طرق الاثبات ذات القوة المطلقة
الـكتابة
66 ـ الورقة والسند والتصرف : يقوم لبس فى لغة القانون الفرنسية من شأنه أن يخلط ما بين التصرف وأداة إثباته ، فالشيئان يطلق عليهما لفظ واحد ، هو لفظ (acte) . وقد تسرب هذا اللبس إلى لغة القانون العربية ، فأطلق لفظ (( العقد )) على التصرف ، ثم استعمل اللفظ عينه فى أداة إثباته فقيل ((عقد رسمى)) و ((عقد عرفى)) وقصد بذلك الورقة الرسمية أو العرفية الورقة التى تعد لإثبات التصرف ([1]) .
وحتى لا يقوم هذا اللبس نقصر لفظ (( العقد )) على الوع المعروف من التصرفات القانونية . أما أداة الإثبات فلها لفظان فى اللغة العربية : السند والورقة . ولما كان لفظ ((الورقة)) أعم فى المعنى من لفظ ((السند)) إذ السند معناه كما قدمنا الورقة المعد للاثبات ، أى الدليل المهيأ (prevue preconstituee) ، فالأولى أن نقف عند لفظ ((الورقة)) ، فنستعمل هذا اللفظ فى الأجلة الكتابية جميعاً ، سواء أعدت للإثبات أو لم تكن معدة . ونقول ((الورقة الرسمية )) ((والورقة العرفية)) ، قاصدين بذلك الدليل الكتابي الذى يثبت به التصرف ولو لم يكن معداً للإثبات ، كالرسائل والبرقيات والدفاتر التجارية . وفرق ما بين التصرف والورقة المثبتة له ، فقد يكون التصرف صحيحاً والورقة باطلة ، $106 وعلى العكس من ذلك قد يكون التصرف باطلا الورقة صحيحة ([2]) .
67 ـ أنواع الاوراق وقوتها فى الاثبات : والأوراق ـ كأداة للإثبات ـ قسمان : (1) أوراق رسمية (actes authentiques) ، ويقوم بتحريرها موظف عام محتص وفقاً لأوضاع مقررة . وهى كثيرة متنوعة : منها الأوراق الرسمية المدنية كتلك التى تثبت العقود والتصرفات المدنية ، ومنها الأوراق الرسمية العامة كالقرارات الإدارية والقوانين والمعاهدات ،ومنها الأوراق الرسمية القضائيةكعرائض الدعوى وأوراق المحضرين ومحاضر الجلسات والأحكام ـ (2) أوراق عرفية (actes sous seing prive) ، ويقوم بتحريرها الأفراد فيما بينهم . وهى نوعان : (1) أوراق معدة للإثبات كالأوراق المعدة لإثبات التصرفات القانونية من بيع وإيجار ونحوهما وتسمى أيضاً (( بالسندات )) (ب) وأوراق غير معدة للإثبات كدفاتر التجار والدفاتر والأوراق المنزلية والرسائل والرقيات .
والكثرة الغالبة من الأوراق الرسمية والعرفية هى (( سندات )) أو أوراق معدة للإثبات ، فهى دليل مهيأ (prevue preconstituee) ، وقد تقدم ذكر ذلك ([3]) . والأصل أن الورقة التى تعد لإثبات تصرف تكتب عقب إبرام هذا التصرف ، فالمتبايعان مثلا يبرمان عقد البيع فيما بينهما ثم يعدان ورقة لإثباته . ولكن يقع كثيراً أن المتعاقدين يبرمان العقد وقت كتابة الورقة والتوقيع عليها ، ولا يعتبر العقد قد تم إلا بالتوقيع . بل ليس ما يمنع أن تكتب ورقة إعداد $107 لإثبات تصرف لم يتم إبرامه ، فلا يعتبر العقد فى هذه الحالة قد أبرم بمجرد كتابة الورقة ولو وقعت . وقد قضت محكمة استئناف أسيوط فى هذا المعنى بأن (( التعاقد لا يعتبر تاماً ملزماً بمجرد تدوين نصوصه كتابة ولو حصل التوقيع عليها ، بل إنه لا بد من قيام الدليل على تلاقى إرادة المتعاقدين على قيام الالتزام ونفاذه ، وهذا ما يقتضى تسليم السند المثبت له لصاحب الحق فيه ، بحيث لو تبين أنه لم يسلم إليه مطلقاً لما صلح هذا الالتزام ، كما أنه إذا تبين أنه قد تحرر مكتوب بالتعاقـد ولكنه سلم لأميـن فانه يتعين البحث فى ظروف وشـروط تسليـم ذلـك المكتـوب للأمين )) ([4]) .
