذا إثباتاً لخطأ الطبيب العقدي . وما على المريض بعد ذلك إلا أن يثبت الضرر ليستحق التعويض ، ما لم يثبت الطبيب أن عدم تنفيذه لالتزامه وقعوده عن بذل العناية المطلوبة إنما يرجع إلى سبب أجنبي ، فتنعدم علاقة السببية ، ولا تتحقق المسئولية العقدية . وللطبيب هنا أيضاً ، عندما يثبت المريض العقد ، ألا يقف موقفاً سلبياً ويترك المريض يثبت عليه الخطأ العقدي ، بل ينتقل من نطاق المسئولية العقدية إلى نطاق التنفيذ العيني ، فيثبت أنه قد نفذ التزامه تنفيذاً عينياً وبذل كل العناية المطلوبة منه في علاج المريض ( [12] ) .
430 – نظرية مهجورة – تدرج الخطأ ( gradation des fautes ) : وهناك نظرية قديمة مهجورة تقسم الخطأ العقدي غير العمد إلى أقسام ثلاثة : خطأ جسيم ( culpa lata ) وهو الخطأ الذي لا يرتكبه حتى الشخص المهمل ، وهو خطأ أقرب ما يكون إلى العمد ويلحق به – وخطأ يسير ( culpa levis ) وهو الخطأ الذي لا يرتكبه شخص معتاد – وخطأ تافه ( culpa levissima ) وهو الخطأ الذي لا يرتكبه شخص حازم حريص . وهذه النظرية تقسم أيضاً العقود إلى طوائف ثلاث : عقد لمنفعة الدائن وحده كالوديعة ، وفيه لا يسأل المدين إلا عن الخطأ الجسيم – وعقد لمنفعة المتعاقدين معاً كالإيجار ، وفيه يسأل المدين عن الخطأ اليسير – وعقد لمنفعة المدين وحده ، وفيه يسأل المدين حتى عن الخطأ التافه .
وقد نسبت هذه النظرية خطأ إلى القانون الروماني ، وهي ليست منه ، بل هي من خلق القانون الفرنسي القديم . نرى دوماً يرسم خطوطها الرئيسية ( [13] ) ، ونراها مبسوطة بوضوح عند بوتييه ( [14] ) . ولكنها هجرت في القانون الجديد . وهي نظرية منتقدة من ناحيتين : ما تشتمل عليه من العموم ، وما تقول به من التدرج .
أما من ناحية العموم فالنظرية ليست صحيحة؛ فهي لا محل لتطبيقها في الالتزام بتحقيق غاية . وقد رأينا أن الخطأ العقدي في هذه الطائفة من الالتزامات ليس إلا عدم تنفيذ الالتزام . فإذا لم ينفذ المدين التزامه العقدي ، ولم يحقق الغاية المتفق على تحقيقها ، فهناك خطأ عقدي في جانبه ، أياً كانت درجة تقصيره . فقد يكون معتمداً ألا ينفذ التزامه . وقد يكون مقصراً تقصيراً جسيماً . وقد يكون مقصراً تقصيراً يسيراً . وقد يكون مقصراً تقصيراً تافهاً بل قد لا يكون هناك أي تقصير في جانبه . فالخطأ العقدي قائم ما دام المدين لم ينفذ التزامه ، وهو مسئول عن خطأه في جميع هذه الأحوال . وقد ذهبنا إلى أبعد من ذلك ، فقلنا إن المدين قدي منعه من تنفيذ التزامه سبب أجنبي كالقوة القاهرة ، ومع ذلك يبقى خطأه العقدي قائماً لأنه لم ينفذ إلتزامه ، وإن كانت رابطة السببية تنتفي بوجود السبب الأجنبي ، فتنعدم المسئولية لانعدام السببية لا لانعدام الخطأ ، ومن هنا نرى أن التناقض الذي يستظهره الفقه عادة بين نصين من نصوص القانون المدني الفرنسي ، هما المادتان 1147 و1137 ، تناقض ظاهري لا حقيقة له . فالمادة 1147 من هذا القانون تقرر أن المدين مسئول عن تنفيذ التزامه حتى يثبت أنه امتنع عليه ذلك لسبب أجنبي لا يد له فيه . والمادة 1137 تقضي بأن الالتزام بالعناية في المحافظة على الشيء يلزم الشخص الموكول إليه ذلك أن يبذل فيه عناية الشخص المعتاد . ولا تناقض ما بين النصين كما قدمنا . فلكل نص نطاق خاص به . فالمادة 1147 تقرر في عبارة عامة أن عدم تنفيذ المدين لالتزامه هو خطأ عقدي . وهذا صحيح وهو يصدق في الالتزام بغاية وفي الالتزام بعناية . ويكون المدين مسئولاً عن هذا الخطأ إلا إذا نفى علاقة السببية بإثبات السبب الأجنبي . أما المادة 1137 فهي لا تعرض لشيء مما تعرض له المادة 1147 ، بل هي تحدد مدى التزام المدين في الالتزام ببذل عناية ، وتقرر أن العناية المطلوبة هي في الأصل عناية الرجل المعتاد . فالمادة 1147 تنطبق إذن على جميع الالتزامات ، سواء ما كان منها التزاماً بغاية أو كان التزاماً بعناية ، وتعرض للمسئولية العقدية في ركنين من أركانها ، ركن الخطأ وركن السببية . والمادة 1137 لا تتناول إلا طائفة الالتزام ببذل عناية ، وتتناولها لا لتحديد المسئولية العقدية ، بل لتحديد مدى الالتزام ( [15] ) . وقد أتى القانون المصري الجديد بنصين يقابلان المادتين 1147 و1137 من القانون المدني الفرنسي ( [16] ) . فالمادة 215 تقضي بأن المدين يحكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبيه لا يلد له فيه ، فهي تقابل المادة 1147 من القانون المدني الفرنسي . والمادة 211 ، وتقابل المادة 1137 من القانون المدني الفرنسي ، توجب في الالتزام بعناية أن تكون العناية المبذولة هي عناية الرجل المعتاد ولو لم يتحقق الغرض المقصود . ولا تناقض ما بين هذين النصين ، كما لا تناقض ما بين نصي القانوني الفرنسي .
وأما من ناحية التدرج فالنظرية أيضاً ليست صحيحة . فنحن ، حتى إذا قصرنا نظرية تدرج الخطأ على الالتزام بعناية ، لا نتبين أن الخطأ يتدرج من خطأ جسيم إلى خطأ يسير إلى خطأ تافه تبعاً لما إذا كان العقد لمصلحة الدائن وحده أو لمصلحة المتعاقدين معاً أو لمصلحة المدين وحده . وقد هدم القانون المدني الفرنسي في المادة 1137 التي سبق ذكرها هذه التقسيمات جملة واحدة فقال إن الالتزام بالعناية في المحافظة على الشيء ، سواء كان الغرض من العقد مصلحة أحد المتعاقدين أو مصلحة الاثنين معاً ، يلزم المدين ببذل عناية الرجل المعتاد . فقضى هذا النص على التقسيم في شقيه ، تقسيم العقود إلى طوائف ثلاث وتقسيم الخطأ إلى أنواع ثلاثة . وأوجب في جميع العقود ، كأصل عام ، أن تكون العناية المطلوبة هي عناية الرجل المعتاد . وذلك هو شأن القانون المصري الجديد ( [17] ) . فقد جاء واضحاً كل الوضوح في نفي نظرية تدرج الخطأ . والأصل عنده أن العناية المطلوبة هي عناية الرجل المعتاد ( م 211 ) . ولكن يجوز الخروج على هذا الأصل إما بنص القانون وإما بالاتفاق . وقد نص القانون فعلاً في بعض العقود على عناية تزيد أو تقل عن عناية الرجل .المعتاد كما رأينا فيما تقدم ( [18] ) . كذلك يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على مقدار من العناية أزيد أو أقل . بل يجوز لهما الاتفاق على الإعفاء من المسئولية العقدية إلا إذا ثبت في جانب المدين غش أو خطأ جسيم ( م 217 فقرة 2 ) . وسنرى تفصيل ذلك عند الكلام في الإعفاء من المسئولية ( [19] ) .
