عبء الإثبات


عبء الإثبات

627 – عبء الإثبات الضرر : المدعى هو الذي يحمل عبء إثبات ما أصابه من الضرر . ولا يستطيع أن يخطو في دعوى المسئولية خطوة قبل أن يثبت ذلك ( [1] ) .

وفي أحوال استثنائية يعفى القانون المدعى من إثبات الضرر :

1 – إما بوضع قرينة قانونية غير قابلة لإثبات العكس على أن هناك ضرراً قد وقع . فقد نصت المادة 228 من القانون المدني الجديد على أنه ” لا يشترط لاستحقاق فوائد التأخير ، قانونية كانت أو اتفاقية ، أن يثبت الدائن ضرراً لحقه من هذا التأخير ” . وأكثر ما يقع ذلك في المسئولية التقصيرية ، إذا قدر الطرفان مقدار التعويض باتفاق بينهما ، فتستحق فوائد التأخير دون حاجة إلى إثبات الضرر .

2 – وإما بوضع قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس على وقوع الضرر ويكون ذلك في الشرط الجزائي ، فقد نصت المادة 224 فقرة أولى من القانون المدني الجديد على أنه ” لا يكون التعويض الاتفاقي مستحقاً إذا اثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر ” . ويغلب أن يقع هذا أيضاً في المسئولية العقدية ، ولكنه يتصور في المسئولية التقصيرية إذا اتفق الطرفان على إعادة الشيء إلى أصله كتعويض عن خطأ تقصيري ووضعا شرطاً جزائياً . والمفروض عند وجود شرط جزائي أن إخلال المدين بالتزامه قد أصاب الدائن بالضرر ، وقد قدر المتعاقدان في الشرط الجزائي مدى هذا الضرر وقيمته . وهذه قرينة قانونية تعفى الدائن من إثبات الضرر؛ ولكنها تقبل إثبات العكس ، فللمدين أن يثبت ، كما يقول النص ، أن الدائن لم يلحقه أي ضرر .

628 – عبء إثبات الخطأ : الأصل أن عبء إثبات الخطأ يقع على المدعى . والخطأ كما قدمنا هو انحراف الشخص على السلوك المألوف للشخص العادي . وهذا الانحراف واقعة مادية ، أكثر ما تثبت من طريق قرائن قضائية متتابعة ، تنقل عبء الإثبات من جانب إلى جانب . فالمدعى يبدأ بإثبات واقعة تقوم قرينة قضائية على وقوع الخطأ . فينتقل عبء الإثبات إلى المدعى عليه . فيثبت هذا واقعة أخرى تقوم هي أيضاً قرينة قضائية على انتفاء الخطأ من جانبه . فيعود عبء الإثبات إلى المدعى ، وهكذا ، إلى أن يعجز أحد الطرفين عن إثبات ما يزحزح عنه القرينة القضائية التي ألقاها عليه خصمه ، فيكون هو العاجز عن الإثبات . فإن كان المدعى هو الذي عجز ، فقد اعتبر غير قادر على إثبات دعواه وخسرها . وإن كان الذي عجز هو المدعى عليه ، فإن المدعى يكون قد تمكن من إثبات الخطأ ( [2] ) .

هذا هو الأصل . ولكن ترد استثناءات كثيرة ، يعفى فيها المدعى من إثبات الخطأ ، بفضل قرينة قانونية تكون إما قابلة لإثبات العكس وأما غير قابلة لذلك ( [3] ) . وسنرى فيما يلي تفصيلا واقيا لهذه القرائن القانونية ، وبعضها قابلا ثبات العكس كخطأ من يعهد إليه بالرقابة على غيره ، وبعضها غير قابل لإثبات العكس كخطأ المتبوع وخطأ حارس الأشياء . ويلاحظ بوجه عام أن هذه القرائن القانونية لا تعفى المدعى من إثبات وجود الحالة القانونية التي يترتب عليها قيام القرينة على الخطأ ( [4] ) . وسنرى ذلك في مكانه .

629 – عبء إثبات السببية : الأصل هنا أيضاً أن عبء إثبات السببية يقع على المدعى . فهو الذي يثبت ، ليس فحسب الضرر الذي وقع عليه والخطأ الذي وقع من غريمه ، بل أيضاً علاقة السببية ما بين الخطأ والضرر .

ولكن هذه القاعدة محدودة الأهمية . فهي تارة يرد عليها استثناءات يقررها القانون ، وطوراً يضيق مجال تطبيقها العملي حتى تصبح القاعدة هي الاستثناء .

أما الاستثناءات التي يقررها القانون فهي قرائن قانونية ، كلها قابلة لإثبات العكس ، يقيمها القانون على وجود السببية . والقانون يقيم هذه القرائن حيث يقيم قرائن الخطأ . فهو إذا أقام قرينة على الخطأ – قابلة أو غير قابلة لإثبات العكس – يقيم إلى جانبها قرينة على السببية تكون دائماً قابلة لإثبات العكس . فالمكلف بالرقابة تقوم ضده قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس على الخطأ ، وتقوم ضده كذلك قرينة قانونية قابلة هي أيضاً لإثبات العكس على السببية . ويستطيع أن ينفي كلا من القرينتين ، فينفي قرينة الخطأ بإثبات أنه لم يقصر في الرقابة ، وينفي قرينة السببية بإثبات أن الضرر كان لا بد واقعا حتى لو لم يقصر أي بإثبات السبب الأجنبي . وحارس الحيوان أو الأشياء التي تتطلب حراستها عناية خاصة تقوم ضده قرينة الخطأ وهي غير قابلة لإثبات العكس ، وقرينة السببية وهي قابلة للنفي بإثبات السبب الأجنبي .

فإذا تركنا الاستثناءات وعدنا إلى القاعدة ، رأينا أن مجال تطبيقها في العمل محدود . ذلك أن المدعى إذا اثبت الضرر والخطأ ، ففى أكثر الأحوال ، ومن الناحية العملية المحضة ، تقوم في ذهن القاضي شبهة قوية في أن الخطأ هو الذي أحدث الضرر . ومن ثم تقوم قرينة قضائية على علاقة السببية ، تنقل عب الإثبات إلى المدعى عليه . فيطالب هذا بنفي هذه العلاقة ، ويستطيع ذلك إذا اثبت أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي . وهذا هو السبب الذي دعا المشرع في القانون المدني الجديد إلى أن يورد الحكم في هذه المسألة على هذا الوضع العملي . فنص في المادة 165 على ما يأتي : ” إذا اثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه ، كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة أو خطأ من المضرور أو خطأ من الغير ، كان غير ملزم بتعويض هذا الضرر ، ما لم يوجد نص أو اتفاق على غير ذلك ” . ونص في المادة 215 على ما يأتي : ” إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عينا حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه ، ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبي لا يد له فيه ” . ففي النصين وضع القانون عبء الإثبات ، من الناحية العملية المحضة ، على عاتق المدين لا على عاتق الدائن ( [5] ) .

