لا ضرورة لأن يكون الإثراء قائماً وقت رفع الدعوى
781 – القانون المدني الجديد : نص القانون المدني الجديد صراحة في المادة 179 على أن التزام المثري يبقى قائماً ولو زال الإثراء فيما بعد . ومعنى ذلك أن العبرة بحصول الإثراء . فمتى حصل وجد الالتزام في ذمة المثرى ، وليس من الضروري بعد ذلك أن يبقى الإثراء قائماً إلى وقت رفع الدعوى .
782 – الرأي المعارض : والرأي السائد في فرنسا ( [1] ) هو الرأي المعارض . إذ يشترط هناك كما كان يشترط في مصر ( [2] ) قبل صدور القانون المدني الجديد – أن يكون الإثراء قائماً وقت رفع الدعوى . وقد جاء في ” الموجز ” ( [3] ) في هذا الصدد ما يأتي : ” والنذر الذي أثرى به المدين يجب أن يكون قائماً وقت رفع الدعوى عليه من الدائن . وينبني على ذلك أنه لو قام الدائن بترميمات في منزل للمدين ، ثم احترق المنزل قبل أن يرفع الدائن الدعوى ، فإنه لا يرجع بشيء على المدين . ولكن إذا احترق المنزل بعد رفع الدعوى وقبل صدور الحكم ، فلا يؤثر هذا في حق الدائن ، فإن الحكم يستند إلى يوم رفع الدعوى . على أن الإثراء يعتبر قائماً ولو كان ناشئاً عن خدمات أداها الدائن للمدين وانتهت هذه الخدمات قبل رفع الدعوى ، إلا إذا كانت هذه الخدمات قد أنشأت فائدة مادية كانت قائمة ثم هلكت قبل التقاضي ” .
وهذا الحكم الغريب – وهو البقية الباقية من مخلفات الماضي وقت أن كانت دعوى الإثراء ترسف في الإغلال والقيود – يقيمه أنصاره على الأسانيد الآتية ( [4] ) :
( 1 ) أن الغرض من دعوى الإثراء هو إعادة التوازن الذي اختل بين ذمتين ماليتين ، إحداهما أثرت بسبب افتقار الأخرى ، فالوقت الذي يعتبر فيه اختلال التوازن هو الوقت الذي تطلب فيه إعادته ، أي وقت رفع الدعوى .
( 2 ) اشتراط قيام الإثراء وقت رفع الدعوى هو الذي يميز دعوى الإثراء عن دعوى الفضالة . ففي الفضالة لا يشترط قيام الإثراء وقت رفع الدعوى ، لأن الفضولي وهو يولى جميلا لرب العمل أولى بالرعاية من المفتقر .
( 3 ) أن الإثراء ، يماثل الضرر في المسئولية التقصيرية ، وكلاهما يقدر وقت رفع الدعوى .
( 4 ) أن جميع التقنينات الحديثة تقدر الإثراء وقت رفع الدعوى ( [5] ) .
783 – الرأي الصحيح : والرأي الصحيح في نظرنا هو الرأي الذي أخذ به القانون المدني الجديد من أن العبرة في تقدير الإثراء بوقت حصوله لا بوقت رفع الدعوى . وما دمنا نريد أن نحرر قاعدة الإثراء من القيود التي اثقلتها في الماضي ، فالواجب أن نتحاكم في هذه المسألة ، لا إلى تقاليد القاعدة ، بل إلى المنطق القانوني السليم . وقد قدمنا أن مصدر التزام المثري هو واقعة الإثراء ، ولما كان الالتزام يوجد بوجود مصدره ، فالتزام المثري بالتعويض يوجد بمجرد أن تتحقق واقعة الإثراء . فمنذ أثرى المثري أصبح ملتزماً . ومتى تعين وقت قيام الالتزام تعين كذلك محل الالتزام ، إذ الالتزام لا يقوم إلا بقيام محله . فيتعين إذن محل الالتزام – وقيمة الإثراء أحد عنصريه – وقت تحقق الإثراء . ويتبين من ذلك في وضوح أن قيمة الإثراء إنما تقدر وقت تحقق الإثراء لا وقت رفع الدعوى .