$ 2 – المسئولية العقدية عن الغير وعن الأشياء
1 – المسئولية العقدية عن الغير :
431 – نطاق المسئولية العقدية عن الغير : المسئولية العقدية عن الغير قد تتحقق إذا استخدم المدين أشخاصاً غيره في تنفيذ التزامه العقدي ، فيكون مسئولاً مسئولية عقدية عن خطأ هؤلاء الأشخاص الذي أضر بالدائن في الالتزام العقدي . فيوجد إذن : 1 ) المسئول وهو المدين في الالتزام العقدي . 2 ) والمضرور وهو الدائن في هذا الالتزام . 3 ) والغير وهم الذين استخدمهم المدين في تنفيذ التزامه . وتقوم المسئولية العقدية عن الغير حيث يوجد عقد صحيح بين المسئول والمضرور وحيث يكون الغير مكلفاً بتنفيذ هذا العقد . فالمستأجر مسئول عن المستأجر من الباطن قبل المؤجر : المسئول هنا هو المستأجر ، والمضرور هو المؤجر ، وقد قام بينهما عقد صحيح هو عقد الإيجار الأصلي ، والغير المكلف بتنفيذ هذا العقد من قبل المسئول هو المستأجر من الباطن . ويتبين من ذلك أن هناك حدين لنطاق المسئولية العقدية عن الغير : الحد الأول أن يكون هناك بين المسئول والمضرور عقد صحيح ، والحد والثاني أن يكون الغير معهوداً إليه في تنفيذ هذا العقد .
أما أن يكون هناك بين المسئول والمضرور عقد صحيح ، فذلك لأن مسئولية المسئول نحو المضرور هي مسئولية عقدية ، فوجب أ ، تنشأ هذه المسئولية عن عقد تم بينهما . فإذا كان العقد قد تم بين المسئول والغير الذي أحدث الضرر ، لا بين المسئول والمضرور ، كالتابع يربطه بمتبوعه عقد ثم يلحق الضرر بالمضرور في أثناء تأدية وظيفته ، فهذه مسئولية تقصيرية لا عقدية ،سنفصلها في مكانها . كذلك المؤجر لا يكون مسئولاً مسئولية عقدية عما يحدثه مستأجرة من الضرر لشخص لا يربطه عقد بالمؤجر . وإذا تولى الغير ، نيابة عن المسئول ، المفاوضة في عقد ثم قطعت المفاوضة ، فأصاب قطعها الطرف الآخر بالضرر ، فالمسئولية عن الغير هنا لا تكون عقدية ، لأن العقد بين المسئول والمضرور لميتم إذ هو لمي جاوز مرحلة المفاوضات . ويجوز أ ، تقوم في هذا المثل مسئولية تقصيرية ، هي مسئولية المتبوع عن تابعه ، إذا توافرت أركانها . وإذا انعقد العقد غير صحيح في المثل الذي نحن بصدده ، فإن المسئولية لا تكون هنا أيضاً مسئولية عقدية . إذ أن العقد غير الصحيح يزول بإبطاله ، فلا تنشأ المسئولية – إذا تحققت – من العقد ، بل تكون مسئولية تقصيرية . ويتحقق ذلك بأن يكون الغير الذي أبرم العقد غير الصحيح نيابة عن المسئول هو المتسبب في البطلان ، فيكون مسئولاً مسئولية تقصيرية نحو الطرف الآخر ، ويكون من أبرم العقد باسمه مسئولاً عنه مسئولية تقصيرية هي مسئولية المتبوع عن التابع ، فلا بد إذن لقيام المسئولية العقدية عن الغير أن يكون هناك عقد صحيح بين المسئول والمضرور .
ويجب أيضاً أن يكون الغير قد عهد إليه في تنفيذ هذا العقد . فلو كان الغير لم يعهد إليه في ذلك ، فإن تدخله في الإخلال بتنفيذ العقد قد يحقق مسئولية المدين ، ولكن هذه المسئولية تكون مسئولية شخصية لا مسئولية عن الغير . فالمؤجر يلتزم بعقد الإيجار أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين الانتفاع المقصود من العقد ، فإذا تدخل جيران المستأجر من تلقاء أنفسهم ، حتى لو كانوا مستأجرين من نفس المؤجر ( [20] ) ، في انتفاع المستأجر بالعين ومنعوه من ذلك ، فإن مسئولية المؤجر نحو المستأجر تكون مسئولية عقدية ، ولكنها مسئولية شخصية لا مسئولية عن الغير ، إلا أن يثبت المؤجر أن تدخل الجيران هو سبب أجنبي ، فعندئذ تنتفي مسئولية المؤجر بتاتاً . كذلك المستأجر يلتزم بعقد الإيجار نحو المؤجر أن يحافظ على العين ، وهو مسئول عما يصيب العين من تلف بفعله أو بفعل أحد ممن يسكن معه ، ومسئوليته في الحالتين مسئولية عقدية عن عمله الشخصي لا عن عمل الغير . فلا بد إذن لقيام المسئولية العقدية عن الغير أ ، يكون هذا الغير مكلفاً من المدين بتنفيذ العقد ، فيصبح المدين بهذا التكليف مسئولاً عن الغير مسئولية عقدية . مثل ذلك المقاول مسئول عن عماله وعن المقاول من الباطن نحو رب العمل ، والمستأجر مسئول عن المستأجر من الباطن نحو المؤجر ، والوكيل مسئول عن نائبه في تنفيذ الوكالة نحو الموكل وقد يكون التكليف بتنفيذ العقد غير آت من قبل المدين بل من القانون ، كالولي أو الوصي أو القيم يقوم بتنفيذ عقد أحد طرفيه الصغير أو المحجور ، فهنا أيضاً تكون مسئولية الصغير أو المحجور عن الولي أو الوصي أو القيم مسئولية عقدية عن عمل الغير .
432 – نصوص القانون المدني الجديد الواردة في المسئولية العقدية عن الغير : لا يوجد نص يقرر بطريق مباشر القاعدة العامة في المسئولية العقدية عن الغير ، على غرار النص الذي يقرر القاعدة العامة في المسئولية التقصيرية عن عمل الغير ( [21] ) . ولكن يوجد نص يقرر بطريق غير مباشر مبدأ المسئولية العقدية عن الغير ، وهذا النص هو الفقرة الثانية من المادة 217 وتجري بما يأتي : ” وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسئولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه العاقدين إلا ما ينشأ عن غشه أو عن خطأه الجسيم . ومع ذلك يجوز للمدين أن يشترط عدم مسئوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه ” . ونقول بطريق غير مباشر ، لأن مبدأ المسئولية العقدية عن الغير إنما يستخلص ضمناً من هذا النص ، فما دام أنه يجوز للمدين أن يشترط عدم مسئوليته عن الخطأ الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه ، فذلك لا يستقيم إلا إذا كان هو في الأصل مسئولاً عن خطأ هؤلاء الأشخاص ، فيستطيع بالاتفاق أن ينفي عن هذه المسئولية . ومن ثم يمكن القول بأن الفقرة الثانية من المادة 217 تقرر مبدأ عاماً ، هو أن المذين مسئول مسئولية عقدية عن خطأ الأشخاص الذين يستخدمهم في تنفيذ التزامه العقدي .
وقد ورد تطبيقات تشريعية متعددة لهذا المبدأ في صدد عقود مختلفة :
من ذلك عقد الإيجار . فقد نصت المادة 571 على ما يأتي : ” 1 – على المؤجر أن يمتنع عن كل ما من شأنه أن يحول دون انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة ، ولا يجوز له أن يحدث بالعين أو بملحقاتها أي تغيير يخل بهذا الانتفاع . 2 – ولا يقتصر ضمان المؤجر على الأعمال التي تصدر منه أو من أتباعه ، بل يمتد هذا الضمان إلى كل تعرض أو إضرار مبني على سبب قانوني يصدر من أي مستأجرآخر أو من أي شخص تلقي الحق عن المؤجر ) ومسئولية المؤجر عن أعمال المستأجرين الآخرين أو عمن تلقوا الحق منه إنما هي مسئولية عقدية عن عمل شخصي ، أما مسئوليته عن الأعمال التي تصدر من أتباعه ممن يكلفهم بتنفيذ عقد الإيجار فهي مسئولية عقدية عن عمل الغير ( [22] ) .
وفي عقد المقاولة نصت المادة 661 على ما يأتي : ” 1 – يجوز للمقاول أ ، يكل تنفيذ العمل في جملته أو في جزء منه إلى مقاول من الباطن إذا لم يمنعه من ذلك شرط في العقد أو لم تكن طبيعة العمل تفترض الاعتماد على كفايته الشخصية . 2 – ولكنه يبقى في هذه الحالة مسئولاً عن المقاول من الباطن قبل رب العمل ” . فهذا نص صريح في مسئولية المقاول نحو رب العمل عن عمل المقاول من الباطن ، وهي مسئولية عقدية عن عمل الغير .
