حجية الإقرار
253 – النصوص القانونية : تنص المادة 409 من التقنين المدنى على ما يأتى :
” 1 – الإقرا حجة قاطعة على المقر ” .
” 2 – ولا يتجزأ الإقرار على صاحبه ، إلا إذا انصب على وقائع متعددة وكان وجود واقعة منها لا يستلزم حتماً وجود الوقائع الأخرى ( [1] ) ” .
497
ويقابل هذا النص فى التقنين المدنى السابق المادة 233 / 298 ( [2] ) .
ويقابل فى التقنينات المدنية العربية الأخرى : فى قانون البينات السورى المادتين 100 – 101 ، وفى التقنين المدنى العراقى المادتين 469 – 470 ، وفى تقنين أصول المحاكمات المدنية اللبنانى المادتين 266 – 227 ، وفى التقنين المدنى الليبى المادة 397 ( [3] ) .
498
ويقابل فى التقنين المدنى الفرنسى المادة 1356 ( [4] ) .
254 – مسائل ثلاث : ويتبين من نص التقنين المدنى السالف الذكر أن الإقرار حجة قاطعة على المقر ، وهو أيضاً حجة قاصرة عليه . ثم إن الإقرار فى الأصل لا يتجزأ على صاحبه ، ومع ذلك يتجزأ الإقرار إذا انصب على وقائع متعددة دون أن يستلزم وجود واقعة منها وجود الوقائع الأخرى .
فعندنا إذن مسائل ثلاث : ( 1 ) الإقرار حجة قاطعة على المقر . ( 2 ) الإقرار حجة قاصرة على المقر . ( 3 ) تجزئة الإقرار .
المبحث الأول
الإقرار حجة قاطعة على المقر
255 – الإقرار حجة قاطعة على المقر لا يقبل إثبات العكس ، وهو ذو أثر كاشف : إذا توافر للإقرار أركانه على الوجه الذى بيناه ، صار إقراراً قضائياً ، وكان حجة قاطعة على المقر . ومعنى ذلك أن الواقعة التى أقر بها الخصم تصبح فى غير حاجة إلى الإثبات ، ويأخذ بها القاضى واقعة ثابتة بالنسبة إلى الخصم الذى أقر بها ( [5] ) . والإقرار لا يكون حجة للمقر لأن الشخص 499 لا يصطنع الدليل لنفسه ، ولا يكون إلا حجة عليه .
والحجة هنا قاطعة ، لا يجوز إثبات عكسها . ولكن هذا لا يمنع من أن يطعن المقر فى إقراره بأنه صورى تواطأ عليه مع خصمه ، أو أنه وقع نتيجة غلط أو تدليس أو إكراه ، أو أنه صدر منه وهو ناقص الأهلية . فإذا أثبت ذلك بالطرق الجائزة قانوناً بطل الإقرار ، ولا يكون هذا رجوعاً فى إقرار موجود ، بل هو إلغاء لإقرار ظهر بطلانه . أما الإقرار القائم الصحيح فلا يجوز الرجوع فيه ، ولا يجوز إثبات عكسه ، فهو إذن حجة قاطعة على المقر ( [6] ) .
وأثر الإقرار كاشف لا منشئ . وقد قضت محكمة النقض بأن الإقرار لا يكون سبباً لمدلوله ، وإنما هو دليل تقدم الاستحقاق عليه فى زمن سابق . فحكمه ظهور ما أقر به المقر ، لا ثبوته ابتداء ( [7] ) .