والأوراق ـ رسمية كانت أو عرفية ـ لها حجية فى الإثبات يحددها القانون ، وهى تتفاوت قوة وضعفا . وأقوى الأوراق فى الإثبات هى الأوراق الرسمية . فهى حجة على الناس كافة على الوجه الذى سنبينه فيما بعد . أما الأوراق العرفية المعدة للإثبات فقوتها أقل من قوة الأوراق الرسمية ، إذ هى لا تنهض حجة إذا أنكرها من صدرت منه ، وعند ذلك يرسم القانون إجراءات معينة لتحقيق صحة صدورها ([5]) . وسنعود إلى هذه المسألة فى موضعها ببيان أوفى . والأوراق العرفية غير المعدة للإثبات لا يكون لها من الحجية إلا القدر الذى يعينه القانون ، كما هو الأمر فى شأن الرسائل والبرقيات ودفاتر التجار .
وحجية الأوراق ـ رسمية كانت أو عرفية ـ لا تقتصر على ما تثبته هذه الأوراق عن طريق التقرير (disposition) ، بل تتناول أيضاً ما تثبته عن طريق الاخبار (enunciation) إذا اتصل اتصالا مباشراً بما تثبته عن طريق التقرير . وفى هذا المعنى تنص المادة 1320 من التقنين المدنى الفرنسى على ما يأتى : (( تكون الورقة ـ رسمية كانت أو عرفية ـ حجة على الطرفين حتى فيما لم تذكره إلا على سبيل الاخبار ، ما دام الاخبار متصلا اتصالا مباشراً بما ذكر على سبيل التقرير ، أما إذا كان الاخبار أجنبياً عن التقرير ، فلا يصلح إلا مبـدأ
ثبوت $108 بالكتابة ([6]) . والورقة المعدة للإثبات إنما أعدت أصلا لتثبت ما قرره الطرفان من بيع أو إيجار أو وفاء أو تجديد أو غير ذلك من التصرفات القانونية ، وهذا هو ما تثبته الورقة عن طيق التقرير . ثم إنه قد يرد فى الورقة ذكر لبعض الوقائع ليست هى التى أعدت الورقة أصلا لإثباتها ، ولكنها تتصل بها ، وقد ذكرت على سبيل التمهيد والإيضاح . وتأتى الأساتذة بلانيول وريبير وجابولد ([7]) بمثلين لما يذكر فى الورقة على سبيل الأخبار : (1) ورقة أعدت لإثبات دين قديم ، وذكر فيها على سبيل الأخبار أن فوائد هذا الدين مدفوعة إلى يوم تحرير الورقة . فهذا الاخبار له صلة مباشرة بالدين الذى أعدت الورقة لإثباته على سبيل التقرير ، ومن ثم يكون للإخبار هنا حجية كاملة ، فهو دليل كتابى على الوفاء بفوائد الدين إلى اليوم الذى حررت فيه الورقة . (2) ورقة أعدت لتجديد مرتب (rente) عن طريق تغير المدين ، فذكر فيها على سبيل الإخبار صلته بالمرتب قبل التجديد صلة غير مباشرة ، ولا يصلح دليلا كاملا لمجرد أن المدين الجديد قد تعهد بدفع المرتب مستقبلا ، ومن ثم لا يكون الإخبار هنا إلا مبدأ ثبوت بالكتابة يجب استكماله بالبينة أو بالقرائن .