وفي عقد الوكالة نصت الفقرة الأولى من المادة 708 على ما يأتي : ” إذا أناب الوكيل عن غيره في تنفيذ الوكالة دون أن يكون مرخصاً له في ذلك كان مسئولاً عن عمل النائب كما لو كان هذا العمل قد صدر منه هو ، ويكون الوكيل ونائبه في هذه الحالة متضامنين في المسئولية ” وهنا أيضاً نص صريح في مسئولية الوكيل عن عمل نائبه نحو الموكل ، وهي مسئولية عقدية عن عمل الغير .
433 – شروط المسئولية العقدية عن الغير وأحكامها : ويتبين مما تقدم أن الغير الذي يكون المدين مسئولاً عنه هو كل من كان مكلفاً – اتفاقاً؟ قانوناً – بتنفيذ العقد . فالعمال والمقاولون من الباطن يكون المقاول مسئولاً عنها نحو رب العمل . والمستأجرم ، الباطن والمتنازل له عن الإيجار يكون المستأجر مسئولاً عنهما نحو المؤجر . وعمال أمين النقل وأمناء النقل المتتابعون يكون أمين النقل الأصلي مسئولاً عنهم نحو العميل . والبواب يكون صاحب المنزل مسئولاً عنه نحو المستأجرين ( [23] ) . ونائب الوكيل يكون الوكيل مسئولاً عنه نحو الموكل . والولي والوصي والقيم يكون الصغير أو المحجور مسئولاً عنه نحو المتعاقد الآخر . وبوجه عام كل من كلف ، اتفاقاً أو قانوناً ، بال؟ محل المدين في تنفيذ الالتزام ، كالمستأجر من الباطن ونائب الوكيل والوصي أو بمساعدته في تنفيذه . كالعمال وأمناء النقل المتتابعين ، يكون هو ” ؟ في المسئولية العقدية عن الغير . ولا يشترط في الغير هنا ، كما يشترط في المسئولية التقصيرية ، أن يكون تابعاً . فقد رأينا أن الولي والوصي ؟ يعتبرون ” غيراً ” في هذه المسئولية العقدية ولا يعتبرون ” تابعين ” في المسئولية التقصيرية .
ويجب أن يكون الغير قد أحدث الضرر في حال تنفيذ العقد أو ؟؟ تنفيذه ، على النحو الذي سنراه في مسئولية المتبوع عن التابع . وخطأ في الالتزام بغاية يكون بعدم تحقيق الغاية المتفق عليها ، وفي الالتزام يكون بعدم بذل العناية المطلوبة ، فخطأه هو وخطأ الأصيل سواء .
فإذا توافرت هذه الشروط تحققت المسئولية العقدية عن الغير ، ؟ المدين مسئولاً عن خطأ الغير الذي استخدمه في تنفيذ التزامه ، واختلف الأساس الذي تبنى عليه هذه المسئولية . فمنهم من يقيمها على خطأ؟ فرضاً غير قابل لإثبات العكس . ومنهم من يرتبها على فكرة تحمل التبعة . ومنهم من بينها على فكرة حلول الغير محل الأصيل فيعتبر نائباً عنه فيما ارتكب من خطأ . ومنهم من يؤسسها على فكرة الضمان . وهذا الخلاف عينه نجده في تأصيل مسئولية المتبوع عن التابع . وسنتكلم فيه هناك بالتفصيل .
وغني عن البيان أنه إذا تحققت مسئولية المدين عن الغير ، جاز للأول أ ، يرجع على الثاني إما بالمسئولية العقدية إذا كان هو الذي كلفه بتنفيذ العقد ، وإما بالمسئولية التقصيرية إذاك أن الثاني مكلفاً بتنفيذ العقد بمقتضى القانون .
ب – المسئولية العقدية عن الأشياء :
434 – نطاق المسئولية العقدية عن الأشياء : إذا لم يقم المدين بتنفيذ العقد كان هذا خطأ عقدياً كما قدمنا . فإذا كان عدم تنفيذه للعقد راجعاً لا إلى فعله الشخصي بل إلى ” فعل الشيء ” ( fait de la chose ) ،أي إلى تدخل إيجابي من شيء أفلت من حراسته على النحو الذي سنبينه في المسئولية التقصيرية عن الأشياء ، كان المدين مسئولاً مسئولية عقدية ولكن لا عن ” فعله الشخصي ” بل عن ” فعل الشيء ” . ويتحقق ذلك في الفروض الآتية :
( 1 ) يسلم المدين الشيء محل العقد للدائن – البائع يسلم الآلة المبيعة للمشتري فتنفجر الآلة في يد المشتري وتصيبه بضرر في نفسه أو في ماله . هنا يصبح البائع مسئولاً بمقتضى التزامه العقدي من ضمان العيوب الخفية . ولم ينشأ هذا الضمان عن حالة سلبية للآلة المبيعة كوجود عيب فيها ، بل عن حالة إيجابية هي انفجار الآلة . فيكون البائع مسئولاً مسئولية عقدية ، ولكن لا عن ف عله الشخصي ، بل عن فعل الشيء .
( 2 ) يكون المدين مسئولاً عن رد الشيء محل العقد للدائن ، كالمستأجر يلتزم برد العين المؤجرة ، فيتدخل شيء آخر في حراسة المستأجر – كمواد متفجرة – تدخلاً إيجابياً يتسبب عنه حريق العين . فهنا لم ينفذ المستأجر التزامه العقدي برد الشيء ، فيكون مسئولاً مسئولية عقدية ، ولكن لا عن فعله الشخصي ، بل عن فعل الشيء ، والشيء هنا هو المواد المتفجرة لا العين المؤجرة .
( 3 ) يقوم المدين بتنفيذ العقد عن طريق استعمال شيئا ، فيؤذي هذا الشيء الدائن ، ويكون المدين مسئولاً عن سلامة الدائن بمقتضى العقد . مثل ذلك عقد النقل . ينفذه أمين النقل بوسائل المواصلات المختلفة ، قطار أو سيارة أو طيارة أو غير يذلك ، فيصطدم القطار أو تنفجر السيارة أو تسقط الطيارة ، فيصاب الراكب بالضرر . هنا أيضاً لم ينفذ أمين النقل التزامه نحو الراكب ، إذ هو ملتزم بسلامته ، فيكون مسئولاً مسئولية عقدية ، ولكن لا عن فعله الشخصي ، بل عن فعل الشيء .
435 – المسئولية العقدية عن الأشياء كالمسئولية العقدية عن الفعل الشخصي تحكمها قواعد واحدة : والفروض الثلاثة التي قدمناها لا فرق في الحكم بينها وبين المسئولية عن الفعل الشخصي . فالمدين بالعقد مسئول عن عدم تنفيذ التزامه مسئولية عقدية . وسواء كان هذا راجعاً إلى فعله الشخصي أو إلى فعل شيء في حراسته ، فمسئوليته متحققة في الحالتين ، وتطبق القواعد ذاتها في كل منهما . ويعتبر ” فعل الشيء ” في الفروض المتقدمة هو فعل شخصي للمتعاقد . لأن الشيء في حراسته ، وهو مسئول عنه . فالمسئولية العقدية عن الأشياء هي كالمسئولية العقدية عن الأعمال الشخصية تقوم على خطأ شخصي ( [24] ) .
$ 3 – تعديل قواعد المسئولية العقدية
436 – تعديل قواعد المسئولية العقدية عن طريق التأمين على المسئولية : يستطيع المدين أن يؤمن على مسئوليته العقدية كما يؤمن على مسئوليته التقصيرية . ويؤمن على كل خطأ يصدر منه عدا الفعل العمد ، وعلى كل خطأ يصدر من أتباعه أو ممن يستخدمهم في تنفيذ التزامه حتى عن الفعل العمد . فيستوي التأمين في المسئوليتين . وتستوي قواعد التأمين أيضاً ، وسنفصلها عند الكلام في المسئولية التقصيرية .
437 – تعديل قواعد المسئولية العقدية عن طريق الاتفاق – النصوص القانونية : تنص المادة 217 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
” 1 – يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الحادث المفاجئ والقوة القاهرة ” .
” 2 – وكذلك يجوز الاتفاق على إعفاء المدين من أية مسئولية تترتب على عدم تنفيذ التزامه التعاقدي إلا ما ينشأ عن غشه أو عن خطأه الجسيم . ومع ذلك يجوز للمدين أن يشترط عدم مسئوليته عن الغش أو الخطأ الجسيم الذي يقع من أشخاص يستخدمهم في تنفيذ التزامه ” .