2 – وسائل الإثبات

630 – الإثبات بجميع الطرق : لما كانت الأركان الثلاثة – الخطأ والضرر والسببية – التي يجب إثباتها لتحقق المسئولية هي كلها وقائع مادية ، فإن إثبات أية واقعة منها يجوز بجميع الطرق ، وبخاصة البينة والقرائن ( [6] ) . وفي أكثر الأحوال يثبت الضرر والسببية بالمعاينة المادية أو بشهادة طبية أو بتقدير الخبراء . أما الخطأ فأكثر ما يثبت بشهادة من عاينوا الحادث وبالتحقيق الجنائي وبالانتقال إلى محل الواقعة ومعاينته وبالقرائن القضائية والقانونية ( [7] ) .

631 – ارتباط القاضي المدني بالحكم الجنائي – تأصيل القاعدة : ومن أهم القرائن القانونية التي تسيطر على وسائل الإثبات في دعوى المسئولية حجية الحكم الجنائي . ذلك أن دعوى المسئولية يغلب أن تقوم على جريمة جنائية ، فتخضع لاختصاص القضاء الجنائي واختصاص القضاء المدني . فإذا صدر حكم نهائي في الجريمة من محكمة جنائية ، فإلى أي حدث يصبح هذا الحكم حجة في الدعوى المدنية ، وهل يرتبط القاضي المدني بالحكم الجنائي؟ تجيب المادة 406 من القانون المدني الجديد بما يأتي :

 ” لا يرتبط القاضي المدني بالحكم الجنائي إلا في الوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان فصله فيها ضرورياً ( [8] ) ” .

وتأثير هذه القاعدة لا يرجع إلى أن الحكم الجنائي يربط القضاء المدني بمقتضى قوة الأمر المقضي ( force de la chose jugee ) فإن قوة الأمر المقضي ، تقتضي الوحدة في الخصوم والموضوع والسبب ، ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا في قضاء مدني يقيد قضاء مدنياً أو في قضاء جنائي يقيد قضاء جنائياً . أما القضاء الجنائي إذا أريد أن يقيد قضاء مدنياً ، فلن يكون هذا لوحدة في الخصوم فالخصوم في الدعوى الجنائية وفيهم النيابة العامة غيرهم في الدعوى المدنية ، ولا لوحدة في الموضوع فموضوع الدعوى الجنائية العقوبة وموضوع الدعوى المدنية التعويض ، ولا لوحدة في السبب فسبب العقوبة خطأ جنائي وسبب التعويض خطأ مدني . فكيف يقوم التقييد على هذا الأساس وقوة الشيء المقضي تقتضي الوحدة في هؤلاء جميعاً .

وإنما يرجع تقييد القضاء الجنائي للقضاء الدين إلى اعتبارين ، أحدهما قانوني والآخر عملي . أما الاعتبار القانوني فهو أن الحكم الجنائي له حجية مطلقة ، فهو حجة بما جاء فيه على الناس كافة ، ومنهم الخصوم في الدعوى المدنية ، فهؤلاء لا يجوز لهم أن يناقشوا حجية الحكم الجنائي . والاعتبار العملي هو أنه من غير المستساغ ، والمسائل الجنائية من النظام العام ، أن يقول القاضي الجنائي شيئاً فينقضه القاضي المدني . فإذا صدر حكم جنائي بإدانة متهم أو ببراءته ، كان مؤذياً للشعور العام ، وقد آمنت الناس على اثر الحكم الجنائي بأن المتهم مجرم أو برئ ، أن يأتي القاضي المدني فيقول إن المتهم برىء فلا يحكم عليه بالتعويض في الوقت الذي قال فيه القاضي الجنائي أنه مجرم ، أو يقول إن المتهم مجرم فيحكم عليه بالتعويض بعد أن قال القاضي الجنائي أنه برئ ( [9] ) .

فمنع التعارض ما بين الأحكام الجنائية والأحكام المدنية ، وجعل هذه مسايرة لتلك ، هو الذي أملى القاعدة التقاضي بأن القاضي المدني يرتبط بالحكم الجنائي . لذلك لا تشترط في تطبيق القاعدة لا وحدة الخصوم ولا وحدة الموضوع ولا وحدة السبب ، وإنما تشترط شروط ثلاثة أخرى . هي التي تنتقل الآن إليها .

632 – شروط القاعدة – الشرط الأول أن يكون المطلوب تقييده هو القضاء المدني : فالقضاء الجنائي هو الذي يراد عدم الإخلال بحجيته المطلقة ، فلا يتقيد إلا بقضاء جنائي مثله يكون قد حاز قوة الشيء المقضي ، مع مراعاة الشروط المعروفة من وحدة في الخصوم ووحدة في الموضوع ووحدة في السبب . والذي يتقيد بالقضاء الجنائي هو القضاء المدني بمعناه الواسع ، فيشمل القضاء المدني والقضاء التجاري ، بل والقضاء الإداري .

633 – الشرط الثاني أن يكون الحكم الذي يتقيد به القاضي المدني هو حكم جنائي : ويكفي أن يكون الحكم الجنائي صادراً من أية جهة قضائية جنائية ، حتى لو كانت جهة استثنائية كالقضاء العسكري . ولكن يجب أن يكون الحكم الجنائي صادراً في الموضوع ، لا حكماً تحضيرياً ولا حكماً تمهيدياً ولا أمراً متعلقاً بعمل من أعمال التحقيق الجنائي ولا قراراً صادراً من النيابة العامة ( [10] ) . ويجب أن يكون حكماً نهائياً .

ويجب أيضاً أن يكون الحكم الجنائي سابقاً في صدوره على الحكم المدني الذي يراد تقييده . إذ لو كان الحكم المدني سابقاً ، واستقرت به حقوق الطرفين ، لم يجز المساس به بسبب حكم جنائي يصدر بعده . ولا يعقل – كما تقول محكمة النقض – أن ينعي على حكم مخالفته حكماً لم يكن قائماً وقت صدوره ( [11] ) .