256 – تأصيل الحجية القاطعة للإكراه – إعفاء الخصم من الإثبات ونزول عن مطالبته به : واختلف النظر فى تأصيل الحجية القاطعة للإقرار . فالفقيهان أوبرى وروى – ومعهما أكثر الفقهاء – يذهبان إلى أن الإقرار هو قلب لعبء الإثبات ( renversement de la charge de preuve ) ، وبعد أن كان من يدعى وقاعة يطالب بإثباتها ، فإن إقرار خصمه بهذه الواقعة ينقل عبء الإثبات منه إلى المقر . والمقر بعد إقراراه هو الذى يحمل إثبات أن إقراره غير صحيح ، وذلك بالطعن فى الإقرار بوجه من الوجوه التى تقدم ذكرها . ولما كانت 500 هذه الوجوه يندر تحققها ، فقل أن يكون الإقرار صورياً وقل أن يشوبه عيب أو نقص فى الأهلية ، فإن الإقرار يصبح إذن ، فى الكثرة الغالبة من الأحوال ، ليس قلباً لعبء الإثبات فحسب ، بل إعفاء من الإثبات ( dispense de preuve ) . ذلك أن الخصم إذا ادعى واقعة وجب عليه إثباتها . فإذا أقر إذا ادعى واقعة وجب عليه إثباتها . فإذا أقر خصمه بهذه الواقعة ، كان هذا معناه أنه يعفيه من هذا الإثبات . فتصبح الواقعة ثابتة ، لا لأن دليلاً أثبتها ، بل لأنها فى غير حاجة إلى الإثبات ( [8] ) .
ويضيف بارتان ( [9] ) إلى ذلك أن التأصيل على النحو المتقدم يتضمن حتماً أن المقر ، وهو يعفى خصمه من إثبات ما يدعيه ، ينزل فى الوقت ذاته عن حقه فى مطالبة خصمه بهذا الإثبات . وهذا هو التأصيل الذى وقفن عنده ، عندما قررنا أن الإقرار واقعة قانونية تتضمن تصرفاً قانونياً هو نزول المقر عن حقه فى مطالبة خصمه بالإثبات ( [10] ) .
501
257 – قد يكون الإقرار مبدأ ثبوت بالكتابة : وإذا كان الإقرار حجة قاطعة بالوقعة التى تضمنها بالذات ، فإنه يصلح أيضاً أن يكون مبدأ ثبوت بالكتابة لواقعة متصلة بالواقعة التى تضمنها بالذات . وقد سبق إيراد هذه القاعدة وأمثلتها . ويسوق أوبرى ورو لها مثلاً إقرار الزوج بتوكيل زوجته بقبض الفوائد ، فهذا الإقرار حجة قاطعة بالنسبة إلى واقعة التوكيل بقبض الفوائد ، ومبدأ ثبوت بالكتابة بالنسبة إلى واقعة التوكيل بقبض رأس المال ( [11] ) . وسنرى أيضاً فيما يلى أن الإقرار غير القابل للتجزئة – الإقرار الموصف وبعض صور الإقرار المركب – إذا كانت تجزئته غير ممكنه ، فإن هذا لا يحول دون اعتبار مبدأ ثبوت بالكتابة ( [12] ) .
( [1] ) تاريخ النص : ورد هذا النص فى المادة 547 من المشروع التمهيدى على وجه مطابق لما استقر عليه فى التقنين الجديد ، عدا الفقرة الأولى فقد كانت فى المشروع التمهيدى على الوجه الآتى : ” الإقرار حجة قاطعة على من صدر منه ” ، فحورت فى لجنة المراجعة تحويراً لفظياً وأصبحت : ” الإقرار حجة قاطعة على المقر ” . وأصبح رقم المادة 422 من المشروع النهائى . وأقرها مجلس النواب ، ثم لجنة مجلس الشيوخ تحت رقم 409 ، ثم مجلس الشيوخ ( مجموعة الأعمال التحضيرية 3 ص 435 وص 441 ) .
( [2] ) كانت المادة 233 / 298 من التقنين المدنى السابق تجرى على الوجه الآتى : ” لا يتجزأ الإقرار الحاصل من الخصم بالمحكمة ، سواء كان من تلقاء نفسه أو بعد استجوابه ، بمعنى أنه لا يؤخذ الضار منه بالمقر ويترك الصالح له ” . والتقنين الجديد ، كما نرى ، أدق صياغة وأشمل حكماً . ولكن لا فرق فى الأحكام ما بين التقنينين الجديد والقديم .
( [3] ) التقنينات المدنية العربية الأخرى : قانون البينات السورى م 100 : الإقرار حجة قاصرة على المقر – م 101 : مطابقة للفقرة الثالثة من المادة 409 من التقنين المصرى . ( وقد عرض القانون السورى فى حجية الإقرار إلى قصروها على المقر لا إلى قطعيتها ، وكل من القصور والقطعية من خصائص الإقرار ) .