” 3 – ويقع باطلاً كل شرط يقضي بالإعفاء من المسئولية المترتبة على العمل غير المشروع ( [25] ) ” .
ونصت الفقرة الثانية من المادة 211 – بعد أن قضت الفقرة الأولى بأن مدى العناية الواجبة في الالتزام ببذل عناية هي عناية الشخص المعتاد ما لم يوجد اتفاق مخالف – على ما يأتي : ” وفي كل حال يبقى المدين مسئولاً عما يأتيه من غش أو خطأ جسيم ” . وقد سبق ذكر النص بأكمله ( [26] ) .
ولم يستحدث القانون الجديد شيئاً فيما نص عليه من الأحكام المتقدمة ، بل اقتصر على تقنين ما كان الفقه والقضاء في مصر يجريان عليه من المبادئ في شأن التعديل الاتفاقي من قواعد المسئولية العقدية ، وعلى تثبيت هذه المبادئ وتأكيدها في نصوص تشريعية .
438 – الأصل هو الحرية في تعديل قواعد المسئولية العقدية بالاتفاق : ولما كانت المسئولية العقدية منشأها العقد ، وكان العقد وليد إرادة المتعاقدين ، فالإرادة الحرة هي إذن أساس المسئولية العقدية . وغذا كانت الإرادة الحرة هي التي أنشأت قواعد هذه المسئولية ، فإن لها أن تعدلها . فالأصل إذن هو حرية المتعاقدين ، في تعديل قواعد المسئولية العقدية ، وذلك في حدود القانون والنظام العام والآداب .
أما المسئولية التقصيرية فهي ليست وليدة الإرادة الحربة ، بل هي حكم القانون . وسنرى لذلك أنه لا يجوز تعديل قواعدها بالاتفاق ، كما جاز في المسئولية العقدية .
439 – الأحكام التي قررها النصوص في جواز تعديل المسئولية العقدية بالاتفاق : والأحكام التي قررتها النصوص . والتي كان الفقه والقضاء في مصر يجريان عليها في غير اضطراد فاستقرت بعد أن قننتها نصوص تشريعية ، يمكن ردها إلى مبدأين رئيسيين :
المبدأ الأول : يقضي بحرية المتعاقدين في التعديل من قواعد المسئولية العقدية فلهما أن يتفقا على التشديد من هذه المسئولية ، بأن يجعل المدين مسئولاً حتى عن السبب الأجنبي ، ويكون هذا بمثابة تأمين للدائن ( [27] ) . ولهما أن يتفقا على التخفيف منها بألا يجعل المدين مسئولاً حتى عن تقصيره .
والمبدأ الثاني : يقضي بأن النظام العام يقيد من حرية المتعاقدين ، فلا يجوز التخفيف من المسئولية العقدية إلى حد الإعفاء من الفعل العمد أو ما يلحق بالفعل العمد وهو الخطأ الجسيم ، وذلك أنه لو صح للمدين أن يعفى نفسه من المسئولية عن الفعل العمد في عدم تنفيذ التزامه العقدي ، لكان التزامه معلقاً على شرط إرادي محض . وهذا لا يجوز . والخطأ الجسيم ملحق بالفعل العمد ، ويأخذ حكمه . ولكن يجوز للمدين أن يعفى نفسه من المسئولية عن عمل الغير ، حتى لو كان هذا العمل عمداً أو خطأ جسيماً ، فإن عمد الغير لا ينزل منزلة الشرط الإرادي المحض ( [28] ) .
440 – تحليل لهذه الأحكام وتطبيقها على الالتزام بغاية والالتزام بعناية : وإذا حللنا الأحكام التي قدمناها في ضوء ما عرفناه من قواعد المسئولية العقدية ، رأينا أن الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمقدار العناية المطلوبة من المدين في تنفيذ التزامه العقدي . تتدرج هذه العناية تدرجاً ملحوظاً ( [29] ) .
ففي الالتزام بغاية ، حيث يبلغ مقدار العناية المطلوبة الدرجة القصوى . إذ يطلب دائماً تحقيق الغاية المتعاقد عليها ، لا ترفع مسئولية المدين إلا في حالة السبب الأجنبي . ويكون المدين مسئولاً عن الفعل العمد . وعن أي خطأ . جسيماً كان أو يسيراً أو تافهاً ، بل وعن الفعل مجرداً من أي خطأ . ويمكن تبعاً لهذا التدرج أن نتصور الاتفاق على تشديد المسئولية العقدية حتى تشمل المسئولية عن السبب الأجنبي ، وهذا كما قدمنا ضرب من التأمين يلتزم به المدين نحو الدائن . كذلك يمكن أن نتصور الاتفاق على تخفيف المسئولية العقدية في أدنى صورة من صوره ، فلا يكون المدين مسئولاً عن فعله المجرد من الخطأ . وعن ذلك ينقلب الالتزام بغاية إلى التزام بعناية ، ولا يكون المدين مسئولاً إلا إذا أثبت الدائن أنه ارتكب خطأ ولو تافهاً ( [30] ) . وقد يتدرج المدين في التخفف من المسئولية ، فيشترط إعفاءه من المسئولية عن الخطأ التافه . ثم عن الخطأ اليسير . فإذا وصل إلى هذا المدى لا يكون مسئولاً إلا إذا أثبت الدائن في جانبه العمد أو الخطأ الجسيم . ولكن إلى هنا يستطيع أن يصل في التخفف من مسئوليته . ولا يستطيع أن يصل إلى مدى أبعد . فلا يجوز أن يشترط إعفاءه من المسئولية عن فعله العمد أو عن خطأه الجسيم ، ما لمت كن المسئولية مترتبة على فعل الغير فيجوز له ذلك ( [31] ) . وقد ورد نص تشريعي في ضمان استحقاق المبيع ، وهو التزام بغاية ، يعتبر تطبيقاً لهذه الأحكام . إذ نصت الفقرة الأولى من المادة 445 على أنه ” يجوز للمتعاقدين باتفاق خاص أن يزيدا ضمان الاستحقاق ، أو أن ينقصا منه ، أو أ ، يسقطا هذا الضمان ” . ثم نصت الفقرة الثالثة من المادة ذاتها على أنه ” يقع باطلاً كل شرط يسقط الضمان أو ينقصه إذا كان البائع قد تعمد إخفاء حق الأجنبي ” . وكذلك الأمر في ضمان العيوب الخفية في المبيع ، حيث نصت المادة 453 على أنه ” يجوز للمتعاقدين باتفاق خاص أ ، يزيدا في الضمان أو ينقصا منه أو أن يسقطا هذا الضمان ، على أن كل شرط يسقط الضمان أو ينقصه يقع باطلاً إذا كان البائع قد تعمد إخفاء العيب في المبيع غشاً منه ” .
وفي الالتزام بعناية تكون درجة العناية المطلوبة . حيث لا يوجد نص أو اتفاق خاص ، هي عناية الشخص المعتاد . فلا يكون المدين مسئولاً عن السبب الأجنبي ، ولا عن الفعل المجرد من الخطأ . ولا عن الخطأ التافه . ويكون مسئولاً عن فعله العمد ، وعن خطأه الجسيم ، وعن خطأه اليسير . وقد يشدد باتفاق خاص من هذه المسئولية ، فيصبح مسئولاً عن الخطأ التافه ، ثم عن الفعل المجرد من الخطأ . وهنا ينقلب الالتزام بعناية إلى التزام بغاية ، إذ يصبح المدين مسئولاً عن تحقيق غاية لا يتخلص من المسئولية عنها إلا بإثبات السبب الأجنبي . وقد يشدد في مسئوليته إلى مدى أبعد فيصبح مسئولاً حتى عن السبب الأجنبي ، وهذا ضرب من التأمين كما قدمنا . وقد يتخفف من مسئوليه ، فلا يكون مسئولاً عن الخطأ اليسير ، ويبقى مسئولاً عن الفعل العمد وعن الخطأ الجسيم ، فلا يستطيع أن يعفى نفسه بشرط خاص من المسئولية عنهما ، ما لم تكن المسئولية مترتبة على فعل الغير .