68 ـ الفروق ما بين الورقة الرسمية والورقة العرفية : وقبل أن نفصل الكلام فى الورقة الرسمية والورقة ، نورد هنا أبرز ما بينهما من فروق . فالورقة الرسمية تختلف عن الورقة العرفية من ناحية الشكل ومن ناحية $109 الحجية فى الإثبات ومن ناحية القـوة فـى التنفيذ .
1 ـ فمن ناحية الشكل : يشترط فى الورقة الرسمية أن يقوم بتحريرها موظف عام مختص وفقاً لأوضاع مقررة . أما الورقة العرفية فالشرط الوحيد لصحتها هو توقيع المدين ، هذا إذا كانت معدة للإثبات ، أما إذا لم تكن معدة فلا ضرورة حتى لهذا التوقيع .
2 ـ ومن ناحية الحجية فى الإثبات : كل من الورقة الرسمية والروقة العرفية حجة على الكافة ( أولا ) من حيث صدورها من موقعها . ولكن الورقة الرسمية لا تسقط حجيتها هنا إلا من طريق الطعن بالتزوير ، أما الورقة العرفية الرسمية لا تسقط حجيتها هنا إلا من طريق الطعن بالتزوير ، أما الروقة العرفية فيكفى فيها إنكار الخط أو التوقيع . (ثانياً) من حيث صحة ما ورد فيها . ولكن الورقة الرسمية حجة إلى حد الطعن بالتزوير فيما ورد على لسان الموظف العام أنه علمه بنفسه ، أما صحة ما قرره رواية عن الغير فيجوز دحضها باثبات العكس وفقاً للقواعد المقررة ، وتاريخ الورقة الرسمية يعتبر صحيحاً إلى حد الطعن بالتزوير . والورقة العرفية يجوز دحض صحة ما ورد فيها جميعاً باثبات العكس ، لا فرق فى ذلك بين ما قرر موقها أنه علمه بنفسه وما قرره رواية عن الغير ، وتاريخ الورقة العرفية يكون حجة على موقعيها ولكنه لا يكون حجة على الغير إلا إذا كان تاريخاً ثابتاً .
3 ـ ومن ناحية القوة في التنفيذ الورقة الرسمية يمن النفيذ بها مباشرة دون حاجة إلى حكم ، ويكون ذلك بالصورة التنفيذية للورقة ([8]) . فيستطيع البائع مثلا أن ينفذ بالثمن بموجب الصورة التنفيذية للبيع الرسمى ، كما يستطيع المشترى أن ينفذ بحقه فى تسلم المبيع . ولا يجوز الشروع فى التنفيذ قبل إعلان الورقة الرسمية إلى الخصم ، ويشتمل الإعلان على تكليف المدين بالوفاء وبيان $110المطلوب منه (م 460 مرافعا) . هذا هو تنبيه بالوفاء (commandement) لا مجرد إنذار (summation) . وينبنى على ذلك أن للمدين أن يعارض فى هذه التنبيه ، وأن يتقدم بوجوه الطعن التى يتمسك بها إلى المحكمة المختصة . وإذا بدئ فى تنفيذ الورقة الرسمية جاز للمدين رفع إشكال فى التنفيذ لوقفه ، ويكون ذلك أمام محكمة الموضوع ( م 479 مرافعات ) . أما الورقة العرفية فليست لها ، على خلاف الورقة الرسمية ، قوة تنفيذية . فاذا كان سند الدين ورقة عرفية ورفض المدين تنفيذ التزاماته طوعاً ، فانه لا يمكن إجباره على التنفيذ حى لو كان معترفا ً بالورقة ، إلا إذا حصل الدائن على حكم قابل للتنفيذ ، والحكم لا الورقة هو الذى ينفذ ([9]) . وتفصيل القول فى الأوراق من ناحية القوة فى التنفيذ هو من مباحث قانون المرافعات .