هذا هو المنطق القانوني السليم . وهو عين المنطق الذي نراه في جميع المصادر الأخرى للالتزام . فالالتزام الناشيء من العقد يتعين محله وقت تمام العقد . والالتزام الناشيء من العمل غير المشروع يتعين محله وقت وقوع الضرر على تفصيل سنعود إليه فيما يلي . والالتزام الناشيء من القانون يتعين محله وقت قيام الواقعة القانونية التي يرتب القانون عليها الالتزام ، جواراً كانت أو قرابة أو غير ذلك . فإذا كانت مصادر الالتزام جميعاً إذا قامت يتعين بقيامها محل الالتزام ، فلماذا تستثني من هذا المبدأ المنطقي العادل مصدراً واحداً هو مصدر الإثراء بلا سبب ، ونستبقى لهذا المصدر وحده بقية من بقايا الشذوذ التي اشتهر بها في الماضي ! إن القانون المدني الجديد عندما قرر أن الإثراء بلا سبب هو كغيره من المصادر إذا قام يتعين بقيامه محل الالتزام ، وأن العبرة في تقدير قيمة الإثراء تكون بوقت تحقق الإثراء ، قد أعاد هذا المصدر إلى حظيرة القواعد العامة ، وجعله نظيراً لغيره من المصادر الأخرى ، وفك عنه آخر غل كان به مشدود الوثاق .
784 – نقض الرأي المعارض : أما الحجج التي يستند إليها الرأي المعارض فمن الميسور نقضها :
( ا ) فأما أن دعوى الإثراء يقصد بها إعادة التوازن الذي اختل بين ذمتين ماليتين ، فهذا صحيح . ولكن إلى أي وقت تكون إعادة التوازن ؟ إن قيل إن إعادة التوازن واجبة إلى يوم رفع الدعوى لأن الاختلال يكون قائماً وقت ذلك ، فإن هذا المنطق يجر القائل به إلى مدى أبعد . وما دامت العبرة بقيام الاختلال ، فما أولى انصار الرأي المعارض أن ينتقلوات من وقت رفع الدعوى إلى وقت النطق بالحكم ، ففي هذا الوقت وحده يستطيع القاضي أن يحكم باصلاح آخر اثر للاختلال في مكنته أن يصلحه ! وقد أبى الأستاذ ديموج ، وهو من انصار الرأي المعارض ، إلا أن يسير في منطقه إلى نهاية الشوط ، فيقول بوجوب إصلاح الاختلال إلى وقت النطق بالحكم ( [6] ) . ولكن مقتضيات الصياغة القانونية تأبى إلا استقرار التعامل . فمن بين الأوقات الثلاثة التي تتنازع المسألة التي نحن بصددها ، وقت وقوع الاختلال في التوازن ووقت رفع الدعوى ووقت النطق بالحكم ، لا يوجد إلا وقت واحد هو المستقر الثابت ، لا يدخل في تحديده التحكم ، ولا يتعين تبعاً للمصادفات ، وهو فوق هذا كله الوقت الذي يقوم فيه الالتزام . وذلك هو وقت وقوع الاختلال في التوازن ، أي وقت تحقق الإثراء فالواجب إذن الوقوف عند هذا الوقت وحده لتقدير قيمة الإثراء .
( 2 ) وأما أن اشتراط قيام الإثراء وقت رفع الدعوى هو الذي يميز دعوى الإثراء من دعوى الفضالة ، فهذه حجة بادية الوهن . فالتمييز بين الدعويين لا يزال قائماً حتى بعد اختفاء هذا المميز . ولا يزال هناك فارق جوهري بين دعوى الفضالة التي تجعل للفضولي الحق في استرداد جميع مصروفاته الضرورية والنافعة ، ودعوى الإثراء التي لا تجعل للمفتقر إلا أقل القيمتين من الإثراء والافتقار . بل إن هذا الفارق الجوهري هو الذي يستجيب لمهمة كل من الدعويين ، فإن الفضولي يوفي جميلا فكان له أن يسترد جميع مصروفاته الضرورية والنافعة ، أما المفتقر فليست عنده هذه النية ولذلك لا يسترد إلا أقل القيمتين .