ونرى من ذلك أن الالتزام بغاية قد ينقلب إلى التزام بعناية ، وأن الالتزام بعناية قد ينقلب إلى التزام بغاية ، وأن المهم في كل ذلك هو مقدار العناية المطلوبة من المدين . فمن السبب الأجنبي ، إلى الفعل المجرد من الخطأ ، إلى الخطأ التافه ، إلى الخطأ اليسير ، إلى الخطأ الجسيم ، إلى الفعل العمد ، يتدرج المدين في مسئوليته العقدية عن نفسه أو عن الغير ، وفقاً لما ينص عليه القانون أو يقضي به الاتفاق . ولا يقف دون ذلك حتى هذا التقسيم الجوهري للالتزام إلى التزام بغاية والتزام بعناية ( [32] ) .
441 – الآثار التي تترتب على شروط الإعفاء من المسئولية العقدية : إذا كان شرط الإعفاء من المسئولية العقدية صحيحاً على النحو الذي فصلناه ، فإنه يعفى المدين من المسئولية بالقدر الذي يتسع له الشرط . ويبقى المدين مسئولاً فيما وراء ذلك . ولكن القضاء الفرنسي – واقتدى به القضاء المصري في ظل القانون القديم – يضيق من أثر شرط الإعفاء . فعنده أن المسئولية التقصيرية تجتمع مع المسئولية العقدية ، وللدائن الخيرة بين هاتين المسئوليتين . فإذا كان هناك شرط يعفى من المسئولية العقدية ، بقيت المسئولية التقصيرية ، وعلى الدائن أن يثبت خطأ في جانب المدين حتى يطالبه بالتعويض ، لا على أساس المسئولية العقدية وقد أعفى المدين منها ، بل على أساس المسئولية التقصيرية وشرط الإعفاء لا يتناولها ولا يجوز أن يتناولها لأن الإعفاء من المسئولية التقصيرية يتعارض مع النظام العام . فكأن شرط الإعفاء من المسئولية العقدية لم يفعل إلا أن نقل عبء الإثبات من المدين إلى الدائن . وهذه النتيجة تلزم من يقول بالخيرة بين المسئوليتين العقدية والتقصيرية . أما نحن فلا نقول بالخيرة كما سنبين عند الكلام في المسئولية التقصيرية . ولذلك نرى أن شرط الإعفاء إذا كان صحيحاً أعفى المدين من المسئولية العقدية ، ولا محل للمسئولية التقصيرية إذ أن هذه لا تجتمع مع تلك ( [33] ) .
وعلى المدين الذي يتمسك بشرط الإعفاء أن يثبت وجود هذا الشرط . ويصعب في كثير الأحوال على المدين إثبات أن الدائن قبل شرط الإعفاء ، لا سيما إذا كان هذا الشرط منزوياً في ورقة مطبوعة هي ” بوليصة شحن ” أو ” تذكرة سفر ” ، أو في ورقة موضوعة في مكان غير ظاهر في فندق أو مطعم أو نحو ذلك . وتقوم صعوبتان في مثل هذه الحالات لقبول شرط الإعفاء : أولاهما احتمال أن يكون الدائن لم ير هذا الشرط فلا يعتبر قابلاً له وفقاً لنظرية الإرادة الباطنة ، والثانية أن الشرط – بفرض أن الدائن قد رآه ولم يعترض عليه – قد يعتبر شرط إذعان تعسفى للقاضي أن يبطله .
أما إذا كان شرط الإعفاء من المسئولية العقدية باطلاً وفقاً للقواعد التي تقدم ذكرها ، فشرط الإعفاء وحده هو الذي يبطل ويبقى العقد قائماً دون شرط الإعفاء ( [34] ) .
( [1] ) بعض المراجع : مازو في المسئولية المدنية التقصيرية والعقدية – سافاتبيه في المسئولية المدنية – بنكاز ( ملحق بودري ) جزء 2 – ديموج في الالتزامات جزء 6 – بالنيول وريبير وإسمان جزء 1 – بنواييه مذكرات لقسم الدكتوراه – هنرى مازو مذكرات لقسم الدكتوراه – جرانمولان رسالة من رن سنة 1892 – مينييه ( Meynie ) رسالة من ليل سنة 1924 – فإن رين ( Van ryn ) رسالة من بروكسل سنة 1933 – ماري مادلين ديفور ( Marie – mad . dufort ) رسالة من باريس سنة 1937 – رينولت ( Renault ) رسالة من باريس سنة 1938 – أميو ( Amiot ) رسالة من باريس غير مطبوعة سنة 1945 – رابيت ( Rabut ) رسالة من باريس غير مطبوعة سنة 1946 – ليفبفر ( Lefebvre ) مقال في المجلة الانتقادية سنة 1886 – إميل بيكيه ( Emile becque ) مقال في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1914 ص 251 – ص 320 – كروزيل ( Crouzel ) مقال في المجلة العامة سنة 1926 ص 11 وص 65 – هنري مازو مقال في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1929 ص 551 – إسمان مقال في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1933 ص 627 و ما بعدها – فيني ( vigny ) مقال في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1935 ص 42 وما بعدها – بيندكس ( Beindix ) مقال في المجلة الانتقادية سنة 1939 ص 657 – جاردينا ( Gardenat ) تعليق في الأسبوع القانوني ( Sem .jur ) 1939 – 1 – 102 – تونك ( Tune ) مقال في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1945 ص 235 وما بعدها – صليب سامي باشا مقال في المحاماة سنة 12 عدد ) – نصيف زكي بك مقال في المحاماة سنة 13 عدد 2 – نظرية العقد للمؤرلف فقرة 848 وما بعدها – الدكتور حلمي بهجت بدوي بك فقرة 286 وما بعدها – الدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك فقرة 361 وما بعدها .
( [2] ) سنحدد بالتفصيل نطاق المسئولية العقدية عند مقابلتها بالمسئولية التقصيرية ( أنظر ما يلي فقرة 513 ) .
( [3] ) ويترتب على ذلك ألا قيام للمسئولية العقدية إذا كان محل الالتزام العقدي هو دفع مبلغ من النقود ، فالتنفيذ العيني هنا ممكن دائماً ، ولا محل للمسئولية العقدية ( بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 687 ) .
( [4] ) وننبه إلى أن كثيراً من أحكام المسئولية التقصيرية تسرى على المسئولية العقدية . ونستطيع أن نقرر بوجه عام أن كل ما سيقال في المسئولية التقصيرية ينطبق على المسئولية العقدية . إذا إلا تعارض مع القواعد الخاصة التي تقررها في المسئولية العقدية . فمن المسائل التي تتحد فيها أحكام هذين النوعين من المسئولية : علاقة السببية والسبب الأجنبي – السبب المنتج والسبب المباشر – دعوى المسئولية – تقدير الضرر – التأمين من المسئولية إلخ إلخ .
( [5] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 288 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” 1 – في الالتزام بعمل إذا كان المطلوب من المدين هو أن يحافظ على الشيء ، أو أن يقوم بإدارته ، أو كان مطلوباً منه أن يتوخى الحيطة في تنفيذ التزامه ، فإن المدين يكون قد وفى بالالتزام إذا بذل في تنفيذه من العناية ما يبذله الشخص المعتاد ، حتى لو لم يتحقق الغرض المقصود – 2 – ومع ذلك يكون المدين قد وفى بالالتزام إذا هو بذل في تنفيذه من العناية ما يبذله في شؤونه الخاصة ، متى تبين من الظروف أن المتعاقدين قصدا ذلك . وفي كل حال يبقى المدين مسئولاً عما يأتيه من غش أو خطأ جسيم ” . وفي لجنة المراجعة أضيفت العبارة الآتية في آخر الفقرة الأولى : ” هذا ما لم ينص القانون أو الاتفاق على غير ذلك ” ، وحذف صدر الفقرة التالية اكتفاء بهذه الإضافة ، وأدخلت بعض تحويرات لفظية ، فأصبح النص مطابقاً لما ورد في القانون الجديد ، وأصبح رقمه المادة 217 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب . ثم وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وأصبح رقمه 211 . ووافق عليه مجلس الشيوخ . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 531 – ص 534 ) .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ترد المادة 288 صور الالتزام بعمل إلى طائفتين جامعتين . تنتظم أولاهما ما يوجب على الملزم المحافظة على الشيء أو إدارته أو توخى الحيطة في تنفيذ ما التزم الوفاء به ، وبعبارة أخرى ما يتصل الإلزام فيه بسلوك الملزم وعنايته . أما الثانية فيدخل فهيا ما عدا ذلك من صور العمل ، كالالتزام بإصلاح آلة . وتقتصر المادة 288 على حكم الطائفة الأولى ، فتحدد مدى العناية التي يتعين على المدين أن يبذلها في تنفيذ الالتزام . والأصل في هذه العناية أن تكون مماثلة لما يبذل الشخص المعتاد ، فهي بهذه المثابة وسط بين المراتب ، يناط بالمألوف في عناية سواد الناس بشؤونهم الخاصة . وعلى هذا النحو يكون معيار التقدير معياراً عاماً مجرداً ، فليس يطلب من المدين إلا التزام درجة وسطى من العناية ، أياً كان مبلغ تشدده أو اعتداله أو تساهله في العناية بشؤون نفسه . على أن نية المتعاقدين قد تنصرف إلى العدو عن هذا المعيار العام المجرد إلى معيار خاص معين . ومن ذلك ما يقع في الوكالة والوديعة غير المأجورة . فغالباً ما يستخلص من الظروف أن العناية التي يقصد اقتضاؤها من الوكيل أو الوديع هي عناية كل منهما بشؤونه الخاصة ، دون ا ، تجاوز في ذلك درجة العناية الوسطى به وعلى نقيض ذلك يقصد في عارية الاستعمال عادة إلى إلزام المدين ببذل ما يبذل من العناية في شؤونه الخاصة ، على ألا يقصر في ذلك عن درجة العناية الوسطى . ومتى تقررت درجة العناية الواجب اقتضاؤها من المدين ، اعتبر كل تقصير في بذل هذه العناية ، مهما يكن طفيفاً ، خطأ يرتب مسئولية المدين . ومهما يكن من أمر فمن المسلم أن المدين يسأل على وجه الدوام عما يأتي من غش أو خطأ جسيم ، سواء أكان معيار العناية الواجبة معياراً عاماً مجرداً أم خاصاً معيناً ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 532 – ص 533 ) .