والذي قع كثيراً أن يكون الحكم الجنائي سابقاً في صدوره على الحكم المدني ، وذلك بفضل القاعدة التي تقضي بأن الدعوى الجنائية تقف من سير الدعوى المدنية . فإذا رفعت الدعوى الجنائية أمام المحكمة الجنائية والدعوى المدنية أمام المحكمة المدنية ، وجب أن توقف الدعوى المدنية حتى يفصل نهائياً في الدعوى الجنائية ، وبذلك يتحقق أن يكون الحكم الجنائي النهائي سابقاً في صدوره على الحكم المدنين ليتقيد هذا به ( [12] ) . ذلك ما تقضى به قاعدة وقف الدعوى المدنية ، وهذه هي الحكمة المتواخاة منها . ويندر أن يسبق الحكم المدني الحكم الجنائي . ولا يتحقق هذا إلا إذا رفعت الدعوى المدنية أمام المحكمة المدنية وفصل فيها نهائياً قبل رفع الدعوى الجنائية . وفي هذه لحالة لا يتقيد الحكم المدني بالحكم الجنائي كما قدمنا .

بقى أن تواجه فرضاً هو الذي يقع في الغالب من الأحوال : أن ترفع الدعويان الجنائية والمدنية معاً أمام المحكمة الجنائية ، بأن يدخل المضرور مدعياً مدنياً في الدعوى الجنائية ، في هذا الفرض يصدر حكم واحد في الدعويين ، فلا يتصور أن يسبق الحكم الجنائي الحكم المدني ، وبذلك لا يكون هناك محل لتطبيق قاعدة تقييد الحكم المدني بالحكم الجنائي ، والقاضي الجنائي الذي يصدر هذا الحكم الواحد يتقيد طبعاً بمراعاة التنسيق ما بين أجزائه ، وبهذا يتحقق الانسجام فعلا ما بين الجزء الجنائي والجزء المدني . فإذا وقع أن تعارضا ، كان هذا سبباً للطعن بالنقض في الحكم ( [13] ) .

634 – الشرط الثالث أن يكون ما يتقيد به القاضي المدني هو الوقائع التي فصل فيها الحكم الجنائي وكان فصله فيها ضرورياً : وهذا هو أدق الشروط الثلاثة ، لذلك تكفل نص المادة 406 يذكره . فالقاضي المدني يتقيد بما فصل فيه القاضي الجنائي من الوقائع دون القانون . ولا يتقيد بما فصل فيه القاضي الجنائي من هذه الوقائع إلا بما كان الفصل فيه ضرورياً لقيام الحكم الجنائي فهذان أمر أن نتولى بحثهما .

 ( أولاً ) يتقيد القاضي المدني بما فصل فيه القاضي الجنائي من الوقائع دون القانون . فلا يتقيد بالتكييف القانوني الذي اتبعه القاضي الجنائي لهذه الوقائع من الناحية الجنائية . مثل ذلك أن يحكم القاضي الجنائي ببراءة سائق السيارة من تهمة القتل خطأ لأن الوقائع التي ثبتت لا يمكن تكييفها من الناحية الجنائية بأنها خطأ معاقب عليه ، فلا يتقيد القاضي المدني بهذا التكييف الجنائي ، بل عليه إن يلتزم التكييف المدني وهو يختلف عن التكييف الأول ، فالخطأ المدني هنا مفروض في جانب السائق ، ويحكم القاضي المدني بتعويض على السائق الذي حكم القاضي الجنائي ببراءته ( [14] ) .

 ( ثانياً ) ولا يتقيد القاضي المدني بما فصل فيه القاضي الجنائي من الوقائع إلا بما كان الفصل فيه ضرورياً لقيام الحكم الجنائي . فليس يتقيد القاضي المدني بجميع الوقائع التي عرض لها الحكم الجنائي وأثبتها ، بل هو لا يتقيد منها إلا بما كان ضرورياً للحكم الجنائي ، بحيث لو لم تثبت لانهدم الحكم الجنائي ولما أمكن أن يقوم . أما ما لم يكن ضرورياً من هذه الوقائع ، فلا يتقيد به القاضي المدني مهما أكده القاضي الجنائي . ونستعرض الفرضين المحتملين في تطبيق هذه القاعدة الدقيقة : ( 1 ) أن يصدر حكم جنائي بالإدانة ( 2 ) أو يصدر بالبراءة .

1 – حكم جنائي بالإدانة ( [15] ) : إذا سكت هذا الحكم عن ركن الضرر ولم يتعرض له لا بإثبات ولا بنفي ، كان القاضي المدني حراً غير مقيد في هذا الخصوص ، فله أن يثبت في حكمه المدني وقوع الضرر أو عدم وقوعه . وإذا اثبت وقوعه فله إن يبين على من وقع . أما إذا عرض الحكم الجنائي لركن الضرر فأنكر وقوعه ، لم يتقيد القاضي المدني بهذا إلا إذا كان وقوع الضرر أو عدم وقوعه من شأنه أن يؤثر في منطوق الحكم الجنائي . فإذا قال القاضي الجنائي في حكمه إن ضرراً ما لم يقع على المجني عليه ، ولم يكن وقوع الضرر ركناً من أركان الجريمة ، لم يتقيد القاضي المدني بما قاله القاضي الجنائي ، وله أن يثبت في حكمه أن المجني عليه قد أصابه ضرر ، إذ لا خوف من التعارض ما بين الحكمين الجنائي والمدني ، لأنه حتى لو أصيب المجني عليه بضرر فإن الحكم الجنائي يبقى صحيحاً . وإذا حكم القاضي الجنائي بأن الضرر لم يقع ، وبنى على ذلك أن الجريمة شروع لا فعل تام ، تقيد القاضي المدني بالحكم الجنائي ولم يستطع أن يقول إن الضرر قد وقع ، لأن هذا يتعارض مع الحكم الجنائي في مسألة لو صح فيها الحكم المدني لانعدم الحكم الجنائي وهو يقول على أن الجريمة شروع لا فعل تام .يبقى أن يعرض الحكم الجنائي لركن الضرر فيثبت وقوعه . فإن كان وقوع الضرر غير مؤثر في الحكم الجنائي ، كالحكم في مخالفة من مخالفات المرور ، لم يتقيد القاضي المدني بالحكم الجنائي ، وله أن يثبت في حكمه أن الضرر لم يقع ، لأنه حتى لو صح هذا لم ينهدم الحكم الجنائي . وإن كان وقوع الضرر مؤثراً في الحكم الجنائي ، كالحكم بالإدانة في تهمة قتل ، تقيد القاضي المدني بأن القتل قد وقع ، ولا يستطيع أن ينفي في حكمه هذه الواقعة . وإذا عين الحكم الجنائي الشخص الذي وقع عليه الضرر وكان هذا مؤثراً في الحكم الجنائي ، تقيد به القاضي المدني ، كما إذا اثبت القاضي الجنائي أن السرقة وقعت على الزوج أو أن هتك العرض وقع على شخص تحت سلطة المتهم ، فلا يستطيع القاضي المدني أن يثبت في حكمه غير ذلك ، لأن الحكم الجنائي يتأثر بهذا التعارض ، فإن كون المجني عليه هو زوج المتهمة أعفى هذه من عقوبة السرقة ، وكون المجني عليها هي تحت سلطة المتهم شدد من عقوبة هتك العرض . وإذا عرض القاضي الجنائي للضرر من حيث طبيعته أو من حيث مقداره ، فإن هذا لا يؤثر عادة في الحكم الجنائي ، فلا يتقيد به القاضي المدني . أما إذا أثر ، كأن اثبت القاضي الجنائي أن الضرر هو عاهة مستديمة أو اثبت أن الجرح نشأ عنه عجز عن العمل مدة تزيد على عشرين يوماً ، تقيد القاضي المدني بذلك ، لأن العاهة المستديمة قلبت الجنحة إلى جناية ، ولان الجرح إذا اعجز عن العمل مدة تزيد على عشرين يوماً استوجب عقوبة أشد .