( 3 ) وأما أن الإثراء يماثل الضرر في المسئولية التقصيرية ، كلاهما يقدر وقت رفع الدعوى ، فهذه مماثلة خاطئة وحكم غير صحيح . وإنما يماثل الضرر في المسئولية التقصيرية الافتقار لا الإثراء . وسنرى أن الافتقار كالضرر يقدر يوم النطق بالحكم إذا كان متغيراً ، لا يوم رفع الدعوى .
( 4 ) وأما أن جميع التقنينات الحديثة تقدر الإثراء وقت رفع الدعوى ، فهذه التقنينات إذا كانت لاتينية فلا دلالة لها ، لأنها إنما تسير في قاعدة الإثراء وفقاً لتقاليدها الضيقة . وإذا كانت جرمانية فدلالتها أقل ، وقد رأينا أن القوانين الجرمانية تذهب في تضييق قاعدة الإثراء بلا سبب إلى مدى أبعد من المدى الذي تذهب إليه القوانين اللاتينية . فهي تأبى أن يكون الإثراء غير مباشر ، ولا تقر الإثراء المعنوي بل تشترط أن يكون ذا قيمة مادية . فكل هذه التقنينات من لاتينية وجرمانية وقفت بالقاعدة عند تقاليدها القديمة ، وجمدت عن أن تسير بها في طريق التطور ( [7] ) . على أن هناك تقنين سجلا للقاعدة هذا التطور الأخير ، فنصا صراحة على جواز أن يكون الإثراء قد زال وقت رفع الدعوى ، وهما التقنين النمساوى ( [8] ) والتقنين الارجنتيني ( [9] ) فهل يعيب القانون المصري الجديد أن يكون قد سار بالقاعدة إلى هذا المدى الواجب في التطور ( [10] ) .
ويتبين مما قدمناه أن الإثراء تقدر قيمته وقت تحققه . وهذا هو الوضع الصحيح للمسألة ، فما دام الإثراء منذ تحققه دخل في ذمة المثرى وأصبح ملكاً له ، فهو الذي يتحمل تبعته من هذا الوقت . إن زاد بعد ذلك فله الغنم ، وإن نقص أو زال فعليه الغرم . بهذا تقضي المبادئ الصحيحة ، وهذا ما يفرضه المنطق القانوني ( [11] ) .
* * *
وبعد فقد رأينا أن دعوى الإثراء تحررت في القانون المدني الجديد من آخر ما كان يغلها من قيود . وهي بعد هذا التحرر قد تركت لمصيرها . فهل يكون هذا المصير هو مصير المسئولية التقصيرية ، إذ كانت في القديم محصورة في نطاق ضيق ، ثم أطلقت من قيودها ، فتطورت واتسعت حتى أصبحت قاعدة عامة تنبسط على جميع نواحي القانون ( [12] ) ؟
إن دعوى الإثراء في حاجة إلى مثل هذا التطور ، إذ لا تزال هناك حالات خاصة تقوم إلى جانب القاعدة العامة في الإثراء ، كحالات الالتصاق وحالات المصروفات الضرورية والنافعة ، وتبقى هذه الحالات في نطاقها الخاص ، وتبقى بجانبها دعوى الإثراء فيما يجاوز هذا النطاق . كل هذا حتى يأتي اليوم الذي تتقلص فيه هذه الحالات الخاصة ، فتبتلعها القاعدة العامة في الإثراء ، كما ابتلعت القاعدة العامة في المسئولية التقصيرية الحالات الخاصة في الجنح المدنية .
هذه هي سياسة القانون المدني الجديد : أن تبرز قاعدة الإثراء إلى جانب قاعدة الخطأ وإلى جانب قاعدة العقد ، فتصبح مثلهما مصدراً مستقلا للالتزام .
( [1] ) لوران 20 فقرة 340 – أوبرى ورو طبعة خامسة ص 362 – بودري وبارد 4 فقرة 2849 ( 26 ) – بلانبول وريبير وإسمان 7 ص 50 – جوسران 2 ص 280 ( 1 ) – محكمة ليون الاستئنافية 11 يناير سنة 1906 داللوز 1906 – 2 – 132 – محكمة باريس الاستئنافية 27 يولية سنة 1928 سيريه 1930 – 2 – 73 – محكمة فينا الابتدائية 4 يناير سنة 1923 داللوز 1923 – 2 – 153 – وقارن ديموج 3 فقرة ص 281 .