( [6] ) وهذا التمييز لا يقتصر على الالتزامات العقدية ، فالالتزام بعدم الإضرار بالغير ، وهو التزام قانوني ، التزام ببذل عناية . والالتزام بعدم الإثراء على حساب الغير ، وهو أيضاً التزام قانوني ، التزام بعناية .
( [7] ) أنظر مازو 1 فقرة 669 – 2 والحواشي والمراجع المشار إليها في هذه الفقرة . وعند مازو يكون خطأ عقدياً في الالتزام بغاية ألا ينفذ المدين التزامه عمداً أو بإهماله أو بفعله . فلا توجد منطقة بين الإهمال والسبب الأجنبي هي انعدام الخطأ ( absence de faute ) ، وما لم يوجد سبب أجنبي فالخطأ العقدي قائم ليغطي منطقة الإهمال ومنطقة انعدام الخطأ معاً . وما يقوله الأستاذان صحيح ، بل صحيح أيضاً أن الخطأ العقدي يكون قائماً حتى مع وجود السبب الأجنبي ، فالسبب الأجنبي لا ينفي الخطأ بل ينفي علاقة السببية كما هو معروف . ( أنظر الدكتور سليمان مرقص في الأسباب القانونية للإعفاء من المسئولية المدنية ص 93 – ص 96 ) – ويقول مازو إن معيار الخطأ العقدي في الالتزام بتحقيق غاية هو بعينه معيار الخطأ التقصيري ، فعدم تحقيق الغاية المتفق عليها يعد انحرافاً عن السلوك المألوف للرجل المعتاد ، وسنرى أن هذا هو أيضاً معيار الخطأ التقصيري ( مازو 1 فقرة 673 – 2 ) .
( [8] ) وقد سجلت محكمة استئناف الإسكندرية الوطنية هذا المذهب في حكم حديث لها جاء فيه ما يأتي : ” إن الخطأ في المسئولية التعاقدية هو بذاته واقعة الإخلال التي يتكون منها وينحصر فيها عدم تنفيذ الالتزام ، وذلك طالما لم يثبت الملتزم قيام السبب الخارجي الذي يدعى به . وفي هذه الحالة يتبين أن تلك الواقعة وحدها هي كل ما يتعين على طالب التعويض إثباته ، وأنه متى قام بإثباتها فإنه يكون قد أثبت الخطأ الذي تبنى عليه مسئولية الملتزم . أما ما يتحقق به وجود الإخلال بالالتزام حتى يمكن القول بثبوته ، فإنه بالنسبة للالتزام بغاية – ومثله كما هو مقرر فقهاً الالتزام الضمني في عقد النقل بسلامة الراكب في أثنائه – ينحصر في مجرد فعل الإخلال ذاته أي عدم تنفيذ ما التزم به الملتزم ، دون نظر إلى ما قد يدعى بأنه قد بذله من جهد أو عناية أو احتياط لتحقيق الغاية التي تعهد بها ، لأن هاذ إنما يكون بالنسبة للالتزام بوسيلة حيث يقوم ثبوت الإخلال به على ما يبين من سلوك الملتزم ومطابقته لما يسلكه الرجل الحريص ( استئناف إسكندرية في 5 فبراير سنة 1950 المحاماة 30 رقم 276 ص 501 ) .
( [9] ) مازو 1 فقرة 694 والمراجع المشار إليها في هذه الفقرة .
( [10] ) مازو 1 فقرة 662 – 2 ص 619 – ص 620 .
( [11] ) التزام الطبيب بعلاج المريض ليس التزاماً بتحقيق غاية هي شفاء المريض ، بل هو التزام ببذل العناية الواجبة في علاج المريض وفقاً لأصول صنعة الطب .
( [12] ) أنظر مازو 1 فقرة 662 وما بعدها – بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 377 – الدكتور سليمان مرقص في الأسباب القانونية للإعفاء من المسئولية المدنية ص 89 – ص 97 – ومع ذلك قارن بلانيول وريبير وبولانجيه 2 فقرة 699 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 851 – الدكتور حلمي بهجت بدوي فقرة 296 – فقرة 303 وفقرة 315 – فقرة 321 .
وأصحاب الرأي الآخر يذهبون إلى أن عبء الإثبات يقع على المدين ، سواء كان ذلك في نطاق التنفيذ العيني أو كان في نطاق المسئولية العقدية . فالدائن يثبت الالتزام . وعلى المدين بعد هذا أ ، يثبت أنه قد قام بتنفيذه . فإن عجز عن ذلك حكم عليه بالتنفيذ العيني أو بالتعويض غير أنه في الالتزام ببذل عناية ، إذا عجز المدين عن إثبات أنه قد قام بتنفيذ التزامه ، فالغالب أن التنفيذ العيني يصبح مستحيلاً ، ولا يبقى إلا الحكم بالتعويض . فالمدين في المسئولية العقدية هو الذي يقع عليه إذن عبء الإثبات . أما في المسئولية التقصيرية فالدائن هو الذي يقع عليه عبء إثبات الخطأ التقصيري . ويبرر ذلك أن الخطأ التقصيري هو إخلال بالتزام قانوني عام بالامتناع عن الإضرار بالغير ، ولما كان هذا الالتزام يترتب في ذمة الناس كافة ، فمن المعقول أ ، نفرض أنه مرعى منفذ حتى يثبت الدائن أ ، شخصاً بالذات لم ينفذه . أما الخطأ العقدي فهو إخلال بالتزام عقدي مترتب في ذمة مدين بالذات ، فعلى هذا المدين أن يثبت أنه قد قام بتنفيذ التزامه طبقاً للقواعد المقررة في الإثبات ، وإلا ألزم بالتنفيذ العيني أو بالتعويض .
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف ، فإن أثره محدود من الناحية العملية . ففي العمل يبدأ الدائن بإثبات الالتزام . ثم هو لا يقف مكتوف اليد بعد ذلك ، ينتظر حتى يثبت المدين أنه نفذ الالتزام أو حتى يعجز عن هذا الإثبات ، بل هو يبادئ المدين مقدماً ما عنده من الأدلة على عدم تنفيذ الالتزام . والمدين من جهته لا ينتظر حتى يفرغ الدائن من تقديم ما عنده من الأدلة ، بل يتقدم بأدلته هو أيضاً ليثبت أنه قد قام بتنفيذ الالتزام . وهكذا يتقدم كل من الدائن والمدين بأدلته ، والقاضي يوازن ما بينها ، ويحكم لمن ترجح أدلته أدلة الآخر . فإن كان هو الدائن ، حكم له بالتنفيذ العيني أو بالتعويض بعد أن ثبت عنده أن المدين لم يقم بتنفيذ التزامه . وإن كان هو المدين ، رفض طلب الدائن بعد أن ثبت عنده أن المدين قد قام بتنفيذ الالتزام . ( قارن مازو 1 ص 645 – 653 ) .
( [13] ) القوانين المدنية : الكتاب الأول الباب الأول الفرع الثالث الفقرة الرابعة .