أما بالنسبة إلى ركن الخطأ . فإن الحكم الجنائي القاضي بالإدانة يكون قد عرض له حتما وأثبت وجوده ، وإلا لما صدر حكم بالإدانة . فيتقيد القاضي المدني في حكمه بوجود الخطأ من الناحية المدنية . ذلك أن كل خطأ جنائي هو في الوقت ذاته خطأ مدني ، ولا عكس ( [16] ) . وإذا كان قد يقع أن الخطأ الجنائي – وهو في الوقت ذاته خطأ مدني كما قدمنا – لا يحدث ضرراً ، كجريمة التشرد وجرائم المرور والشروع في الجرائم ، فلا تتحقق المسئولية المدنية ، فإن ذلك لا يرجع إلى أن الخطأ الجنائي ليس بخطأ مدني ، بل يرجع إلى أن ركناً من أركان المسئولية التقصيرية لم يقم وهو ركن الضرر ، كذلك يتقيد القاضي المدني بما اثبته الحكم الجنائي من الخطأ ، لا في ركنه المادي فحسب . بل أيضاً في ركنه المعنوي . فإذا قال الحكم الجنائي إن المتهم صدر منه خطأ هو مسئول عنه ، لم يجز للقاضي المدني أن ينفي المسئولية المدنية بدعوى الإكراه أو عدم التمييز أو نحو ذلك . أما بيان جسامة الخطأ في الحكم الجنائي فيقيد القاضي المدني أو لا يقيده وفقاً لما إذا كانت هذه الجسامة ضرورية لقيام الحكم الجنائي أو غير ضرورية . فإذا وصف الحكم الجنائي الخطأ بأنه عمد أو غير عمد ، فإن القاضي المدني يتقيد بهذا الوصف ، لأن وصف الخطأ الجنائي بأنه عمد أو غير عمد من شأنه أن يؤثر في وصف الجريمة ذاتها . وإذا وصف الحكم الجنائي الخطأ بأنه جسيم أو يسير ، فإن هذا ليس من شأنه أن يؤثر في الحكم الجنائي وإن أثر في تقدير العقوبة ، فلا يتقيد به القاضي المدني ، لأن الخطأ الجسيم من الناحية الجنائية ليس هو حتما الخطأ الجسيم من الناحية المدنية .

أما ركن السببية ، فإن أثبت الحكم الجنائي أنه موجود أو غير موجود ، فكأنما اثبت أن الضرر قائم أو غير قائم . ويكون الأمر أمر حكم جنائي اثبت قيام الضرر أو عدم قيامه ، وقد مر بنا تفصيل ذلك . وإذا اثبت الحكم الجنائي أن هناك سبباً أجنبياً ينفي رابطة السببية ، فكأنما اثبت أن الضرر غير قائم . ولكن إذا جعل الحكم الجنائي هذا السبب الأجنبي داعياً لتقسيم التعويض بين المسئول والمصاب والغير ، وفقاً للقواعد التي مر ذكرها ، لم يكن القاضي المدني مقيداً بهذا التقسيم ، إذ هو ليس ضرورياً لقيام الحكم الجنائي .

2 – حكم جنائي بالبراءة : كذلك إذا صدر حكم جنائي ببراءة المتهم ، فإن ما ورد في هذا الحكم مما يعد ضرورياً لقيامه يقيد القاضي المدني . ولا يتقيد هذا بما ورد في الحكم الجنائي إذا لم يكن ضرورياً . فإذا اثبت الحكم القاضي بالبراءة وجود الضرر وطبيعته ومداه ولكنه برأ المتهم ، فإن ما ورد فيه عن وجود الضرر وعن طبيعته ومقداره لا يقيد القاضي المدني ، إذ هو ليس ضرورياً لقيام الحكم الجنائي بالبراءة . وإذا أنكر الحكم الجنائي وقوع الضرر ، فليس هذا مؤثراً في قيامه ، لأن الجريمة قد تتم دون أن يقع ضرر ، فلا يتقيد القاضي المدني بذلك . على أنه قد يكون وقوع الضرر ركناً من أركان الحكم الجنائي القاضي بالبراءة أن القتل قد وقع أو أن الضرب أفضى إلى الموت ، فإن هذا يقيد القاضي المدني .

وإذا اثبت الحكم الجنائي القاضي بالبراءة عدم وقوع الخطأ أو وقوعه ، في أحد ركنيه المادي أو المعنوى أو في ركنيه جميعاً ، فإن القاضي المدني يتقيد بما ورد من ذلك في الحكم الجنائي . فإذا قال هذا الحكم إن المتهم لم يرتكب الخطأ المنسوب إليه أو أن الخطأ وقع منه في ماديته ولكنه غير مسئول عنه لأنه عديم التمييز أو لأنه اكره عليه أو لأنه كان يدافع عن نفسه ، ففي كل هذه الأحوال يتقيد القاضي المدني بما أثبته الحكم الجنائي ، ولا يستطيع أن يقول إن المتهم ارتكب الخطأ وهو مسئول عنه لأنه مميز أو لأنه لم يكره أو لأنه لم يكن في حالة دفاع شرعي ( [17] ) . ولكن ذلك لا يعني أن القاضي المدني يتقيد بالتكييف الجنائي للوقائع التي أثبتها الحكم الجنائي . فقد يرى القاضي الجنائي أن المتهم غير مدان لأنه لم يثبت في جانبه خطأ جنائي يجعله مسئولا عن القتل بإهمال وهي الجريمة التي نسبت إليه ، ولكن القاضي المدني قد يحكم مع ذلك على المتهم بالتعويض لأنه مسئول عن خطأ مدني مفروض في جانبه ( [18] ) .