( [2] ) دي هانس 2 ص 299 – والتون 2 ص 190 – الموجز للمؤلف ص 387 – ص 288 – مارافان ص 75 – ص 83 . ومع ذلك قارن حشمت أبو ستيت فقرة 535 وفقرة 541 وفقرة 549 .
وقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن دعوى الإثراء تفترض أن مال المدعى عليه قد زاد وقت رفع الدعوى بسبب ما قدمه له المدعى . فلا تقوم هذه الدعوى في جميع الحالات آلت ييرى فيها المدعى عليه أن هذه الزيادة في مله قد زالت ، حتى لو كان زوالها قد وقع بسبب ما أنفقه منها ، إلا إذا كان الانفاق لضرورة من ضرورات المعاش بحيث يكون من المحقق أن مال المدعى عليه كان ينقص بالانفاق لهذا السبب لولا الزيادة التي أحدثها المدعى ( استئناف مختلط في 28 مايو سنة 1931 م 43 ص 417 – انظر أيضاً استئناف مختلط في 13 فبراير سنة 1895 م 7 ص 122 – محكمة المنصورة الجزئية المختلطة في 12 أغسطس سنة 1925 جازيت 15 رقم 199 ص 313 – محكمة أشمون الجزئية في 26 أكتوبر سنة 1935 المجموعة الرسمية 18 رقم 50 ص 195 ) .
( [4] ) ننقل هذه الاسانيد عن مارافان بنوع خاص ، فهو من أنصار هذا الحكم ومن أكثرهم تحمساً له ( انظر مارافان مجلة مصر العصرية سنة 1949 ص 75 – ص 83 ) .
( [5] ) هذه هي الأسانيد الرئيسية . ويضاف إليها عادة حجج أخرى ثانوية منها :
” 1 ” أن الإثراء دخل في مال المثرى دون إدارته ، بل دون علمه في بعض الأحيان ، فكيف يجوز عدالة أن يرد المثري هذا الإثراء إذا لم يبق منه اثر وقت رفع الدعوى ؟
” 2 ” يقع كثيرا أن يكون المفتقر هو السبب في إفقار نفسه ، فواجبه أن يعجل في رفع الدعوى قبل أن يزول الإثراء ( ألموزنينو ص 75 ) .
” 3 ” اشتراط قيام الإثراء وقت رفع الدعوى يؤدى إلى نتائج عادلة في الفروض الآتية : 1 9 إذا أشتمل الإثراء على سندات استهلكت وقت رفع الدعوى فمن العدل أن نرد قيمتها الاسمية – وهي القيمة وقت رفع الدعوى – لا قيمتها الفعلية – وهي القيمة وقت الإثراء ، إذ قد تكون القيمة الأولى أقل بكثير من القيمة الثانية . ب ) إذا أشتمل الإثراء على عين باعها المثري أو وهبها ، فمن العدل أن يرد الثمن في حالة البيع أو لا يرد شيئاً في حالة الهبة – وهذه هي قيمة الإثراء وقت رفع الدعوى . أما إذا رد قيمة الإثراء وقت حصوله فيجب أن يرد قيمة العين في حالتي البيع والهبة . ج 9 إذا كان الإثراء لم يتحقق ، كما إذا أقام مستأجر بناء في العين المؤجرة ستؤول ملكيته إلى المؤجر عند نهاية الإيجار ، فمن العدل ألا يرجع المقاول بدعوى الإثراء على المؤجر قبل نهاية الإبحار لأن الإثراء غير موجود وقت رفع الدعوى . وسنتولى الرد على هذه الحجج عند الرد على الأسانيد الرئيسية .
( [6] ) ديموج 3 فقرة 170 ص 281 .