( [14] ) الالتزامات فقرة 142 .
( [15] ) أنظر مازو 1 فقرة 659 – فقرة 661 ، وأنظر في هامش فقرة 659 عرضاً للآراء المختلفة في محاولة التوفيق ما بين النصين – الدكتور سليمان مرقص في الأسباب القانونية للإعفاء من المسئولية المدنية ص 74 – ص 100 – وقارن نظرية العقد للمؤلف فقرة 851 .
( [16] ) أما القانون المصري القديم فلم يتضمن نصين يقابلان تماماً نصي القانون الفرنسي المتقدم ذكرهما ، وإن كان قد أورد في بعض نصوصه ما يفيد أن المدين لا يكون مسئولاً عن عدم تنفيذ التزامه إلا إذا كان عدم التنفيذ بخطأ منه ( أنظر المواد 119 / 177 و 177 – 178 / 240 – 241 ) . ولكن الفقه والقضاء في مصر ، في ظل القانون القديم ، كانا يفسران هذه النصوص بما تفسر به المادة 1147 من القانون المدني الفرنسي ، فكان عدم تنفيذ المدين لالتزامه في العقد يعد خطأ في جانبه ( أنظر الدكتور سليمان مرقص في الأسباب القانونية للإعفاء من المسئولية المدنية ص 107 – ص 112 ) .
( [17] ) أما القانون المصري القديم فلم يتضمن نصاً كنص المادة 1137 من القانون المدني الفرنسي ، ولكنه كان في العقود المختلفة يطلب تارة عناية الشخص بملكه ( مثلاً المادتان 376 / 461 في الإيجار والمادتان 482 / 590 في الوديعة ) ، ويطلب طوراً العناية التامة فيحاسب حتى على الخطأ اليسير ( مثلاً 468 – 469 / 569 – 571 في عارية الاستعمال ) ، فلم يكن واضحاً لا في إثبات نظرية تدرج الخطأ ولا في نفيها .
( [18] ) أنظر مثلاً المادة 521 في الشركة ، والمادة 583 فقرة 1 في الإيجار ، والمادة 641 في العارية ، والمادة 685 في عقد العمل ، والمادة 704 في الوكالة ، والمادة 720 في الوديعة .
( [19] ) وهذه بعض أمثلة تشريعية من القانون الجديد للمسئولية العقدية في بعض العقود المسماة : عقد البيع ( التزام البائع بتسليم المبيع هو التزام بغاية م 431 و 437 و 438 – والتزام البائع بضمان الاستحقاق وبضمان العيوب الخفية هو التزام بغاية م 439 و 447 ) – عقد الإيجار ( التزام المستأجر بالمحافظة على العين المؤجرة هو التزام بعناية م 583 – والتزام المستأجر بالمحافظة على العين من الحريق هو التزام بغاية م 584 – والتزام المستأجر برد للعين المؤجرة هو التزام بغاية م 590 ) – عقد العارية ( التزام المعير بتسليم العين التزام بغاية م 636 – والتزام المستعير بالمحافظة على العين التزام بعناية م 641 – والتزام المستعير برد العين التزام بغاية م 642 ) – عقد الوكالة ( التزام الوكيل بتنفيذ الوكالة التزام بعناية م 704 ) – عقد الوديعة ( التزام المودع عنده بالمحافظة على العين التزام بعناية م 720 – والتزام المودع عنده برد العين التزام بغاية م 722 ) – عقد رهن الحيازة ( التزام الدائن المرتهن بالمحافظة على الشيء المرهون التزام بعناية والتزام برده التزام بغاية م 1103 وقد تضمنت الالتزامين معاً ) .
( [20] ) أنظر المادة 571 فقرة 2 من القانون المدني الجديد .
( [21] ) وهو نص المادة 174 الذي يقرر مسئولية المتبوع عن تابعه .
( [22] ) أنظر أيضاً في مسئولية المستأجر نحو المؤجر عن أعمال المستأجر من الباطن أو المتنازل له عن الإيجار المواد 595 – 597 .
( [23] ) أنظر في المسئولية العقدية عن البواب ، في صديد مسألتين هامتين هما سرقة ؟ المراسلات ، مازو 1 فقرة 997 – 2 .
( [24] ) أنظر في الموضوع مازو 2 ص 325 – ص 341 .
( [25] ) تاريخ النص : ورد هاذ النص في المادة 295 من المشروع التمهيدي على وجه مماثل بخلاف لفظي طفيف . وقد أدخل هذا التعديل اللفظي في لجنة المراجعة فأصبح النص مطابقاً للنص الوارد في القانون الجديد ، وأصبح رقم النص هو المادة 224 في المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب ، ثم لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 217 ، ثم مجلس الشيوخ . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 552 – ص 554 ) .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ليست أحكام المادة 295 إلا تقنينا للقواعد التي جرى القضاء المصري على إتباعها في هذا الشأن . فقد يجعل عبء المسئولية أشد وقراً بالاتفاق على تحمل تبعة الحادث الفجائي ، وبهذا يكون المدين مؤمناً للدائن من وجه . وقد تخفف المسئولية ، على نقيض ذلك ، باشتراط الإعفاء من تبعة الخطأ التعاقدي ، إلا أن تكون قائمة على غش أو خطأ جسيم ، فليس للأفراد حرية مطلقة في الاتفاق على تعديل أحكام المسئولية ، فكما أن الاتفاق على الإعفاء من الخطأ الجسيم والغش لا يجوز في المسئولية التعاقدية ، كذلك يمتنع اشتراط الإعفاء من المسئولية التقصيرية ، أياً كانت درجة الخطأ ، ويعتبر مثل هذا الاشتراط باطلاً لمخالفته للنظام العام . على أن ذلك لا ينفي جواز التأمين على الخطأ ، ولو كان جسيماً ، بل وفي نطاق المسئولية التقصيرية ذاتها ، متى كان لا يرتفع إلى مرتبة الغش . كما أن للأفراد أن يتفقوا على الإعفاء من المسئولية الناشئة عن خطأ من يسألون عن أعمالهم ، بل وعن الغش الواقع من هؤلاء ، سواء أكانت المسئولية تعاقدية أم تقصيرية ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 553 ) .
( [26] ) أنظر آنفاً فقرة 428 – وأنظر تاريخ النص في هامش هذه الفقرة .
( [27] ) استئناف مختلط في 5 فبراير سنة 1918 م 30 ص 209 .
( [28] ) استئناف مختلط في 21 ديسمبر سنة 1894 م 7 ص 11 – وفي 16 نوفمبر سنة 1898 م 11 ص 14 – وفي 30 ديسمبر سنة 1908 م 21 ص 93 – والتون 2 ص 270 – ص 272 – الدكتور عبد السلام ذهني بك فقرة 273 – الدكتور محمد صالح بك في أصول التعهدات فقرة 47 .
وفي عقود النقل كان القضاء المصري يحرم الإعفاء من المسئولية عن العمد والخطأ الجسيم ( استئناف مختلط في 31 يناير سنة 1917 جازيت 7 رقم 322 ص 73 ) . وكان من شأن الإعفاء من المسئولية عن الخطأ اليسير أ ، ينقل عبء الإثبات فيجعله في جانب الدائن كما كان الأمر في فرنسا قبل قانون رايبيه ( Rabier ) ( استئناف مختلط في 2 أبريل سنة 1896 م 8 ص 198 – وفي 18 يناير سنة 1900 م 12 ص 90 – وفي 16 مايو سنة 1900 م 12 ص 251 ) . ولكن قضت محكمة الاستئناف المختلطة بعد ذلك بأ ، شرط الإعفاء من المسئولية في عقود النقل غير جائز حتى عن الخطأ اليسير ، بل ليس من شأن هذا الشرط أن ينقل عبء الإثبات إلى الدائن ( استئناف مختلط في 8 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 45 – قارن استئناف مختلط في 12 مايو سنة 1920 م 32 ص 320 – أنظر والتون 2 ص 279 – ص 280 ) . وبذلك سارت محكمة الاستئناف المختلطة على حكم قانون رايبيه دون أن يكون في مصر قانون مماثل ، وذلك لاعتبارات خاصة في عقود النقل تجعل التشددي في مسئولية أمين النقل أمراً مرغوباً فيه ( أنظر في هذه الاعتبارات والتون 2 ص 280 – ص 283 ) . وقد تصلح نظرية عقود الإذعان سبباً لإبطال الإعفاء من المسئولية في عقود النقل .