التقنين المدنى العراقى م 469 : الإقرار حجة قاصرة على المقر – م 470 : مطابقة للفقرة الثانية من المادة 409 من التقنين المصرى ، ( والتقنين العراقى مطابق لقانون البينات السورى ) .
تقنين أصول المحاكمات المدنية اللبنانى م 226 : يسمى الإقرار موصوفاً عندما يقتصر على الفعل الذى صرح به الفريق الآخر إلا أنه يفسد نتائجه القانونية بما يشتمل عليه من البيانات الإضافية . وهذا الإقرار يفيد الثبوت التام فيما يختص بالفعل الأصلى ، أما البيانات الإضافية فتعد ثابتة إلى أن يثبت عكسها – م 227 : يسمى الإقرار مركباً عندما يكون واقعاً على الفعل الأصلى وعلى فعل آخر معاً ، ويكون غير قابل للتجزئة فى حالة واحدة وهى إذا كان الفعل الجديد يقدر معه وجود الفعل الأصلى كأن يعترف المديون الذى أقيمت عليه دعوى الإيفاء بأنه اقترض المبلغ المدعى به ولكنه يزيد على اعترافه أنه أوفاه فيما بعد ، فالقاضى يعد فعل الاقتراض ثابتاً على وجه نهائى ، أما الإيفاء فيعد ثابتاً إلى أن يثبت عكسه . ( وهذه الأحكام تتفق مع أحكام القانون المصرى ، وإن كانت أكثر تفصيلاً ولها صبغة فقهية واضحة ) .
التقنين المدنى للمملكة الليبية المتحدة م 397 : 1 – الإقرار حجة قاطعة على المقر 2 – وإذا اقترن الإقرار الصادر من أحد الطرفين عن وقائع ليست لصالحه بالتصريح بوقائع أخرى أو بظروف يراد منها الحد من أثر الواقعة المقر بها أو تغييرها أو إزالة آثارها ، فلكامل الإقرار وما اقترن به قوة البينة الكاملة إذا لم يطعن الطرف الآخر فى صحة ما أضيف من وقائع أو ظروف . ويترك للقاضى عند الاختلاف ، تقدير قوة الإقرار كبينة . ( ومن ذلك نرى أن التقنين الليبى ترك للقاضى تقدير ما إذا كان الإقرار يتجزأ على صاحبه أو لا يجزأ ، ولم يضع لذلك معيراً تشريعياً كما فعل التقنين المصرى ) .
( [4] ) التقنين المدنى الفرنسى م 1356 : وهو ( الإقرار ) حجة قاطعة على من صدر منه . ولا يجزأ عليه . ولا يجوز له الرجوع فيه إلا إذا ثبت أنه صدر عن غلط فى الواقع ، أما الغلط فى القانون فلا يصلح حجة للرجوع .
Art . 1356 el . 2 et 3 : Il fait pleine foi contre celui qui l’a fait . Il ne peut etre divise contre lui . Il ne peut etre revoque, a moins qu’on ne prouve qu’il a ete la suite d’une erreur de fait . Il pourrait etre revoque sous pretext d’une erreur de droit .
( [5] ) والقاضى قد يأخذ بالإقرار فيما يكون من غير اختصاصه . وقد قضت محكمة النقض بأنه وإن كان القاضى المدنى ممنوعاً من أن يضع نفسه موضع القاضى الشرعى فى تحقيق الوفاة والوراثة بطريق التحريات وسماع الشهود واستدعاء الورثة لسماع أقوالهم ثم التقرير بالوراثة بناء على ما يثبت له – أنه وإن كان ممنوعاً من ذلك ، له ، ابتغاء التحقيق من صفة الخصوم فى الدعوى المطروحة أمامه ، أن يأخذ فى إثبات الوراثة بإقرار أحد الخصمين فى مجلس القضاء ، سواء أكان ذلك الإقرار حصل أمامه أم أمام غيره ودون فى ورقة رسمية ، وذلك دون أن يرسل أولئك الخصوم أمام المحكمة الشرعية للفصل فى أمر الوراثة . وأخذه بهذا الإقرار لا افتيات فيه على اختصاص القاضى الشرعى لدخوله فيما له من الحق فى تقدير الدليل المقدم فى الدعوى التى تحت نظره ( نقض مدنى 26 مايو سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 49 ص 108 ) .