( [7] ) على أن بعض هذه التقنينات ينص صراحة على وجوب رد الإثراء مقدرا وقت تحققه ( لا وقت رفع الدعوى ) إذا كان المثري سيء النية ( م 127 من التقنين البولوني وم 142 من التقنين اللبناني وم 182 من التقنين الصيني وم 400 من التقنين السوفيتي ) . وغنى عن البيان أن المثري حسن النية لا يقل الترامه ، في منطق قاعدة الإثراء بلا سبب ، عن التزام المثري سيء النية ، إذ أن سوء النية أو حسنها لا دخل له لا في ترتيب الالتزام ولا في تحديد مداه .
( [8] ) ينص التقنين النمساوي – وهو في صدد التمييز صراحة ما بين الفضالة والإثراء بلا سبب ، أي أنه لا يخلط بينهما كما ذهب إلى ذلك الأستاذ مارافان ( ص 82 ) – على أن تقدير الإثراء يكون وقت تحققه حتى لو زال بعد ذلك ، فيقول في المادة 1041 : ” استئناف أهلي استعمل شيء لمنفعة الغير ، من غير أن تكون هناك فضالة ، فلصاحب الشيء أن يسترده عيناً ، فإذا أصبح ذلك غير ممكن استرد القيمة التي كانت له وقت الاستعمال حتى لو زال الإثراء بعد ذلك ” .
( [9] ) ينصر التقنين الأرجنتيني في المادة 2343 على ما يأتي : ” النقود التي تكون أنفقت فزادت في قيمة شيء يملكه الغير ، أو ترتب على إنفاقها نفع للغير أو تحسين في ملكه ، يعتبر إنفاقها أمراً نافعاً ، حتى لو زال الإثراء فيما بعد ” .
( [10] ) أما الحجج الأخرى الثانوية فهي أيضاً غير مقنعة :
1 – فأما أن الإثراء قد دخل في ملك المثري دون إدارته ، بل ودون علمه في بعض الأحيان ، فلا يجوز أن يرد المثري هذا الإثراء إذا لم يبق له اثر وقت رفع الدعوى ، فهذه حجة مقدمتها لا صلة لها بنتيجتها . ذلك أن التزام المثري بالرد لا ينشأ من إدارته ، بل ينشا من واقعة مادية هي واقعة الإثراء ، فمتى تحققت هذه الواقعة قام الالتزام وتعين محله في الوقت الذي نشا فيه . والالتزام هنا كما نرى مستقل عن إرادة المثرى ولا صلة له بها حتى يصح أن يترتب على انتفاء إدارته أن اثر في مدى التزامه . ثم ما عسى أن يقول أصحاب هذه الحجة في الأحوال التي يتحقق فيها الإثراء فإرادة المثري وهي أحوال كثيرة ؟ أتراهم يفرقون بين حالة وحالة !
2 – وأما أن المفتقر هو السبب في إفقار نفسه فوجب عليه أن يعجل في رفع الدعوى قبل أن يزول الإثراء نف هذه حجة غريبة ، إذ هي لا تقوم على أساس قانوني ، ولا هي تشمل كل حالات الإثراء ، فكثيراً ما يقع أن يكون المثري هو السبب في إثراء نفسه على حساب المفتقر . والسبيل القانوني لدفع المفتقر إلى تعجيل دعواه هو تقصير مدة التقادم ، وهذا ما فعله القانون الجديد .