وإذا اثبت الحكم الجنائي القاضي بالبراءة وجود السببية أو انعدامها ، فكأنما اثبت قيام الضرر أو عدم قيامه ، فتتبع الأحكام التي قدمناها في هذه المسألة . وكذلك إذا اثبت الحكم الجنائي وجود سبب أجنبي ينفي السببية فكأنما اثبت عدم قيام الضرر . ولكن إذا اثبت أن السبب الأجنبي من شأنه أن يقسم التعويض ما بين المسئول والمصاب والغير ، فهذا التقسيم ، وهو غير ضروري لقيام الحكم الجنائي ، لا يقيد القاضي المدني .


 ( [1] ) استئناف مختلط في 12 مايو سنة 1887 بوريللي م 179 رقم 9 – وفي 2 يناير سنة 1901 م 13 ص 93 – وفي 4 مارس سنة 1945 م 27 ص 199 – قارن محكمة استئناف مصر الوطنية في 22 ديسمبر سنة 1938 المحاماة 20 رقم 119 ص 455 وتعليق الدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 13 ص 348 – ص 349 .

 ( [2] ) استئناف مختلط في 19 نوفمبر سنة 1929 م 42 ص 41 – محكمة الإسكندرية المختلطة في 10 يونية سنة 1922 جازيت 13 رقم 86 ص 160 .

 ( [3] ) أنظر في أن الخطأ المفروض فرضاً غير قابل لإثبات العكس هو في الواقع من الأمر خطأ ثابت ( faute prouvee ) مازو 2 فقرة 1690 – فقرة 1692 .

 ( [4] ) والقرائن القانونية على الخطأ إنما أقامها القانون لمصلحة المدعى دون غيره . وقد رأينا أن غير المدعى لا يجوز له أن ينتفع بهذه القرائن ، فلا يصح أن يتمسك بها لا المدعى عليه ولا الغير .

 ( [5] ) أنظر المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد المادة 215 ، حيث ورد أن إسقاط قرينة الخطأ يكون بإثبات السبب الأجنبي . وفي هذا خلط بين الخطأ وعلاقة السببية ، فإن الذي ينتفى بإثبات السبب الأجنبي هو علاقة السببية لا الخطأ ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 547 ) .

 ( [6] ) وقد قضت محكمة النقض بأن الدعوى المرفوعة على سيد وخادمه بطلب الحكم عليهما متضامنين بأن يدفعا إلى المدعية مبلغا تعويضا لها عن عبث الخادم بحلى كانت في علبة استودعتها السيد هي دعوى متضمنة في الواقع دعويين : الأولى أساسها الجريمة المنسوبة إلى الخادم ، وفيها يدور الإثبات بينه وبين المدعية على وقوع الجريمة ، واثبات الجريمة جائز قانوناً بأي طريق من طرق الإثبات ، فهي دعوى غير متوقفة على عقد الوديعة ولا لها بالوديعة إلا صلة عرضية من ناحية أن الجواهر التي وقعت عليها الجريمة كانت وديعة ، وهذا ليس من شأنه أن يغير من حقيقة الدعوى ولا من طريق الإثبات فيها . والثانية موجهة إلى السيد ، وأساسها أن الخادم الموجهة إليه الدعوى الأولى قد ارتكب الجريمة في حال تأدية وظيفته عنده ، وهذه ليس مطلوبا فيها إثبات عقد الوديعة على السيد . ومن ثم يجوز إثبات محتويات العلبة بالبينة والقرائن ( نقض مدني أول مايو سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 198 ص 432 ) . وقضت أيضاً بأن الدليل لا ارتباط له بالمسئولية في حد ذاتها ، وإنما يتعلق بذات الأمر المطلوب إثباته . فقد تكون المسئولية تعاقدية ومع ذلك يكون الإثبات فيها بالبينة والقرائن كما في حالة التعهد بعدم فعل شيء عندما يرغب المتعهد له إثبات مخالفة المتعهد له إثبات مخالفة المتعهد لتعهده . وقد تكون المسئولية جنائية أو تقصيرية ومع ذلك يكون الإثبات فيها بالكتابة حتما بالنسبة للعقد المرتبط بها إذا كانت قيمته تزيد على ألف قرش في غير المواد التجارية والأحوال الأخرى المستثناة كما هي الحال في جريمة خيانة الأمانة ( نقض مدني في 29 فبراير سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 34 ص 75 ) .

 ( [7] ) استئناف مختلط في 4 فبراير سنة 1892 م 4 ص 105 – وفي 5 يناير سنة 1893 م 5 ص 161 – وفي 11 مارس سنة 1897 م ) ص 196 – وفي 24 يونية سنة 1908 م 20 ص 295 – وفي 18 ديسمبر سنة 1912 م 25 ص 72 – وفي 25 أكتوبر سنة 1928 م 41 ص 15 – وفي 28 يناير سنة 1930 م 42 ص 234 .

 ( [8] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 544 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ” لا يرتبط القاضي المدني بالحكم الجنائي في الواقع التي لم يفصل فيها هذا الحكم أو الوقائع التي فصل فيها دون ضرورة ” . وفي لجنة المراجعة رؤى أن المعنى يكون أوضح لو ذكر الحكم العكسي ، فوافقت اللجنة على أن يكون نص المادة كما يأتي : ” لايرتبط القاضي المدني بالحكم الجنائي إلا في الوقائع التي فصل فهيا هذا الحكم وكان فصله فيها ضرورياً ” . وأصبح رقم المادة 419 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وكذلك وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم المادة 406 . ثم وافق عليها مجلس الشيوخ دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 3 ص 424 – ص 428 ) .

وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في صدد هذا النص ما يأتي : ” 1 – استلهم المشروع في صياغة هذه المادة أحكام المادة 303 من المشروع الفرنسي الإيطالي والمادة 1956 من التقنين الهولندي والمادة 2502 من التقنين البرتغالي . ويراعى أن حجية الأحكام الجنائية تنطوي على معنى الإطلاق من ناحية ومعنى الاقتصار من ناحية أخرى . ( ا ) فهي مطلقة بمعنى أن ما قتضي به المحاكم الجنائية يكون ملزما للكافة ، ولذلك نصت المادة 19 فقرة أولى من تقنين تحقيق الجنايات المختلط على إلزام المحكمة المدنية بالفصل طبقاً لما قضى به نهائياً من المحكمة الجنائية إذا استلزم الفصل في الدعوى المرفوعة أمامها معرفة ما إذا كانت هناك جريمة قد ارتكبت ومن ينسب إليه ارتكابها ، ونصت المادة نفسها في فقرتها الثانية على إلزام المحكمة المدنية بوقف الفصل في الدعوى المدنية المترتبة على وقوع الجريمة إذا رفعت الدعوى الجنائية قبل الفصل فيها نهائياً ، وذلك اتقاء لتعارض الأحكام . ( ب ) وهي قاصرة بمعنى أن نطاق إلزامها لا يجاوز ما قضى به فعلا ، أي ما فصل فيه الحكم . ففي حالة عدم الحكم بعقوبة – وهي الحالة التي تواجهها المادة 303 من المشروع الفرنسي الإيطالي – يجوز للقاضي المدني أن يحكم على المتهم بالتعويض دون أن ينطوي حكمه هذا على تعارض مع الحكم الجنائي . فالواقع أن عدم القضاء بالعقوبة قد يرجع إلى انقضاء الدعوى العمومية بموت المتهم أو بالتقادم أو بالعفو الشامل ، وإزاء ذلك لا يحكم القاضي بالعقوبة لتوافر هذا السبب أو ذاك ، دون إن يفصل في الواقعة التي أسست عليها الدعوى الجنائية . وما دام القاضي الجنائي قد اقتصر على الفصل في أن الواقعة المنسوبة إلى المتهم يمتنع توقيع عقوبة بشأنها ، فللقاضي المدني والحال هذه أن يقضي بالتعويض دون أن يعارض بذلك ما قضى به جنائياً ، وأن يؤسس قضاءه على الواقعة نفسها بوصفها تقصيراً مدنياً وقع من المتهم . ثم أن الحكم بالبراءة قد لا ينفى قيام التقصير المدني أيضاً ، إذ لس ثمة تلازم بين المسئولية الجنائية والمسئولية المدنية ، فيجوز أن يقتصر نطاق الدعوى العمومية على فعل معين لا يستتبع مسئولية جنائية ولكنه يستتبع مسئولية مدنية ، وفي هذه الحالة تفصل المحكمة الجنائية في المسئولية الجنائية وحدها وتقضي بالبراءة ولو أن الواقعة التي فصلت فيها أو وقائع أخرى لم تنظر فيها قد تكون أساساً لدعوى مدنية . فيجوز مثلا أن يبرا المتهم من جريمة مخالفة قواعد المرور مع الحكم عليه بالتعويض عن تقصير مدني لا يصدق عليه وصف الجريمة . فإذا اقتصر القاضي الجنائي على الفصل في أن الواقعة المنسوبة إلى المتهم لا تعتبر جريمة ، جاز للقاضي المدني أن يقضي بالتعويض دون أن ينقاض بذلك ما قضى به جنائياً . 2 – فالشرط الجوهري في انتفاء حجية الأحكام الجنائية الصادرة بالبراءة أو بانتفاء وجه استيفاء العقوبة أمام المحاكم المدنية هو اقتصار القاضي الجنائي على الفصل في الواقعة الجنائية دون الفصل في نسبتها . ويتحقق هذا الشرط متى قضى الحكم بان الواقعة لم يعد وجه لاستيفاء العقوبة بشأنها أو إنها ليست مما يقع تحت طائلة العقاب ( البراءة ) ، ولكن لو فرض أن القاضي أسس البراءة على نفي نسبة الواقعة إلى المتهم ، كان لحكمه قوة الشريء المقضي به بشأن هذه النسبة ، وتعين على القاضي المدني أن يفصل طبقاً لهذا القضاء ، وفقاً لما تقضي به المادة 19 من تقنين تحقيق الجنايات المختلط . ويستفاد هذا الحكم ضمناً من المادة 306 من هذا التقنين إذ تنص على أنه ” إذا برئ المتهم وألزم بتعويضات للمدعى المدني بالحق المدني يكون تقدير المصاريف الواجب الحكم بها عليه للمدعى بالحق المدني المذكور حسب القواعد المقررة في المواد المدنية والتجارية ” . وقد استند القضاء بوجه خاص إلى هذه المادة وقضى بإلزام المتهم بالتعويضات رغم الحكم ببراءته ( جنح المنصورة في 5 مايو سنة 1938 جريدة المحاكم المختلطة 4 يونية سنة 1938 واستئناف مختلط في 27 مارس سنة 1907 م 19 ص 187 ) ورغم تقادم الدعوى العمومية ( استئناف مختلط في 19 مايو سنة 1927 م 39 ص 488 ) ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 3 ص 425 – ص 427 ) .

 ( [9] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه يجب أن يكون للحكم الجنائي الصادر بالإدانة حجيته أمام المحاكم المدنية في الدعوى التي يكون أساسها ذات الفعل موضوع الدعوى التي صدر فيها ، وذلك منعاً من أن ييجئ الحكم المدني على خلاف الحكم الجنائي . فإنه ليس من المقبول في النظام الاجتماعي أن توقع المحكمة الجنائية العقاب على شخص من أجل جريمة وقعت منه ، ثم تأتي المحكمة المدنية فتقضى بأن الفعل المكون للجريمة لم يقع منه ، في حين أن الشارع قد أحاط الإجراءات أمام المحاكم الجنائية – لتعلقها بأرواح الناس وحرياتهم وأعراضهم – بضمانات اكفل بإظهار الحقيقة ، مما مقتضاه أن يكون الحكم متى صدر بالإدانة محل ثقة الناس كافة بصورة مطلقة لا يصح معها بأي حال إعادة النظر في موضوعه . واذن فإذا قضت المحكمة المدنية للمدعى بتثبيت ملكيته للأطيان المتنازع عليها ، وبنت قضاءها على رفض ما دفع به المدعى عليه الدعوى متمسكا بملكيته اياها استناداً على عقد بيع سبق الحكم جنائياً بإدانته في تهمة تزويره ، فإنها لا تكون قد خالفت القانون ( نقض مدني في 13 يناير سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 90 ص 245 ) .