أما الإعفاء الاتفاقي من المسئولية العقدية عن عمل الغير في الخطأ اليسير فجائز في مصر في القضاء والفقه ( استئناف مختلط في 2 أبريل سنة 1896 م 8 ص 198 – والتون 2 ص 272 – ص 274 ) . وإذا كان خطأ الغير جسيماً أو عمدياً ، فكان القضاء في مصر لا يجيز الإعفاء من المسئولية ( استئناف مختلط في 16 نوفمبر سنة 1898 م 11 ص 14 – وفي 31 يناير سنة 1917 جازيت 7 رقم 222 ) ، ويجيزه الفقه في الخطأ الجسيم ( والتون 2 ص 271 – ص 272 ) ، والقانون المدني الجديد يجيزه حتى في العمد كما بينا ( قارن مازو 3 فقرة 2527 ) . هذا ولا يعتبر خطأ من عمل الغير خطأ مدير الشركة ، فالمدير أداة ( oragane ) الشركة لا وكيل عنها ، فلا يجوز للشركة أ ، تعفى نفسها من العمد أو الخطأ الجسيم إذا صدر من مديرها . ولكن يجوز أن تعفى نفسها من العمد أو الخطأ الجسيم إذا صدر من عمالها .
( [29] ) تدرج مقدار العناية المطلوبة من المدين ، بحيث تندرج المسئولية معها عن أخطاء متدرجة ، من الفعل العمد إلى الخطأ الجسيم إلى الخطأ اليسير كثافة ، هو القدر الذي يصلح للبقاء في رأينا من نظرية تدرج الخطأ المهجورة . أما توزيع هذه الأخطاء المتدرجة على طوائف مقسمة من العقود ، وهو الأساس الذي قامت عليه هذه النظرية ، فهذا هو الذي ظهر فساده وكان السبب في هجر النظرية .
( [30] ) ويقع عبء الإثبات في المسئولية العقدية المخففة على الدائن ، وقد رأينا أن هذا العبء يقع عليه في المسئولية العقدية الكاملة ، فأولى أن يقع في المسئولية المخففة . ففي عقد النقل – حيث يلتزم أمين النقل بسلامة الراكب ، والتزامه التزام غاية فيكون مسئولاً إلا إذا أثبت السبب الأجنبي – إذا اشترط أمين النقل إعفاءه من المسئولية العقدية وأمكن تفسير ذلك على أنه إعفاء من المسئولية عن الفعل المجرد من الخطأ وعن الخطأ التافه ، فلا يكون أمين النقل مسئولاً إلا إذا أثبت الراكب في جانبه خطأ يسيراً ، ومن ثم يصبح عبء الإثبات على الراكب لا على أمين النقل . أما القضاء الفرنسي فيذهب هذا المذهب ، ولكن على أساس أن شرط الإعفاء من المسئولية يسقط المسئولية العقدية ، فتبقى المسئولية التقصيرية إذا أثبت الراكب خطأ في جانب أمين النقل . وعيب هذا التأسيس أنه يسمح بالخيرة بين المسئولية العقدية والمسئولية التقصيرية ، وسنرى عند الكلام في المسئولية التقصيرية أنه لا خيرة بين المسئوليتين ، وأن المسئولية العقدية إذا تحققت لا تفسح للمسئولية التقصيرية مكاناً إلى جانبها ( أنظر في هذا الموضوع مازو 3 فقرة 2545 وما بعدها ) . وسنعود إلى هذه المسألة فيما يلي ( فقرة 441 ) .
( [31] ) قارن مازو 3 فقرة 2527 – ويرى الأستاذان أن المدين ، يستطيع أن يشترط إعفاءه من الفعل العمد أو الخطأ الجسيم حتى لو كان صادراً من الغير ، لأن الخطأ الصادر من الغير يعتبر صادراً منه هو .
( [32] ) هذه القواعد التي بسطناها في الإعفاء الاتفاقي من المسئولية العقدية في حاجة إلى مزيد من التأمل في فروض ثلاثة ، حيث تستهدف لاعتراضات يسهل دفعها :
( أ ) قد تشترط شركة إعفاءها من المسئولية العقدية عن الغش أو الخطأ الجسيم الصادر من مديرها . وقد أخذ على قواعد الإعفاء الاتفاقي المتقدم ذكرها أنها تجعل هذا الشرط صحيحاً لأنه إعفاء من المسئولية عن فعل الغير ، وكان الواجب أ ، شرطاً كهذا لا يصح . وردها على ذلك ما قدمناه من أن مدير الشركة لا يعتبر وكيلاً عنها ، بل يعتبر أداة لها ( organe ) ، فمسئولية الشركة عن فعله تعتبر مسئولية عن فعل شخصي لا عن فعل الغير ، فلا يجوز إذن للشركة أن تعفى نفسها من المسئولية عن الغش أو الخطأ الجسيم الصادر منها أو من مديرها ، فهذا وذاك بمنزلة سواء .
( ب ) تستطيع شركات النقل أن تعفى نفسها من المسئولية عن السرقات التي ترتكبها عمالها ، إذ أن هذا يعتبر إعفاء من المسئولية عن فعل الغير وهو صحيح وفقاً للقواعد المتقدم ذكرها . وردنا على ذلك أن مثل هذا الشرط إذا فرضته شركات النقل الكبرى على عملائها يعتبر شرط إذعان يجوز للقاضي إبطاله وفقاً للمادة 149 .
( ج ) يستطيع المدين أ ، يعفى نفسه من المسئولية العقدية عن الضرر الذي يحدثه بالدائن في جسمه بخطأه اليسير ، ويكون الإعفاء صحيحاً طبقاً للقواعد المتقدم ذكرها ، مع أن هناك ميلاً إلى جعل الإعفاء من المسئولية لا يجوز إلا في الضرر الذي يلحق المال دون الجسم ( أنظر مازو 3 فقرة 2529 وما بعدها ) . وعلاج ذلك أ ، نميز بين ما إذا ورد هذا الشرط في عقد من عقود الإذعان ، كعقد النقل أو العقد الذي يتم بين الطبيب والمريض ، فيجوز للقاضي أن يبطله ، وما إذا ورد في غير عقود الإذعان فيصح ، والقضاء الفرنسي يعتبر الشرط صحيحاً في جميع الأحوال . ويحسن ، بالنسبة إلى عقد النقل ، أن يصدر في شأنه تشريع خاص يواجه ملابساته المختلفة .
( [33] ) هذا وقد قدمنا أنه يمكن تفسير الإعفاء من المسئولية العقدية في بعض العقود ، وبخاصة في عقد النقل ، على أنه إعفاء من الفعل المجرد من الخطأ ومن الخطأ التافه ، فإذا استقام هذا التفسير في عقد ، جاز القول في نظرنا إن مسئولية المدين العقدية – لا التقصيرية – تحقق إذا أثبت الدائن في جانب المدين خطأ يسيراً . ويكون الخطأ في هذه الحالة خطأ عقدياً لا خطأ تقصيرياً ( أنظر سابقاً فقرة 440 في الهامش ) . ولكن يغلب أن يتناول شرط الإعفاء من المسئولية العقدية كل ما يمكن الإعفاء منه في هذه المسئولية ، فيشمل المسئولية عن الفعل المجرد من الخطأ وعن الخطأ النابع عن الخطأ اليسير ، دون المسئولية عن الفعل العمد أو الخطأ الجسيم ، فهذان لا يجوز الإعفاء من المسئولية عنهما كما قدمنا .
( [34] ) مازو 3 فقرة 2562 – فقرة 2564 . وهذا إلا إذا ثبت أن شرط الإعفاء من المسئولية العقدية كان هو الدافع إلى التعاقد ، فيبطل العقد كله ، ولا يتحقق هذا نادراً .
وتسري القواعد التي قدمناها في صورتين تعتبران إعفاء اتفاقياً محوراً من المسئولية العقدية : ( الصورة الأولى ) أن يشترط المدين في المسئولية العقدية ألا تجاوز مسئوليته ، إذا تحققت ، مبلغاً معيناً من المال أقل من الضرر الذي وقع . ولكن يشترط أ ، يكون المبلغ المتفق عليه جدياً ، لا رمزياً يقصد به الإعفاء الكامل من المسئولية . أما إذا قصد أن يكون المبلغ معادلاً للضرر ، فهذا هو الشرط الجزائي . ( والصورة الثانية ) أن يشترط المدين في المسئولية العقدية مدة لتقادم التزامه العقدي تكون أقصر من المدة المقررة قانوناً .
نقلا عن محامي أردني