3 – وأما أن اشتراط قيام الإثراء وقت رفع الدعوى يؤدي إلى نتائج عادلة ، فهذه الحجة أيضاً لا تقوم على أساس . والفروض التي سبقت في هذا الصدد هي ذاتها التي تدل على ذلك : ( 1 ) فإن الإثراء إذا أشتمل على سندات استهلكت وقت رفع الدعوى يؤدي إلى نتائج عادلة ، فهذه الحجة أيضاً لا تقوم على أساس . والفروض التي سيقت في هذا الصدد هي ذاتها التي تدل على ذلك : ( ا ) فإن الإثراء إذا أشتمل على سندات استهلكت وقت رفع الدعوى فليس من المقطوع فيه أن العدل يقضي برد قيمتها الاسمية – وهي القيمة وقت رفع الدعوى – دون قيمتها الفعلية – وهي القيمة وقت الإثراء . فلو أن القيمة الأولى زادت على القيمة الثانية لبان للقائلين بهذه الحجة أن العدل على خلاف ما يقولون . على أن المنطق القانوني يقضي بأن السندات المستهلكة – وقد أصبحت ملكا للمثري من وقت تحقق الإثراء – تدخل في ذمة المثري ويلتزم برد قيمتها الفعلية ، ثم هو الذي يتحمل تبعتها بعد ذلك ، ارتفعت قيمتها الفعلية أو انخفضت . ( ب ) وإذا أشتمل الإثراء على عين باعها المثري أو وهبها فليس من العدل أن يرد قيمتها وقت رفع الدعوى فلا يرد شيئاً في حالة الهبة ( وقد قدمنا أن المفتقر في هذه الحالة لا يستطيع أيضاً الرجوع على الموهوب له ) ، بل العدل يقضي بأن يرد قيمتها وقت تحقق الإثراء فيرد هذه القيمة في حالة الهبة ، ويرد هذه القيمة أيضاً دون الثمن في حالة البيع ، وما دام قد أصبح مالكا للعين فهو الذي يتحمل تبعتها ، زادت القيمة أو انخفضت أو انعدمت . ( ج ) وإذا أقام المستأجر بناء في العين المؤجرة فإن المقاولا لا يرجع بدعوى الإثراء على المؤجر قبل نهاية الإيجار ، لا لأن قيمة الإثراء تقدر وقت رفع الدعوى كما يزعم انصار الرأي المعارض ، بل لأن الإثراء قبل نهاية لإيجار لم يتحقق ، إذ أن المؤجر لا يتملك البناء إلا عند نهاية الإيجار .
وللمزيد تعرف على كيفية توكيل محامي
على أن الرأي المعارض هو ذاته الذي يؤدي إلى نتائج غير مستساغة . من ذلك : ( ا ) إذا كان الإثراء عملا قد تم أو منفعة قد استهلكت ، فمنطق الرأي المعارض يقضي بألا محل للرجوع بدعوى الإثراء ما دام الإثراء قد انعدم وقت رفع الدعوى . ولم يتشبث أصحاب الرأي للعارض برأيهم هنا ، ولم يسعهم إلا أن يرجعوا عنه إلى الرأي الآخر ( انظر مارافان ص 77 – بلانتول وريبير وإسمان 7 ص 50 – ديموج 3 فقرة 171 ) . ( ب ) إذا وفي شخص دين غيره ، فترك الدائن الذي استوفى حقه دعواه تسقط بالتقادم . فإذا أخذنا هنا بالرأي المعارض لم يجز لمن وفي بالدين أن يرجع على المدين الحقيقي بدعوى الإثراء لأن الإثراء قد زال وقت رفع الدعوى بتقادم الدين . ولما كان هذا الحل غير مستساغ فقد جرى النص على خلافه ( انظر المادة 184 من القانون المدني الجديد – وأنظر أيضاً المادة 148 / 209 من القانون المدني القديم والمادة 1377 من القانون الفرنسي ) . ( ج ) على أن الرأي المعارض ليس دائماً في صالح المثري ، بل قد ينقلب حربا عليه إذا كان الإثراء قد زاد وقت رفع الدعوى ، بدلا من أن يزول أو ينقص ، ولم يجاوز مع هذه الزيادة قيمة الافتقار .
انظر الدكتور حشمت أبو ستيت فقرة 540 ص 394 ، وهو اميل إلى الأخذ بالرأي الذي سار عليه القانون المدني الجديد .
( [11] ) ولما كان القضاء والفقه في ظل القانون المدني القديم قد جربا على أن تقدير الإثراء يكون وقت رفع الدعوى لا وقت تحقق الإثراء ، فإن القانون المدني الجديد – وقد أتى بحكم مخالف – لا يكون له أثر رجعي في هذه الحالة . فلو أن الآثراؤ هو زيادة في منزل المثري بفعل المفتقر ، وتحقق هذا الإثراء قبل 15 أكتوبر سنة 1949 أي قبل نفاذ القانون الجديد ، واحترق المنزل بعد هذا التاريخ ، فإن المفتقر لا يرجع بشيء على المثري تطبيقاً للقانون القديم .
( [12] ) انظر ريبير في القاعدة الحق؟؟؟ ص 90 – ص 91 .
نقلا عن محامي أردني