([1]) وقد اقترح الآستاذان أوبرى ورو ( جزء 12 فقرة 754 ص 155 هامش رقم 2 ) ، حتى يرتفع هذا اللبس ما بين التصرف ذاته (negotium) وأداة الإثبات (instrumentum) ، تسمية أداة افثبات باللفظ الآتى : (acte instrumentaire)
([2]) الدكتور سليمان مرقس فى أصول افثبات فقرة 35 ـ بلانيول وريبير وجابولد جزء 6 فقرة 1434 ـ وقد ورد فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهدى ( م 527 من هذا المشروع ) فى هذا الصدد ما يأتى : (( تصرف عبارة السند تارة إلى الواقعة القانونية ، أى العمل أو التصرف القانونى ، وطوراً إلى أداة الإثبات ، أى إلى الورقة التى يجرى الإثابت بمقتضاها . وقد رؤى استعمال عبارة الورقة الرسمية للتمييز بين مصدر الحق أو الالتزام وبين أداة إثباته )) . ( مجموعة الأعمال التحضيرية جزء 3 ص 352 ) .
([3]) وأكثر ما تعد الأوراق لإثبات التصرفات القانونية (actes juridiques) . وقل أن تعد لإثبات الوقائع المادية (faits materiels) ، ويقع ذلك عادة فى الشهادات التى تعد لإثبات الميلاد والوفاة وفى اعلامات الوراثة وفى المحاضر التى تعد لإثبات الحالة ( بلانيول وريبير ) وبولانجيه 2 فقرة 2196 ) .
([4]) استئناف أسيوط 3 يونية سنة 1948 المحاماة 28 رقم 805 ص 273 .
([5]) ويجوز أن تصلح الورقة العرفية حجة للغير ، لا لإثبات واقعة مادية فحسب ، بل أيضاً لإثبات تصرف قانونى ، كما إذا حصر الورثة فيما بينهم التركة بمتقتضى محضر عرفى وأوردوا فيه ديوناً للتركة ذكروا أنها قد دفعت ، فهذا المحضر يصلح دليلا لمدينى التركة وهم من الغير على أنهم وفوا ديونهم ( بلانيول وريبير وجابولد 7 فقرة 1436 ص 868 هامش رقم 1 ) .
([6]) وهذا هو النص فى أصله الفرنسى : “L’acte, soit authentique soit sous seing privem fait foi entre les parties, meme de ce qui n’y est exprime qu’en termes enonciatifs pourvu que l’enonciation ait un rapport direct avec la disposition. Les enonciations etrangeres a la disposition ne peubent server que de commencement de prevue”.
([7]) الجزء السابع فقرة 1435 ـ ويورد الأستاذان أوبرى ورو ( 12 فقرة 755 ص 177 ) مثلا : مدين بايراد مؤبد يقر بهذا الإيراد فى ورقة رسمية ، ويذكر فى الورقة عبارة إخبارية مؤداها أن الإيراد قد نقص بسبب دفع جزء من رأس المال أو أن أقساط افيراد السابقة قد دفعت جميعها إلى تاريخ معين ، فهذه العبارة افخبارية تتصل اتصالا مباشراً بموضوع الإقرار فتكون لها الحجية إلى حج الطعن بالتزوير .
([8]) أما الأوراق الرسمية الموثقة فى المحاكم الشرعية ـ الإشهادات ـ فهذه تضع عليها المحاكم الوطنية الصيغة التنفيذية لخلو المحاكم الشرعية من أقلام محضرين للتنفيذ ، ولذلك يقوم بتنفيذها محضرو المحاكم الوطنية . وعندما كانت المحاكم المختلطة قائمة ، كانت الصيغة التنفيذية تطلب من المحكمة المختلطة ويقوم بالتنفيذ محضر من هذه المحكمة إذا كان أحد ذوى الشان فى الورقة الرسمية أجنبياً .
أما فى نظام التوثيق الجديد ، فقد جعل قانون التوثيق ( م 2 ثالثاً ) وضع الصيغة التنفيذية من اختصاص مكاتب التوثيق .
([9]) الموجز للمؤلف فقرة 642 ص 674 .
نقلا عن محامي أردني