وقضت محكمة النقض أيضاً بان الحكم الصادر في الدعوى الجنائية يجب أن تكون له حجية المحكوم فيه أمام المحكمة المدنية بالنسبة لما يقتضي الفصل في تلك الدعوى بيانه فيه حسب القانون متى كان مناط الدعوى المدنية ذات الفعل الذي تناوله هذا الحكم . وليست العلة في ذلك اتحاد الخصوصم والموضوع والسبب في الدعويين وأما هي في الواقع توافر الضمانات المختلفة التي قررها الشارع في الدعاوى الجنائية ابتغاء الوصول إلى الحقيقة لارتباطها بالأرواح والحريات – الأمر الذي تتأثر به مصلحة الجماعة لا مصلحة الأفراد ، مما يقتضي أن تكون الأحكام الجنائية محل ثقة على الإطلاق ، وأن تبقى آثارها نافذة على الدوام . وهذا يستلزم حتماً إلا تكون هذه الأحكام معرضة في أي وقت لإعادة النظر في الموضوع الذي صدرته فيه ، حتى لا يجبر ذلك إلى تخطئها من جانب أية جهة من جهات القضاء . وإذا كان تفادي التعارض على الوجه المتقدم هو العلة في تقرير حجية الحكم الجنائي في الدعوى المدنية المتعلق موضوعها به ، فإن جريمة الأقراض بالربا لا تختلف في هذا الصدد عن غيرها من الجرائم لتوافر هذه العلة فيها هي أيضاً – فالحكم الجنائي الصادر على المتهم في جريمة الاعتياد على الأقراض بفوائد ربوية يكون ملزما للقاضي المدني فيما أثبته خاصاً بسعر الفائدة التي حصل الأقراض بها ، لأن مقدار الفائدة عنصر أساسي في هذه الجريمة ، وإذا ابيح للقاضي المدني إعادة النظر فيه لجاز أن يؤدي ذلك إلى وجود التناقض فين الحكمين المدني والجنائي في أمر هو من مستلزمات الادانة . وكذلك يكون ملزماً له فيما أثبته عن وقائع الأقراض لتعلق هذه الوقائع أيضاً – مهما كان عددها – بالادانة ، إذ القانون لم ينص على عدد المرات التي تكون الاعتياد ، الأمر الذي يستوجب أن تكون التهمة التي حصل العقاب عليها متضمنة جميع الأفعال الداخله في الجريمة حتى وقت المحاكمة ( نقض مدني في 9 مايو سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 58 ص 192 – وتعليق الدكتور سليمان مرقص في مجلة القانون والاقتصاد 15 ص 196 – ص 198 ) .

وقضت كذلك بأنه إذا قضت المحكمة الجنائية ببراءة متهم بتزوير عقد ، نافية وقوع التزوير ، فهذا الحكم يحول بتاتا دون نظر دعوى تزوير هذا العقد التي يرفعها بصفة فرعية من كان مدعياً بالحق المدني في وجه المتمسك بالعقد الذي كان متهماً في الدعوى الجنائية ( نقض مدني في 12 يناير سنة 1939 مجموعة عمر 2 رقم 156 ص 466 ) .

 ( [10] ) وقد قضت محكمة النقض بان قرار الحفظ الذي تصدره النيابة العامة أياً كان سببه ، سواء لأنها قدرت أن وقوع الحادث لا يرد إلى خطأ مهما كانت صوره أو لأن نسبة الخطأ إلى شخص بعينه غير صحيح أو لم يقم عليه دليل كاف – هذا القرار لا يجوز قوة الأمر المقضي قبل المضرور بالحادث ، فلا يحول بينه وبين الدعوى المدنية يقيم فيها الدليل على الخطأ ونسبته إلى المدعى عليه فيها ( نقض مدني في 27 أكتوبر سنة 1949 الطعن رقم 34 سنة 18 قضائية ) .

 ( [11] ) وقد قضت محكمة النقض بأن الاحتجاج بالحكم الجنائي أمام القضاء المدني محله أن يكون الحكم الجنائي سابقاً على الحكم المدني لا لاحقاً له ، إذ بعد استقرار الحقوق بين الطرفين بحكم نهائي مدني لا يصح المساس بها بسبب حكم جنائي يصدر بعده . وعلى ذلك إذا فصل في نزاع من محكمة مدنية ، ثم أثير هذا النزاع أمام محكمة مدنية أخرى وأخذت هذه المحكمة بحكم المحكمة المدنية الأولى في حق من صدر بينهم الحكم ، فإنها لا تكون اخطأت في تطبيق القانون ، ولو كان قد صدر بين الحكمين حكم جنائي مخالف للحكم الأول ( نقض مدني في 6 مارس سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 166 ص 376 : كان الحكم الأول قد صدر نهائياً بين المشتري والبائع بصورية البيع بناء على ورقة ضد ادعى البائع صدورها من المشتري ، فادعى هذا تزويرها وقضى برفض دعواه . ثم لما قضت المحكمة الجنائية بإدانة المتهم بتزوير ورقة الضد ، طعن المشتري في حكم المحكمة المدنية بالتماس إعادة النظر بناء على صدور الحكم الجنائي ، ولكن المحكمة المدنية قضت برفض الالتماس . وبعد الحكم الجنائي – ولكن قبل الحكم في الالتماس – باع المشتري العقار إلى آخر ، ورفع المشتري الثاني بعد الحكم في الالتماس دعواه على البائع بملكية المبيع ، فقضى في هذه الدعوى المدنية الثانية برفضها بناء على الحكم الأول الصادر بصحة ورقة الضد ) .

وقضت محكمة النقض أيضاً بان محل التمسك بان المحكمة المدنية تكون مقيدة بما قضى به الحكم الجنائي هو أن يكون هذا الحكم صادراً قبل الفصل في الدعوى المدنية لا يعد ذلك . فإذا كان الحكم في الدعوى المدنية قد صدر قبل الحكم الجنائي فلا محل لذلك ، إذ لا يعقل أن ينعى حكم مخالفته حكما لم يكن قائماً وقت صدوره ( نقض مدني في 11 يناير سنة 1945 مجموعة عمر 4 رقم 183 ص 525 ) .

 ( [12] ) ويجوز للخصم الذي يتمسك بالحكم الجنائي ليقيد به القاضي المدني أن يقدم صورة منه ، بل يجوز للقاضي المدني من تلقاء نفسه أن يأمر بضم هذه الصورة حتى يعرف مدى الحكم الذي يجب عليه أن يتقيد به ، لأن هذا يعتبر من النظام العام ، للقاضي أن يراعيه ولو لم تصليه الخصوم .