( [6] ) انظر الأستاذ سليمان مرقس فى أصول الإثبات فقرة 113 .
( [7] ) نقض مدنى 6 فبراير سنة 1936 مجموعة عمر 1 رقم 323 ص 1046 – وقضت أيضاً بأنه متى أثبتت محكمة الموضوع فى حكمها أن الإقرار المسند للمقر هو إخبار صادق عن حقيقة واقعية لا شبه فيها ولا شك ، فلا يضير هذا الإخبار الصحيح أن يكون قد أعطى شكل عقد بيع ( نقض مدنى 23 مايو سنة 1935 مجموعة عمر 1 رقم 269 ص 798 ) .
( [8] ) ويبدو أن محكمة النقض تذهب هذا المذهب ، فقد قضت بأن القانون يكلف المدعى إقامة الدليل على دعواه ، إلا إذا سلم له خصمه بها أو ببعضها ، فإنه يعفيه من إقامة الدليل على ما اعترف به . فإذا اعترف شخص بأن الأرض موضوع النزاع أصلها من أملاك الحكومة الخاصة ولكنه تملكها بالتقادم ، ثم بحثت المحكمة مع ذلك مستندات ملكية أصلها من أملاك الحكومة الخاصة ولكنه تملكها بالتقادم ، ثم بحثت المحكمة مع ذلك مستندات ملكية الحكومة لها وقضت بعدم كفايتها لإثبات الملكية ، فإنها تكون قد خالفت القانون باقتضائها دليلاً على أمر معترف به ( نقض مدنى 23 نوفمبر سنة 1933 مجموعة عمر 1 رقم 143 ص 260 ) .
( [9] ) بارتان فى تعليقاته على أوبرى ورو 12 فقرة 751 ص 116 هامش رقم 18 مكرر .
( [10] ) غير أن بارتان لا يكتفى بهذا التأصيل حتى مع هذه الإضافة ، فإن الإقرار إذا اعتبر نزولاً عن حق المطالبة بالإثبات يكون عندئذ دليلاً سلبيا . ويقول بارتان ( أوبرى ورو 12 فقرة 751 ص 116 هامش رقم 18 مكرر ) : ولكن الواقع هو أن الإثبات دليل إيجابى ، فإن المقر لا يقتصر على النزول عن حقه فى مطالبة المدعى بالإثبات ، بل هو أيضاً يقدم دليلاً إيجابياً على صحة الواقعة المدعى بها ، وذلك عن طريق الإقرار – إذ الإقرار يتضمن واقعتين : واقعة الإقرار ذاتها ( le fait de l’aveu ) ، والواقعة المعترف بها ( le fait avoue ) . فواقعة الإقرار ذاتها هى الثابتة بقول المقر . ولا يمكن تعليلها بأفضل من أنها مطابقة للواقعة المعترف بها ، وإلا لما اعترف بها المقر وهى ضد مصلحته . ومن ثم تكون واقعة الإقرار ( le fait de l’aveu ) قرينة قانونية قاطعة على صحة الواقعة المعترف بها ( le fait avoue ) . ( انظر أيضاً فى هذا المعنى بلانيول وريبير وجابولد 7 فقرة 1562 ص 1035 – ص 1036 دى باج 3 ص 1037 – ص 1038 ) . ولهذا عد التقنين المدنى الفرنسى فى المادة 1350 الإقرار ضمن القرائن القانونية .
وقد جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى فى هذه المسألة ما يأتى : ” والأصل وجوب إقامة الدليل على كل واقعة قانونية إذا نوزعت أو أنكرت . ولما كان الإقرار اعترافاً بواقعة قانونية ، فهذه الواقعة لا يجب بعد ذلك إثباتها ، لأنها ليست متنازعة أو مجحودة ، بل هى مسلمة معترف بها ، فالإقرار ليس دليلاً بمعنى الكلمة ، بل هو وسيلة تقيل من الالتجاء إلى طرق الإثبات التى شرعها القانون ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 432 ) .
( [11] ) أوبرى ورو 12 ص 128 هامش رقم 35 .
( [12] ) نقض مدنى 9 يونيه سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 433 ص 797 – أوبرى ورو 12 ص 128 .
المصدر: محامي في الأردن