 ( [13] ) فإذا صدر حكم واحد في الدعويين الجنائية والمدنية ، واستؤنف الحكم في شقه المدني دون الجنائي ، لم يجز أن يقال إن الحكم الجنائي قد أصبح نهائياً وقد سبق الحكم المدني ، فيجب أن يتقيد هذا بذاك . ذلك أن الاستئناف يعيد القضية في جميع نواحيها إلى ما كانت عليه في الحدود التي استؤنف فيها الحكم ، ويمنع الاستئناف من أن يصبح الحكم نهائياً ، حتى في الشق الذي لم يستأنف ، من حيث المصالح التي ظلت عن طريق الاستئناف باقية في الخصومة ( مازو 2 فقرة 1759 ) . فلمحكمة الاستئناف إذن أن تلغى الحكم بالتعويض لمصلحة المتهم الذي حكم القاضي الابتدائي بإدانته وأصبحت الإدانة نهائية بعدم استئنافها ، كما لها أن تحكم بالتعويض على المدعى عليه الذي حكم القاضي الابتدائي ببراءته وأصبحت البراءة نهائية بعدم استئنافها .

 ( [14] ) أنظر في أن الحكم الجنائي بالبراءة لا يمنع من المسئولية المدنية : نقض جنائي في 24 يونيه سنة 1908 المجموعة الرسمية 10 رقم 34 ص 81 – وفي 5 ديسمبر سنة 1914 الشرائع 2 رقم 109 ص 111 – وفي 25 ديسمبر سنة 1930 المحاماة 11 رقم 422 ص 819 – وفي 29 مارس سنة 1931 المحاماة 12 رقم 63 ص 109 – وفي 7 مايو سنة 1931 المحاماة 12 رقم 153 ص 285 .

 ( [15] ) حتى لو صدر عفو عن الجريمة أو عن العقوبة ، فإن العفو إنما يزيل الأثر الجنائي دون الأثر المدني .

 ( [16] ) لذلك لا يتقيد القاضي المدني بالحكم الجنائي الذي نفي الخطأ الجنائي وقضي بالبراءة ، إذ يجوز أن يكون هناك خطأ مدني دون أن يوجد خطأ جنائي ، وسيأتي ذكر ذلك .

 ( [17] ) وكذلك إذا قضى الحكم الجنائي بالإدانة وقال إن المتهم ارتكب الخطأ المنسوب إليه وإنه مسئول ، فلا يستطيع القاضي المدني أن يقول إنه لم يرتكب الخطأ أو إنه ارتكبه ولكنه غير مسئول عنه .

هذا وتختلف الحالة التي نحن يصددها عن حالة ما إذا رفعت الدعويان الجنائية والمدنية معاً أمام المحكمة الجنائية ، وقضى بالبراءة في الدعوى الجنائية ويرفض طلب التعويض في الدعوى المدنية ، واستؤنف الحكم المدني دون الحكم الجنائي . فقد قدمنا ( أنظر آنفاً فقرة 633 في الهامش ) أنه لا يجوز أن يقال إن الحكم الجنائي قد أصبح نهائياً وقد سبق الحكم المدني فيجب أن يتقيد هذا بذاك . فالحكم المدني في هذه الحالة قد يقضي بالتعويض مع قيام حكم البراءة . وقد قضت محكمة النقض في هذا المعنى بأنه إذا رفع المدعى المدني دعواه مباشرة ضد المتهم لقذفه إياه علنا ، طالباً عقابه والحكم عليه بتعويض ، ثم قضت المحكمة ببراءة المتهم ورفض دعوى التعويض ، فاستأنف المدعى ولم تستأنف النيابة ، فأيد الحكم استئنافياً ، فطعن بطريق النقض ، فنقض الحكم ، ثم أعيدت المحاكمة ، فقضى على المتهم بالتعويض عملا بالمادتين 150 و 151 من القانون المدني ( القديم ) ، فلا يصح على المتهم أن ينعي على المحكمة أنها في حكمها قد تعرضت لإثبات واقعة القذف ولا أنها أقامت التعويض على تينك المادتين المذكورتين ، وذلك ( أولاً ) لأن المحكمة لها بل عليها أن تتعرض لإثبات تلك الواقعة ما دامت تفصل في طلب التعويض عن الضرر المدعى حصوله منها ، ولا يمكن أن يحول دون ذلك عدم إمكان الحكم لأي سبب من الأسباب بالعقوبة على المتهم ما دامت الدعويان لمدنية والجنائية كانتا مرفوعتين معاً أمام المحكمة الجنائية ، وما دام المدعى بالحق المدني قد استمر في السير في دعواه المدنية ، مما لا يصح معه القول بأن الحكم في الدعوى الجنائية بسبب عدم الطعن فيه من النيابة العمومية قد حاز قوة الشيء المحكوم فيه بالنسبة إليه ، ( وثانيا ) لأن أساس التعويض عن كل فعل ضار هو المادتان 150 و 151 مدني ( قديم ) ولو كان الفعل الضار يكون جريمة بمقتضى قانون العقوبات ( نقض جنائي في 16 ابريل سنة 1945 المحاماة 27 رقم 213 ص 516 ) .

 ( [18] ) وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا اتهم شخص بأنه أجرى إنشاء سور خشبي خارج عن خط التنظيم وداخل في الملك العام ، وقضت المحكمة ببراءتها قائلة إنه لم يثبت لها من محضر المخالفة ولا من جواب البلدية أن الأرض موضوع المخالفة قد صار نزع ملكيتها فعلا حتى يمكن أن تعتبر من المنافع العامة وأن المتهم قدم صورة عقد ملكية مسجل الخ ، وأنه إذا كان الركن الأساسي للجريمة في تلك المخالفة هو كون السور خارجاً عن خط التنظيم وداخلا في الملك العام ، ولم يثبت للمحكمة أن الأرض التي أقيم فيها السور من المنافع العامة فيكون ركن الجريمة هذا غير متحقق ويتعين إذن تبرئة المتهم من المخالفة دون حاجة إلى الفصل في مسألة ملكية شخص معين بالذات لتلك الأرض – إذا كان ذلك كذلك فإن كل ما يفيده حكم البراءة هذا ويصح الاحتجاج به في صدده إنما هو أن الأرض موضوع النزاع لم تكن في يوم المخالفة من المنافع العامة . وإذن فإذا ما طرح النزاع في شأن ملكية هذه الأرض بعد ذلك على المحكمة المدنية ، وحكمت بالملكية لغير المخالف المحكوم ببراءته ، فإنه لا يمكن القول بأن حكمها هذا يكون مناقضاً لحكم البراءة في المخالفة ( نقض مدني في 28 ديسمبر سنة 1944 مجموعة عمر 4 رقم 18 ص 513 ) .

نقلا عن محامي أردني

اذا كان لديك ملاحظة اكتبها هنا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s